سيرة حياة مستشرق.. أسعد بك "قربان سعيد"
"أسعد بك... الناجي من الإرهاب البلشفي الروسي، يكره البلاشفة لأنهم شيعوا آبار نفط أبيه واستولوا على بيت عائلته في باكو وجعلوا منه مقراً لقيادة ستالين. ثم ضحية للإرهاب الألماني، كره النازي لأنهم خربوا وحطموا دار النشر التي كانت تنشر كتبه في برلين، وأحرقوا كتبه التي كتبها عن روسيا دون حتى أن يدركوا أنه كان يكتب ضد البلشفية الروسية لا ضدهم. غير أن محمد أسعد بك، وبغرابةٍ شديدة كان يزدهر وينتعش تحت وطأة الاضطهاد"
جاء مولد أسعد بك تحت اسم "ليف نوسيمباوم" في عام 1905م في الوقت الذي كانت فيه ثقافة وحياة الطبقة العليا في باكو (عاصمة أذربيجان وكانت وقتها تحت الحكم السوفياتي) قد بدأت في الانهيار والتداعي بعد تفشى الاضطرابات في أرجاء روسيا، كان ليف ينظر إلى ماضي مدينة باكو كمكانٍ بزغ فيه أهل الخير من غياهب عصورٍ قديمةٍ وسوف يقضى كل عمره معارضاً الثوار الذين أطاحوا بالنسيج المعقد والمركب للامبراطوريات والديانات وأحلوا محلها مذهبهم الشمولي الجديد فبالنسبة إلى ليف نوسيمباوم (أسعد بك) سوف يظل متذكراً أن قوى التغيير السياسي الثوري لم تكن إلا "جنون مستعر سقطت المدينة بين براثنه".
استمر تعليم ليف في البيت خشية الاختطاف من قبل العصابات التي بدأت تنتشر في تلك الآونة، مدعوماً بمكتبةٍ ثرية ومتنوعة: يقول عن نفسهِ "أنه على مدى أيامٍ متواصلة كنت أجلس دون حراكٍ على مقعدٍ وثيرٍ وأنا أقرأ كتباً عن الشعر العربي وغيرها"... وحين كان يُسمح له بالخروج كانت فسحته المفضلة تقود خطاه إلى الحي الآسيوي من المدينة بمساجده ومآذنه السامقة وشوارعه الضيقة وبيوته المنخفضة. كان يقضي الساعات بين طرقات المدينة الإسلامية المسوّرة حيث تنحنى طرقاتها وتلتوى وتتقاطع عبر ردهات فسيحة محاطة بحوائط قديمة تاريخية وبواباتٍ هائلةٍ منقوش عليها كتاباتٍ عربية ترجع للقرون السالفة وكان سيرهُ في كل تلك الطرقات يفضي إلى أطلال قصر شبهِ مهدمٍ هو ذات القصر الذي كان يحكم منه الخانات العِظام تلك المنطقة ومن هنا أسسَ ليف شخصيَّتَيْ "علي ونينو" في روايته الشهيرة التي تحمل نفس العنوان- نشرها باسم مؤلف يحمل اسم قربان سعيد- على أنه أمير مسلم شاب، جاعلاً منه شاعراً حالماً متطلعاً إلى بحر قزوين وكانت شخصية "علي" مثل شخصيتهِ تخشى وتتجنب المدينة الحديثة المعاصرة وفي هذا المقام كتب ليف "كل الأشياء التي قرأتها، وسمعتها وفكرت بها اختلطت في تلك الأحلام رأيتُ الامتداد اللانهائي لرمال الصحراء العربية الشاسعة، رأيتُ الفرسان، وعباءاتهم الناصعة البياض تتطاير خلفهم مع الرياح وودتُ أن أكون جزءاً من تلك الصحراء أن أكون بعض من ذلك الشرق المسلم الذي حملت شعائره إلى باكو (عاصمة أذربيجان) قبل أنْ تحلَّ محلها الثقافة الأوروبية على وقع الطبول المنتصرة"، ومن هنا بدأ ولعه بالإسلام وبالمشرق حين لم يك يبلغ العاشرة من عمره. وكتب: "لا أدرى متى حلّت عليّ تلك المشاعر، ولا كيف لي أن أفسرها. ربما كانت هي أيضاً ميراثاً بعيداً من جدودٍ لا أعرفهم؟ عرفتُ كل ذلك إبان فترة طفولتي. كنت أحلم بتلك الصروح العربية كل ليلة وأدركتُ أنها كانت من أقوى المشاعر التي تكوّنت لدي في حياتي بأجمعها". وعلى الرغم من حياتهِ المترفة إلا أنه كان يفرُّ من ذلك إلى مدينة المشرق القديمة في باكو وكان وهو يسير فوق الصخور الضخمة لبقايا قصر الخانات العتيق في باكو يتخيل نفسه فارساً يمكنهُ الدفاع عن نفسهِ بخنجرهِ وليس بنصف دستة من الحراس بالإضافة إلى مربيته التي ترافقهُ ويتذكر ذلك "فوق المدخل الصخري كانت تبرز الرموز العربية التي تُخلّد الماضي المندثر. كانت حروف سحرية غير مفهومةٍ لي مع تلك النقوش والمنمنمات التي تزينها. كنت أتأملها لساعاتٍ وكنتُ خلال تلك الساعات أستغرقُ في حالةٍ من حالات السبات والتأمل الحالم، كانت حالة من النعيم الحقيقي تدوم لساعاتٍ بعد ساعاتٍ". وأصبح ليف مبهوراً بكل القبائل الصغيرة في أذربيجان وكان حريصاً أن يلتقى القبائل التي تبدو كقبائل قوقازية تقليدية ولأن أذربيجان بلدٌ صغير فإن ركوب الخيل لبضع ساعاتٍ في أي اتجاهٍ من باكو يمكن أن يتحوّل إلى رحلةٍ تمتد عبر ثقافاتٍ تنتمي لقرونٍ مضت.
الاتجاه شرقاً: قضت الثورة البلشفية عام 1917 على أفكارهِ عن التقاليد المثيرة والمغامرات العظمية وقذفت به إلى أكثر ما تخيل في يومٍ من الأيام إلى الرمال الحمراء في تركستان وحصون بلاد فارس الطينية واعتمدت الكتب التي كتبها ليف بعد ذلك على تلك الرحلات وسوف تضعه أيضاً على خريطة الأدب على الرغم من تناقضها مع ميوله للحكايات الطريفة أكثر من ميله لقسوة الحقائق الجارفة.
هرب ليف بعد الثورة البلشفية وسلكَ الطريق الواقع في المنطقة الحدودية بين أذربيجان وجورجيا وكانت تلك المنطقة يانعة الخضرة بزهور الأوركيد، حيث ترعى الخيول البرية وتجوبها قطعان الأغنام وكان من حسن حظهِ أن أهالي تلك المناطق يتميزون بكرم الضيافة إلى نحوٍ ملحوظ وتتميز بتقديم أشهى الأطعمة في منطقة القوقاز، وعلى الرغم من أمّية أهالي تلك القرى- آنذاك- كان المزارعون فخورين بلغتهم حيث كان الشعراء الجوالون ينتقلون من قريةٍ إلى أخرى ويلقون بالقصائد الشعرية واكتشف ليف أن حتى أفقر المزارعين في تلك المناطق له ذائقة شعرية ملحوظة وكان هناك مباريات شعرية بين الشعراء تجتذب الشعراء، وأشار ليف إلى تلك المباريات ووصفها وصفاً دقيقاً في روايته "علي ونينو" حيث يتبارى الشعراء في وصف التقاليد الجبلية العريقة. وأدرك ليف الحيوية المتنوعة في شعر الجبال حيث يؤلف أساطين الشعراء القصائد مع دخول فصل الشتاء ليخرجوا مع حلول فصل الربيع ويلقونها على سامعيهم وما زال باحثو ودارسو القوقاز يستشهدون بتلك المقاطع الشعرية على الرغم من أنها وردت في روايةٍ- أي أنها ليست قصائد منظومة في حد ذاتها- وذلك بصفتها مثالاً على تفرُّد ثقافة تلك المناطق الحدودية.
أثّرت رحلته مع القوافل- أثناء هروبه- عبر أراضى تركستان في كتبه وألهمتهُ مقالات عن سحر الصحراء وعن الإسلام وسوف تؤسس رحلته على ظهور الخيل في مناطق الحدود الأذرية- الجورجية لأعماله التي سوف يكتبها عن القوقاز. هذان المؤثران: الصحراء والجبال سوف يندمجان في بديلٍ روحي لديه يناقض ويوازي الاستبداد الثوري البلشفي وتأثرات الحرب العالمية.