أثر «دار العلوم» التعليمي والثقافي في عيون أميركية



الغرب غرب؛ والشرق شرق؛ فمتى يلتقيان معرفياً وبحثياً؟! فور قراءتي لأطروحة الباحثة الأميركية الجادة لويس أرمينيه أرويان بعنوان «التعليم واللغة والثقافة في مصر الحديثة 1872- 1923م ودور دار العلوم في تحديثها»؛ صدحتُ بهذه العبارة أملاً في الارتقاء بمستوى البحث العلمي العربي؛ الذي أصابته أمراض الضعف والاهتراء والاستسهال في النصف قرن الأخير! وهي أطروحة قام على تعريبها وتقديمها والتعليق عليها الطاهر أحمد مكي (1924-2017م) وصدرت أخيراً عن صحيفة دار العلوم الفصلية المُحَكَّمة في مصر في 350 صفحة من القطع الكبير، وهي موشّاة بالملاحق والخرائط. تلك الأطروحة التي ناقشتها الباحثة في رحاب جامعة ميتشيغان في عام 1978م. عندئذٍ؛ أدركت لماذا كانت الإجادة، والإتقان، والإخلاص في العمل؛ هي أبرز سمات الباحثين الغربيين؛ فمن أجل بلوغ الحقيقة؛ يتكبدون المشاق.

يقول مكي في تقديمه للكتاب: «في مطلع العقد الثامن من القرن الماضي؛ هبطت القاهرة باحثة أميركية؛ هي الآنسة لويس أرمينيه أرويان تبحث عن مادة لرسالتها للدكتوراه عن: التعليم واللغة والثقافة في مصر الحديثة، ودور دار العلوم وخِرِّيجيها في تحديثها.

جاءت حيث توجد دار العلوم فعلاً؛ ولتدرس القضية على أرض الواقع؛ فما تقدّمه المصادر والمراجع والكُتُب والوثائق؛ يصبح أكثر دقة، وأبعد عمقاً؛ إذا رأيته بعينك، وعايشته بنفسك. وذهبتْ أرويان إلى أبعد مدىً في هذا الجانب؛ فجاءت القاهرة بنفسها، وأقامت فيها ما اقتضاه البحث، واتصلت بكل مَن له صلة بدار العلوم: أستاذاً أو مُتخرِّجاً، ويعمل في المجال التربوي، أو الثقافي، وبعائلات هؤلاء؛ ممَّن فارقوا الحياة، وكانوا أصحاب فكرٍ فذ، ومذاهب إيجابية، واتجاهات فرضت نفسها على الزمن، وتركوا وراءهم بصماتٍ واضحةً في الحياة المصرية، وتعترف بأنهم أعطوها الكثير من الأسرار، ولكنها لم تُضَمِّن بحثها- المنشور على الأقل- كل ما قالوه لها، وكل ما عرفت؛ استجابةً لرغبتهم، أو لرغبة عائلاتهم من بعدهم؛ فقد جاءت مصر؛ وخِرِّيجو دار العلوم يعانون الكثير من الاضطهاد السياسي، والملاحقة الفكرية؛ ولكنَّ القليل الذي باحت به؛ يفتح الباب واسعاً أمام المؤرخ الحر، والباحث الموضوعي الصادق؛ إذا ما قُدِّرَ لمصر يوماً؛ أن تعود إليها حرية القول، والفكر، والرأي مثلاً»!

وبحسب مكي؛ ألمحت الباحثة إلى «الدور السياسي الوطني الذي قام به الدرعميون بعامةٍ، وفي ثورة سنة 1919م بخاصةٍ، من دون أن تستقصي ذلك؛ وكان أستاذنا الدكتور محمد مهدي علاّم؛ حرَّر معظم نشرات ثورة 1919م؛ بقلمه وأسلوبه، وكان أستاذنا الدكتور إبراهيم سلامة مِن خُطبائها، وكان عبد الرحيم أحمد؛ الذي أصبح ناظر دار العلوم بعد أمين سامي باشا؛ همزةَ الوصل الخفية بين الخِديوِي عباس حلمي، والزعيم مصطفى كامل؛ لأنه كان أستاذ اللغة العربية للخديوي عباس، حين كان ولياً للعهد، ويقيم في سويسرا، وتوثَّقتْ الصلة بينهما على الصعيد الشخصي؛ فلمّا رجع الخديوي إلى مصر؛ عاد الأستاذ أيضاً، وظل على صلةٍ بتلميذه، وهو خديوِي، وكان رسوله السري إلى الزعيم الوطني في نقل الأخبار بينهما، من دون أن يعرف أحد، وغير ذلك كثيرٌ يحتاج إلى دراسةٍ ومتابعةٍ».

