الجزيرة العربية في المصادر البيزنطية المتأخرة



عقدت دارة الملك عبد العزيز بالرياض العام الماضي ندوة الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية برعاية أمينها العام البروفسور فهد السماري. وأصدرت إدارة الندوة تحت رئاسة البروفسور عبد الله العبد الجبار العديد من التوصيات كان أهمها تبني الدارة لمقترح حول ضرورة البدء في برنامج تعاون في مجال الجزيرة العربية في المصادر البيزنطية باعتبارها الامتداد التاريخي للمصادر اليونانية الكلاسيكية. بالفعل تمكنت الدارة منذ أسابيع قليلة من توقيع هذا المشروع مع الجانب اليوناني ليأخذ طريقه إلى النور قريباً إن شاء الله.

ويعد المؤرخون البيزنطيون هم ورثة المدرسة التاريخية الكلاسيكية . كما سعى العديد منهم إلى محاكاة أساليب هيرودوت وثيوكيديديس وليفي وغيرهم. كما سعت المصادر البيزنطية أيضاً إلى مواصلة الاهتمام الذي بدأته المصادر الكلاسيكية بجزيرة العرب، المكان والسكان، الاقتصاد والعادات الاجتماعية.

ومع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، ونجاح حركة الفتوحات الإسلامية الباكرة ضد الروم (البيزنطيين) زاد اهتمام المؤرخين البيزنطيين بالمسلمين وأحوال بلادهم.

وتحدثت المصادر التاريخية البيزنطية منذ ثيوفانس المعترف (Theophaness The Confessor) في القرن الثامن الميلادي عن نجاح المسلمين في فتح الشام وفلسطين ثم مصر وشمال أفريقيا. وطوال القرون التالية التي امتدت حتى القرن الخامس عشر الميلادي كان الإسلام هو الهاجس الأول لبيزنطة. وفي أحيان عديدة كان المؤرخون البيزنطيون لا يستطيعون منع أنفسهم من الحديث عن جزيرة العرب باعتبارها المنطقة التي نزل فيها الدين الإسلامي، والتي خرج منها المسلمون الأوائل لفتح الأقاليم التابعة لدولة الروم (بيزنطة).

ويعني المقال هنا بحديث المؤرخ البيزنطي خالكوكونديلاس (Chalkokondyles)، أشهر مؤرخي القرن الخامس عشر الميلادي عن الجزيرة العربية وسكانها المسلمين. فقد تحدث عنها بالتفصيل ليذكر أن أراضيها شاسعة للغاية، وأكثر مساحة من جميع الأقاليم الآسيوية الأخرى. ويسكنها شعب متحضر، حكيم للغاية فيما يتعلق بأمور دينه. ولهذا الشعب الذي يقطن الجزيرة العربية خليفة يحكمهم ليس بطاغية، فقد قاموا باختياره وتعيينه، ويعيش هذا الحاكم معهم، ولجميع السكان نفس الحقوق المتساوية.

غير أنه يعود ليذكر أن عاصمة العرب هي مدينة تقع على البحر. و على الرغم من سقوط اسم المدينة في النص اليوناني القديم وترجمته الانجليزية، فإننا نعتقد أنه كان يقصد مدينة مكة المكرمة القريبة من ساحل البحر الأحمر.

ويواصل حديثه عن الجزيرة العربية فيذكر أنها واسعة ومزدهرة وتصل حدودها إلى مصر، وبلاد فارس، وإلى الأراضي التابعة للآشوريين (العراق). وإذا ما أراد المرء السير من الجزيرة العربية شمالاً إلى بلاد الشام فإنه سوف يسير لفترة طويلة. ومن هناك يمكنه أن يواصل السير إلى آسيا الصغرى.

ولم ينس خالكوكونديلاس أن يشير إلى ما سبق أن ذكره المؤرخون الكلاسيكيون من أن أراضي جزيرة العرب كانت تتميز بالخصوبة، ومليئة بالأشجار والنخيل وتنتج أنواعاً مختلفة من الفواكه كبيرة الحجم كثيرة العدد. لذلك أسمى المؤرخون القدماء هذه الأرض العربية السعيدة Arabia Felix.

