واحدة من أهم الأشياء التي تعاني من التهميش وإساءة تقدير الأهمية في مجتمعاتنا.. هي الدعم النفسي.. ولهذا الشيء عدة أسباب حقيقة.. أولها أن لدينا معايير صارمة جدا لاستحقاق الدعم النفسي.. الأطفال مثلا.. والمراهقين.. وأي شخص لم يصل الثامنة عشرة عموما، لا يحتاج إلى الدعم النفسي.. لأنه لا يزال طفلا.. وكل بكائياته – مهما بلغت- فهي في نظرنا دلع و"ومرقعة".. وإذا ما حاولنا حلّها.. فيكون الحل من باب الافتكاك من وجع الرأس أكثر منه مقاربة حقيقية للشكوى.. وتتدرج طبعا الحلول.. من لوح شوكولاته.. إلى لعبة جديدة.. أو حتى رحلة إلى مركز تجاري.. أو حتى النهر والتعنيف والطلب بكل جدية أن يهتم بدروسه عوضا عن دموع التماسيح الكاذبة تلك.. كبار السن على الجانب الآخر (وكبار السن هنا تعني أي شخص بلغ الخامسة والعشرين) لا يحتاجون إلى أي دعم نفسي منا.. لأن العمر الذي وصلوا إليه من المفترض أن يمنحهم نوع من القوة والحكمة التراكمية التي تعينهم على مواجهة مصاعب الحياة منفردين.. أي أنه لا معنى حقيقة لتقديم دعم نفسي لرجل (أو امرأة بالغة).. هذا شيء سامج.. وتقليد مخنّث للغرب.. لأنه لم يعد طفلا.. ناهيك طبعا عن الحاجة لتقديم الدعم لأرملة ستينية وحيدة مثلا.. أي دعم نفسي هذا؟ اللهم حسن الختام.. وطبعا يستثنى من الحاجة للدعم النفسي أي شخص لديه وظيفة أو مصلحة تجارية.. أو متزوج.. أو حتى يمتلك يدين وساقين.. لأنه في هذه الحالة ليس إلا جاحد بنعم الله عليه.. من هنا, نجد أن الفئة التي تستحق الدعم النفسي عندنا هي فئة محددة وصغيرة جدا جدا.. وشروط الانضمام لهذه الفئة صعبة جدا.. بمعنى أنه لكي تتأهل لهذه الفئة ينبغي أن يكون في سجلك عدة مؤهلات نادرة.. فشل عارم دراسيا وعمليا.. محاولة الانتحار مرتين على الأقل, واحدة منهما بقطع الشرايين.. إعاقة جسدية بنسبة 30% على الأقل.. فقر مدقع.. وبالطبع التزام تام بتعاليم الدين فروضا وسننا وواجبات ومندوبات.. لأن أي تقصير في هذه الناحية يكون هو السبب الحقيقي لضعفك واكتئابك.. وما تعانيه لا يحل بالدعم النفسي بقدر ما يحل بالعودة إلى الله.. لأن من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا.. وألا بذكر الله تطمئن القلوب.. الخ.. السبب الثاني لتهميش الدعم النفسي في مجتمعاتنا.. هو اعتقادنا المغلوط أنه – وفي حال تقديمه- فإنه يقدم – كمطعوم الجدري- لمرة واحدة فقط.. مراهقة مثلا تعاني من نقص تأكيد الذات.. وترى أنها بشعة وكل طالبات العالم أجمل منها.. إذا ما حدث واشتكت لوالدتها من الأمر.. فقد تحصل -إذا كانت محظوظة ولم يتم تصغير شكواها أو تطبيعها- على دعم نفسي لمرة أو مرتين على الأكثر.. أي أنها الدعم النفسي هنا يأتي بصفة الإقناع وليس بصفة الدعم.. وكأننا نحاول إقناع الفتاة بصحة معادلة رياضية.. لذلك فتكرار شكواها من الأمر مع أننا فسرناه لها يجعلها شكواها مستفزة وغبية.. شرحنا لك الأمر وبيننا لك نسبية الجمال وانتهى الأمر.. فلماذا هذا التكرار الأخرق؟ والشيء نفسه طبعا يحدث مع شاب يواجه صعوبات في تحصيل رزقه، وخسر حبيبته بسبب عدم جهوزيته للزواج منها.. سنشرح له الأمر ونجبر على أنفسنا لنطبطب عليه مرة أخرى.. لكن هذا كل شيء.. هؤلاء هم نحن.. بلا تزويق ولا تجميل ولا مواربة.. لكن الغريب فعلا أن تكون هذه تصرفات أمّة تقرأ القرآن ليلا ونهارا.. ذلك الكتاب العظيم الذي نزل على مدى ثلاث وعشرين عاما.. لا لسبب.. إلا ليكون دعما نفسيا للنبي.. "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك".. تذوق الكلمات.. لنثبت به فؤادك.. والتثبيت لا يكون إلا لشيء مضطرب.. تخيل هذا الفؤاد كطائر مضطرب.. تمسكه بين يديك حتى يهدأ ويثبت.. هذا هو الدعم النفسي.. هذا الدعم النفسي الذي استمر ثلاثة وعشرين عاما.. لم يكن لطفل ولا لمراهق.. ولا حتى لشاب.. بل لرجل بالغ عاقل متزوج مستقر.. لديه زوجة وأطفال وعمل وبلغ الأربعين من عمره.. ومع ذلك يرى الله عز وجل أن يقسّم القرآن ليكون دعما متواصلا له.. لكي يثبت قلبه شهرا بعد شهر.. وأسبوعا بعد أسبوع إلى آخر أيام عمره.. ولم يمنع تدفق تلك الطبطبة الإلهية أن يكون الرجل قد أصبح في الستين من عمره ,قائدا لدولة ومحاطا بآلاف الأتباع الذين يفدونه بأرواحهم.. العجيب أيضا أن ذلك الدعم الذي تكرر عشرات المرات.. كان في ذات الموضوع وإن اختلفت الألفاظ.. دعم ضد كلام الناس السيء.. "لا يحزنك قولهم".. "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك" "لعلك باخع نفسك" "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى".. بإمكانك أن تمنح أبناءك وزوجتك ووالديك، سقفا وطعاما وملبسا ومأوى وكل شيء آخر.. لكن ذلك لا يغني عن حاجة أي منهم لأن تطبطب على قلبه.. أن تنزع الخوف والرهبة منه.. أن تمنحه السكينة والتفهم والاستماع المتعاطف مرة بعد مرة بعد مرة.. بلا كلل أو ملل أو ملامة.. أن تحتضن قلبه المضطرب حتى يهدأ ويثبت.. لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي سيمنحه قوة مواجهة الحياة.. تلك الحياة الصعبة التي حتى الأنبياء احتاجوا لمن يدعمهم في رحلة عبورها.. ثبّتوا أفئدة من تحبّون.. ثبّت الله أفئدتكم..
.
.
ديك الجن