الكوت [1] مدينة عراقيَّة تقع جنوب بغداد بنحو 180 كم، كانت في الأصل ميناء نهري على نهر دجلة تستخدمه السفن التجاريَّة لإفراغ حمولتها، في هذه المدينة حاصرت القوَّات العثمانيَّةُ القوَّات البريطانيَّةً حصارًا يُعدُّ الأطول والأشد في الحرب العالمية الأولى، سجَّل فيه العثمانيون نصرًا عظيمًا على القوَّات البريطانيَّة التي استسلمت دون قيدٍ أو شرط، فكان حقًّا نصرًا لم يشهده تاريخ العثمانيِّين منذ مائتي عامٍ قبل هذه المعركة، بل كانت المرَّة الأولى التي تدخل فيها الحرب العثمانيَّة التاريخ الإنجليزي.
ما قبل معركة كوت العمارة
في الحرب العالمية الأولى ( 28 يوليو 1914- 11 نوفمبر 1918م) انقسمت الدول المشاركة فيها إلى دول المحور أو التحالف (ألمانيا والنمسا وبلغاريا والدولة العثمانية)، ودول الائتلاف (روسيا وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا واليابان وصربيا ورومانيا وبلجيكا واليونان والبرتغال والجبل الأسود)، ودخلت الدولة العثمانية في هذه الحرب في [10 ذو الحجة 1332ه= 29 أكتوبر 1914م] أي تقريبًا بعد ثلاثة أشهر من اشتعالها، وخاضت الجيوش العثمانيَّة القتال على جبهاتٍ متعدِّدةٍ في روسيا والعراق وفلسطين وسوريا وسيناء والحجاز ومضيق الدردنيل، غير أنَّ دخول الدولة العثمانية هذه الحرب كان بغير استعدادٍ كامل ممَّا أدَّى إلى خسارتهم تسعين ألف جنديٍّ على الجبهة الروسيَّة فقط، ولكنَّهم على الرغم من هذه الخسارة الجسيمة استعادوا قوَّتهم وسحقوا الجيش الإنجليزي في نصرٍ مبينٍ في هذه المعركة.
الطريق إلى كوت العمارة
تبدأ أحداث هذه المعركة في نوفمبر 1915م، عندما قامت إنجلترا بإطلاق حملةٍ للسيطرة على بلاد العراق التابعة للدولة العثمانيَّة وقتها؛ وذلك لتطويق الجيش العثماني المتمركز في وسط العراق، واستطاعت القوَّات البريطانيَّة بالفعل بقيادة الجنرال تاونسند احتلالَ مدينة البصرة، وبعد أن سيطرت عليها زحفت إلى بغداد، وفي طريقها حدث قتالٌ رهيب بينها وبين القوات العثمانية بقيادة نور الدين في مدينة سلمان باك، وعلى إثر هذا القتال خسرت القوَّات البريطانيَّة ثُلث جنودها وشرعت بالانسحاب نحو مدينة الكوت، فتتبعتهم القوَّات العثمانية وقامت بمحاصرتهم في الكوت في 7 ديسمبر 1915م.
حصار كوت العمارة
بعد أن فرضت القوات العثمانية حصارها على المدينة كتب القائد العثماني نور الدين إلى القائد الإنجليزي تاونسند رسالةً يدعوه فيها إلى الاستسلام فلم يستجب لرسالته، وهنا بدأ القصف المدفعي على المدينة، وبدأت المدافع تصبُّ نيرانها على منطقة الكوت التي لا تتجاوز أربعة أميال مربَّعة، وأمر القائد الإنجليزي بهدم بعض البيوت لفتح طرقٍ واسعةٍ تكفي لعبور عربات النقل، كما أنَّه قام بتحويل سوق البلدة إلى مستشفى ونَقَل إليه مئات المرضى والجرحى.
استمرَّ الحصار أربعة أشهر ونصف تقريبًا، وفي هذه الفترة نفدت مؤن الجيش الإنجليزي تمامًا حتى شرع الجنود يأكلون الكلاب والقطط، وأصبح الهول شديدًا إلى الدرجة التي كان يتساقط فيها الجنود الإنجليز الواحد تلو الأخر من شدَّة الجوع والنعاس، وغدت الأجساد نحيفة، والأصابع بارزة العظام، والأسنان كبيرة، والعيون غائرة، ونفدت كلُّ الأخشاب والأوتاد لاستخدامها في الوقود حتى لم يبقَ وتدٌ واحد، وصدر قرار ينص على أنَّه: (من يُلْقَ عليه القبضُ متلبِّسًا بجريمة سرقة وتدٍ سوف يُنفَّذ فيه حكم الإعدام)، ومع شدَّة البرد في الشتاء راحت تُسْرَق الصلبان الخشبيَّة من مقابر الجنود المقتولين لاستعمالها كحطب، كما نفد السكر والملح، حتى وصل الأمر إلى أنَّهم كانوا يبحثون عن الحشائش ليطبخوا منها طعامًا.
المحاولات المستميتة لفك الحصار
حاول الإنجليز خلال هذه الفترة فكَّ الحصار أكثر من مرَّةٍ غير أنَّهم فشلوا في جميع المحاولات؛ فقد شنُّوا هجومًا بريًّا بقيادة الجنرال أيلمر في 6 يناير 1916م، إلَّا أنَّهم اضطرُّوا إلى التراجع بعد أن خسروا أربعة آلاف جندي، وعقب هذه المحاولة عُزِل نور الدين باشا من قيادة الجيش العثماني، وعُيِّن خليل باشا عوضًا عنه، وبعد ذلك بسبعة أيَّام -أي في 13 يناير 1916م- خسر الجيش البريطاني ألفًا وستمائة جنديٍّ في محاولةٍ أخرى لفكِّ الحصار، كما فقدوا ألفين وسبعمائة جنديٍّ في ثالث محاولاتهم، التي وقعت في 21 يناير من العام نفسه، وفي محاولةٍ رابعةٍ يائسة شنُّوا هجومًا على العثمانيِّين لكنَّهم تكبَّدوا خسارةً أكبر وصلت إلى إحدى وعشرين ألف جنديٍّ بين قتيلٍ وجريح، ممَّا أدَّى إلى إقالة الجنرال أيلمر من منصبه بعد سلسلة الهزائم المهينة من العثمانيِّين، وفشله الذريع في فكِّ الحصار.
استسلام كامل ومذل للإنجليز
بعد هذه السلسلة المهينة من الهزائم والفشل الذريع في فكِّ الحصار، حاول الإنجليز دفع الأموال الطائلة للعثمانيِّين حتى يفكُّوا الحصار عن قوَّاتهم في مدينة الكوت؛ فقد عرض القائد الإنجليزي تاونسند على القائد العثماني خليل باشا مليون جنيه، مقابل السماح له ولجيشه بالتوجُّه إلى الهند، ولكن القيادة العثمانيَّة رفضت بشدَّة قائلةً: "لا حاجة لنا بالنقود".
وقد قال تاونسند في برقيَّته لخليل باشا: "السيد خليل باشا، الجوع يُجبرنا على ترك السلاح، لذا أُعْلِم جنابكم العالي باستعدادي لتسليم جنودي لكم".
ولكن فشلت كلُّ المحاولات حتى تلك المحاولة الأخيرة التي حاول فيها الإنجليز إرسال سفينةٍ محمَّلةٍ بمئات الأطنان من موادِّ الإعاشة إلى قوَّاتهم في مدينة الكوت، لكن سقطت بأيدي الجنود العثمانيِّين بعد إطلاق النيران عليها بكثافة، وعندها استسلمت القوَّات البريطانيَّة بقيادة تاونسند إلى القوَّات العثمانيَّة في 26 أبريل 1916م دون قيدٍ أو شرط.
نتائج معركة كوت العمارة
بعد النصر العثماني الكبير الذي تحقَّق في مدينة الكوت، أرسل القائد العام العثماني خليل باشا رسالةً إلى الجيش العثماني قائلًا: "سقط من جيشنا ثلاثمائة وخمسين (350) ضابطًا وعشرة آلاف (10000) جندي، إلَّا أنَّ المعركة أفضت في النهاية إلى استسلام ثلاثة عشر (13) جنرالًا، وأربعمائة وواحد وثمانين (481) ضابطًا، وثلاثة عشر ألف وثلاثمائة (13300) جنديٍّ من الجيش البريطاني، كما انسحبت القوَّات التي كانت تُحاول إنقاذهم بعد أن سقط منها ثلاثون ألف (30000) قتيل".
كما أضاف خليل باشا قائلًا: "نحن أمام فرقٍ كبيرٍ إلى درجةٍ تُدهش العالم، سيجد المؤرِّخون صعوبةً في إيجاد كلماتٍ لوصف هذه المعركة"، وبدوره قال العقيد كاظم قره بكر: "فلنحمد الله الذي وهبنا نصرًا لم يشهده تاريخنا منذ مائتي عام، هذه هي المرَّة الأولى التي تدخل فيها الحربةُ العثمانيَّة التاريخَ الإنجليزي".
[1] الكوت في لغة أسفل العراق والبلاد القريبة منه: هو ما يُبنى لجماعةٍ من الفلاحين؛ ليكون مأوًى لهم ومسكنًا، وقد يُبنى وحده أو يُبنى حوله مجموعةٌ من الأكواخ من الطين أو القصب، ولا يُطلق هذا الاسم (الكوت) إلَّا إذا كان البناء على حافَّة نهرٍ كبيرٍ أو على ساحل بحر، وأقرب ما يكون لتعريفه (حديثًا): هو الميناء أو مخزن الذخيرة التجاريَّة.
-قصة الإسلام .