لقد أخطأ المؤرخ البيزنطي خالكوكونديلاس عندما ذكر أن العاهل المغولي قام بحملة عسكرية على الجزيرة العربية منشأ الدين الاسلامي. غير أنها كانت فرصة بالنسبة له للحديث عن الجنس العربي الذي وصفه بالعظمة والازدهار الاقتصادي. وتحدّث عن العرب أيضاً بوصفهم شعب قديم يقطن العديد من أجزاء قارة آسيا ويستفيد من سواحل البحر الأحمر.

بعد ذلك عاد خالكوكونديلاس ليذكر أن تيمورلنك اتهم سكان الجزيرة العربية بعقد تحالف سياسي مع أعدائه. ثم يتحدث عن معاهدة بين الطرفين طلب فيها سكان الجزيرة العربية منه عدم غزو جزيرة العرب بوصفها أرض الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. موضحين له أنهم الآن أحفاد الجيش الذي كان أيام الرسول، كما أنهم الآن يمثلون مرجعية لجميع الشعوب التي تنتمى إلى الإسلام.

ويشير خالكوكونديلاس إلى أن شعب الجزيرة العربية يؤمن بأنه مبارك، لأن الرسول محمد جاء من بلادهم. كما أنهم تحت خلافة "عمر" قاموا باجتياح اقاليم آسيا. ولا يخفى أن تلك إشارة عن نجاح حركة الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب في انتزاع أقاليم الشام وفلسطين من قبضة الدولة البيزنطية، وإقليمى العراق وفارس من قبضة الدولة الساسانية.

ويخطئ خالكوكونديلاس عندما يشير إلى أن الرسول محمد هو ابن "علي" من جزيرة العرب. غير أنه يصيب حين يذكر أن محمداً لم يرغم أحداً من السكان على اتباع شريعته بالقوة، بل استخدم الإقناع في جذب سكان شبه الجزيرة العربية، ثم سكان بلاد الشام بعد ذلك.

ثم أشار خالكوكونديلاس إلى "علي" بوصفه صديق لمحمد، قد ساعده على التوسع ونشر شريعته بين سكان جميع الأقاليم التي قام بزيارتها. ونرى هنا تضخيماً غير مبرر لدور سيدنا علي الذي كان صبياً في أول الدعوة الإسلامية، قبل أن يحتل دوره التاريخي المعروف فيما بعد.

وتطرق خالكوكونديلاس إلى تعاليم النبي محمد في جزيرة العرب، فوصفها بأنها تدعو إلى التعاطف والتفانى في حب الله. وفي حالة من التشوّش ذكر أن من عادة المسلمين أن يؤدوا الصلوات أربعة مرات في اليوم. ولا شيء يمكن أن يمنعهم من أداء صلواتهم. كما أنهم يتوجهون يوم الجمعة لأداء الصلاة في مساجدهم. ويحظر عليهم استخدام أي تماثيل أو صور في صلواتهم. وفي المسجد يصعد الإمام على المنبر ويخطب بصوت عال حتى يستطيع الجميع سماعه.

ويستمر خالكوكونديلاس ليؤكد أن الجنس العربي يكرّس نفسه للصلاة، ولا يوجد أي سبب يمنعه من تأجيلها أو عدم القيام بها. وطبقاً لحياتهم فهم لا يعتبرون العيش بشكل جيد يمثل خطيئة. لذا فإنهم بشكل عام لا يستطيعون كبح جماح طبيعتهم. فيتزوجون بأكثر من واحدة. ولديهم محظيات من بين الأسرى ومهما كان عددهم فإن الرجل كان قادراً على تحمل نفقاتهم ومعيشتهم.

ثم يخطئ مجدداً ليكتب أن المسلمين يتزوجون بطريقة شرعية من خمس زوجات. كما ذكر أنه يمكن للرجال أيضاً دفع أي مهر يرغب فيه أباء الزوجات. وفي العرس تقاد العروس في موكب ضخم مسبوقة بالقناديل.

وفي ملاحظة بارعة يقرر خالكوكونديلاس أنه إذا لم يستطع الزوج تحمل زوجته لفترة طويلة، يمكنه الافتراق عنها عبر طلاقها. وفي هذه الحالة يحدث الانفصال بينهما. ومن الحرام لديه أن يقوم الرجل بإعادة الزواج من المرأة التي قام بتطليقها ثلاث مرات. فمن غير المسموح إعادتها لزوجها من جديد إلا إذا تزوجت من شخص آخر بعد ذلك.