ويعرض المترجم لِما امتازت به هذه الرسالة من سمات الإجادة والابتكار؛ فيقول: «وراء ترجمة هذه الرسالة إلى العربية أهداف عدة؛ كلها علمية ضرورية: أولها؛ تقديم نموذج جيِّد لرسالةٍ جامعيةٍ في جامعةٍ أميركيةٍ شهيرةٍ، مِن طالبةٍ أميركيةٍ جادةٍ، تُوَضِّح على نحوٍ علميٍّ؛ طريقة البحث المتبعة فيها: منهجاً ومصادرَ وتوثيقاً وحِياداً وموضوعيةً؛ ومن ثم تُنير الطريق، وتُوَسِّع آفاق البحث أمام طلاب الدراسات العليا عندنا .. وعرضتْ في إيجازٍ أحياناً لقضايا جانبيةٍ؛ فلو لم تُشِرْ إليها؛ فربما ما تناولها أحدٌ غيرها؛ فقد ألقتْ ضوءاً كاشفاً على أسباب صدور كتاب «تقويم دار العلوم»، وهي: أن نية محمد عبد الجواد بدءاً؛ كانت أن يُصدِرَ كتاباً حولياً عن خِرِّيجي دار العلوم، وعلى مَن يريد أن يُضَمِّنه سيرته؛ أنْ يدفع مُقابِلاً مالياً؛ إسهاماً منه في نفقات الإصدار، وهذا يعني؛ أنَّ هؤلاء الذين قدَّم سيرتهم؛ ليسوا بالضرورة أفضل النماذج، ولا أعظم المُتخرِّجين أهميةً؛ إلى جانب؛ أن المعلومات التي قدَّمها عنهم؛ لا تلتزم منهجاً معيناً واضحاً؛ وإنما تعتمد على ميول أصحابها الشخصية، ولم يصدر حولياً؛ كما فكَّر فيه بدءاً، وإنما صدر بمناسبة احتفال دار العلوم بعيدها الماسي (مرور 75عاماً على إنشائها)؛ ومِن ثم؛ فرغم أنه مصدرٌ مهمٌ للبدء في دراسة الخِرِّيجين؛ لكنه ليس صاحب القول الفصل في مَن وجدتْ لهم الباحثة مصادر أخرى تتناولهم، وضربتْ المثل بعبد العزيز جاويش، وحظيتْ سيرته بمعلوماتٍ وافرةٍ، واهتمامٍ من جانبها، لا تتوفَّر له في أي مصدرٍ آخر غير رسالتها، وتصفه بأنه كان مُقاوِماً شرساً للاحتلال البريطاني... وتُلقي شيئاً من الضوء على شخصياتٍ درعميةٍ؛ قامت بدورٍ باهرٍ في التعليم والتأليف في شتى المعارف والمواد المتصلة بالتربية؛ نسيهم أحفادهم، ولم يعد يأتي على ذكرهم أحد!فكَم تمنَّيتُ؛ لو أنَّ تاريخنا الأدبي، بخاصةً في دار العلوم نفسها؛ أعطاهم شيئاً من النصفة والتقدير! فمَن يذكر الآن؛ محمود الباجوري الدرعمي مدرِّس الفقه الحنفي في مدرسة المهندسخانة، وفي قلم الترجمة، وعضو الوفد المصري إلى مؤتمر المستشرقين في استكهولم عام 1891م، وصاحب بحث (أمثال المتكلمين من عوامّ المصريين)، ويضم نحو ثلاثة آلاف مَثَلٍ مشروحةٍ؛ بما يناسبها من أمثال العرب، وآيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، والحِكَم، والأشعار، والمواويل العاميّة، وهو صاحب كتاب(الدُّرَر البهية في الرحلة الأوروباوية) وهو في وصف البلدان التي مرَّ بها، وألمَّ بشيء من تاريخها».

ويقف الطاهر مكي عند الفترة الزمنية التي تناولتها الباحثة في دراستها؛ فيتساءل: لماذا إذن؛ وقفت أوريان ببحثها عند سنة 1923م؟

ويجيب بقوله: لأنها نقطة فارقة- فيما أرى- بين مرحلتين: المرحلة الأولى؛ كانت فيها مصر تحت الحماية البريطانية دولياً، والحُكم الإنجليزي المباشر عملياً.

أما بعد هذا التاريخ؛ فكانت مصر تُحكَم طبقاً لتصريح 28 فبراير سنة 1923م، وصدر من جانب بريطانيا، وخلاصته تقول: «إن بريطانيا تعترف بأن مصر دولة ذات سيادة» وأعلنتْ إلغاء الحماية البريطانية على مصر. وكان ذلك نصراً لثورة سنة 1919م نظرياً، ومن الوجهة القانونية على الأقل، أمّا من الوجهة العملية؛ فظل الاحتلال يمارس تأثيره، ولكنْ على نحوٍ أخف، وأكثر نعومة، خاصةً في المسائل الداخلية التي لا ترتبط بالقضايا السياسية مباشرةً كالتعليم وغيره. كما أن الباحثة ناقشت موقف الاحتلال البريطاني من التعليم الوطني في مصر بعامةٍ، ومن دار العلوم بخاصةٍ، في صراحةٍ وموضوعيةٍ؛ فلا تصمت عن أخطائه، وتعرضتْ لدور كرومر ورفاقه في التعليم المصري».

بقيت نقطة جديرة بالتنويه؛ وهي: كيفية اختيار موضوعات الكُتُب المترجمة؛ فلا بد أن تمس قضايا محورية، وتناقش هموماً آنية، وتُقدِّم جديداً في الطرح، والمنهج، والمعالجة، والجرأة، والموضوعية، وحلولاً عملية، وإثارةً لغبار طريق المعرفة؛ وصولاً إلى الحقيقة الكامنة خلف دهاليز التعب، وكهوف النصب؛ وهو منهج الطاهر مكي في كل مترجماته؛ قيمةً، ورسالةً، وجِدَّةً، وأصالةً؛ لا كما نرى مِن غثاء السيل الطافح بالترجمات الرخيصة، والأسلوب الصحراوي، والقيمة المفقودة، والأثر العقيم!