ويرى أيضاً أن مسلمي الجزيرة العربية يعتقدون بإله واحد يحكم العالم كله، تمت عبادته بواسطة "العقول البصيرة" كما يؤمنون أيضاً بأن محمداً قد أرسل لكي يكمل عمل الأنبياء السابقين الذين أرسلهم الله إلى هذا العالم.

ويستمر خالكوكونديلاس في روايته ليذكر في تشوش جديد، أنه بعد وفاة محمد أصبح ابنه "علي" ملكاً على الجزيرة العربية. وتم النظر إليه باعتباره صاحب الشريعة ويجب عليهم طاعته أينما كانوا. لقد عهدوا إليه بجميع شؤونهم، وسمحوا له بحكمهم بأية طريقة يراها، بعد ذلك قام بجمع أكبر قوات يمكن له جمعها وتوجه بها ناحية باقي أراضى الجزيرة العربية بنية غزوها.

ثم أشار إلى مكة المكرمة في تشوش جديد إبان حديثه عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم "لقد عبر الصحراء العربية وقام بإخضاع سكانها، وبعدما حكم لمدة عشر سنوات، توفي في مكان يدعى مكة!". وقام سكان مكة بدفنه بشكل يليق به، وحزنوا عليه بشدة. وفي خلط جديد لا يستطيع خالكوكونديلاس تمييز ركن الحج عند المسلمين في مكة المكرمة ليذكر أن العرب يعقدون الاحتفالات كل عام تبجيلاً لمحمد بوصفه رجلاً مقدساً نصبه الله عليهم من أجل إقرار الشريعة التي كانت تحمل بصمة حاكم عادل لا يتحول إلى طاغية.

ويستمر خالكوكونديلاس في رصد أحداث التاريخ الإسلامي الباكر في الجزيرة العربية ليخطئ من جديد عندما ذكر أنه عندما حضرت الوفاة محمد، قام "عمر"- الأكثر احتراماً بين أتباعه- بتسلُّم السلطة من "علي" ابن محمد، وقام بقيادة الجيش تجاه أراضي الشام التي خضعت جزئياً عبر القتال. بعد ذلك قام "عمر" بغزو مناطق قيليقيا وفريجيا وجنوبى آسيا الصغرى واستولى عليها وقام بتحويل أهلها إلى الإسلام. كما أرسل أتباعه إلى الشعوب الأخرى في محاولة لتحويلهم إلى الإسلام.

وقام عمر ببناء قبر فخم لجثمان محمد وقام بعقد احتفال سنوي كبير على شرفه. وأقنع الآخرين بالصلاة له وأنهم سوف يصبحون صالحين عبر زيارة قبره بشكل منتظم.

وفي غياب عن إدراك معنى شعيرة الحج عند المسلمين ، يذكر خالكوكونديلاس أن الناس يصلون من آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا إلى ضريح محمد معتقدين بأن ذلك يساهم في نجاحهم وازدهار حياتهم. "وبينما يقوم البعض بالسفر شخصياً إلى قبر محمد في مكة المكرمة!، يقوم البعض الآخر بدفع المال لمن هم على استعداد للسفر نيابة عنهم. لأن الطريق عبر صحراء الجزيرة العربية صعب جداً في السفر. ويتم حمل الطعام والماء عن طريق الجمال، وليس من الممكن استهلاك الكثير منها على الإطلاق. وبمجرد تعبئة احتياجاتهم يركبون الجمال ويتبعون إشارات البوصلة من أجل القيام بهذه الرحلة".

وفي النهاية، يبدو أن المؤرخ البيزنطي خالكوكونديلاس قد ردد أسطورة قديمة تدحرجت حتى وصلت إليه في القرن الخامس عشر الميلادي/ التاسع الهجري، مفادها أن هذا الضريح الفخم (قبر الرسول عليه الصلاة والسلام) تم تشييده من الأحجار الكريمة. وأن القبر نفسه معلق في الهواء في منتصف الضريح. مع أنه يستدرك ليعترف بأن هذا لا يبدو منطقياً بالنسبة له. غير أن المثير في الأمر أن أسطورة قبر الرسول المعلق قد انتقلت فيما بعد بحذافيرها إلى أدبيات الرحلات الأوروبية في شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث.