سوق السراجين في بغداد- عبق ماض أصيل مهدد بالاندثار

تعتبر سوق السراجين من أقدم وأشهر أسواق بغداد، يباع فيها مختلف أنواع المنتجات الجلدية. لكن هذه السوق، التي تعود إلى العصر العباسي، باتت تعاني اليوم من منافسة البضائع المستوردة الرخيصة ومن الإهمال وغياب الدعم الحكومي.


يعود تاريخ سوق السراجين إلى القرن الثالث عشر الميلادي، فترة حكم الخليفة العباسي أبو جعفر المستنصر بالله (1126-1242)، الذي أمر بإنشاء أسواق عدة متخصصة كأسواق الوراقين والبزازين والعطارين والخفافين وسوق الصفافير. وكان الغرض من إنشائها هو توفير المتطلبات اللازمة لطلبة وأساتذة المدارس في ذلك الوقت.
وإبان العهد العثماني تحولت السوق إلى خان للمسافرين لأن البنايات مكونة من طابقين. فكان الطابق العلوي مخصصاً لسكن الرحالة والمسافرين، والأرضي مخصصا لإسطبلات الجمال والخيول.
ثم تحولت بعدها إلى سوق للصناعات الجلدية، التي تُغلف بها السروج مع الأحزمة للخيول. ومن هنا جاءت التسمية لاقتصار السوق آنذاك على صناعة سروج الخيل. لكن معروضاتها سرعان ما اتسعت لتشمل أغمدة الأسلحة وحمالات الرصاص بالإضافة إلى الأحزمة والحقائب وكمامات الأفواه وواقيات الأيدي لمربي الصقور.
وفي منتصف سبعينات القرن الماضي بدأ حرفيو السوق بصناعة الملابس الجلدية والأحذية والحقائب النسائية والتي تلاشت هي الأخرى، بعد أن قامت دائرة الأوقاف آنذاك بإغلاق الطابق العلوي، لاستخدامه كمخازن لبضائع أصحاب محال القرطاسية.
توارث المهنة

لم يعد السراجون يرغبون بتوريث مهنتهم إلى أبنائهم وأحفادهم لصعوبة العيش الكريم من هذه المهنة
بين الأزقة الضيقة وفي المحال الصغيرة المتراصة إلى بعضها البعض يعمل حرفيون توارثوا مهنتهم من أبائهم وأجدادهم ليجعلوا من هذا المكان معلماً تاريخياً وإرثاً حضارياً، كان في أزمان مضت عامل جذب سياحي يسرّ الوافدين إلى عاصمة الرشيد.
لكن ما جاء به التغيير في العراق كانت له كلمة الفصل في تراجع هذه السوق التاريخية واندثارها حتى شهدت هجرة الحرفيين وتغيير ملامحها. ففي ظل غياب الدعم الحكومي للحرف اليدوية والصناعات التقليدية وغياب حماية السوق من الإغراق السلعي للبضائع المستوردة بدأت مخازن الكتب والقرطاسية تحل تدريجياً محل ورش السراجين لكي يتبقى من هذه السوق التاريخية بضع محال فقط.
وكان أكثر ما يميز السوق في عقود مضت يتمثل بأصوات المطارق التي تعلوا في الأزقة والمحال الصغيرة بلا انقطاع حتى عند ساعات المساء المتأخرة، لكنها اليوم تراجعت إلى حد كبير. وينقسم العمل في هذه المحال بحسب مراحل الإنتاج؛ فهناك من يعمل على قص الجلد للغرض المراد منه، وهناك من ينقش عليه. وبينما يختص البعض بتصميم الزخارف وتلوينها التي تنقش على قطع الجلد، ينشغل آخرون بصقل المنتج بعد زخرفته لتلوين بعض أجزائه وإضفاء لمسات فنية أكثر جمالية.
"ذكريات جميلة لا تنسى"

تشتهر السوق بالنقش والزخرف على الجلود وبكتابة الآيات القرآنية بخط جميل
"منذ زمن بعيد وأنا أرتاد هذه السوق التراثية لاقتناء كل ما هو جميل صنعته أيدي الحرفيين، كما ارتبط بهذا المكان الذي يحكي قصة المدينة بذكريات جميلة لا تنسى"، هذا ما قاله أيوب حسن جوير، أحد رواد سوق السراجين في بغداد. ويضيف جوير (57 عاماً) في حوار مع دويتشه فيله، بصوت فيه مسحة من الحزن: "من المؤسف أن تُهمل هذه السواق التي كانت تعج محالها في السابق بالرواد من مختلف الجنسيات"، موضحاً أن كل ما تبقى في السوق اليوم يعاني الإهمال الكبير "وبات مهدداً بالاندثار" بحسب تعبيره.
ودعا جوير الجهات المعنية إلى الاهتمام بالسوق وإعادة هيكلتها وبنائها بطريقة سياحية تدل على تاريخها العريق. كما طالب بتوفير الجلود لأصحاب المحال وكذلك منع دخول المستورد من البضائع الجلدية المنافسة كالصينية والتركية التي أخذت تنافس منتجات هذه السوق بشكل كبير لـ"رخص أسعارها".
موسم الهجرة... من السوق
عائد علي المياحي، صاحب أحد المحال المتبقية في سوق السراجين، يعزو من جانبه سبب الهجرة المستمرة من هذه المهنة إلى جملة أسباب تتمثل بـ"تردي الوضع الأمني الذي انعكس بدوره على قلة توافد السائحين بالإضافة إلى طغيان البضائع المستوردة والإهمال وغياب الدعم الحكومي".
ويضيف المياحي (36عاماً)، الذي ورث المهنة عن أبيه، إن "الكثير من أصحاب المهنة يشعرون بالأسف لتغيّر ملامح سوقهم إثر تحول الكثير من محالهم إلى مخازن للقرطاسية بالإضافة إلى احتلال ورش تجليد الكتب للكثير من المحلات، لكن في الوقت الحاضر توقفت السوق عن العمل بصورة شبه تامة، لعدم وجود المشتريين"، على حد تعبيره.
ولم يذهب سعد يونس هادي، بعيداً عما قاله المياحي، فغياب الدعم الحكومي وقلة السائحين سبب في هجرة الحرفيين لمهنتهم، مستذكراً حكاية من الزمن الجميل رسمت الابتسامة على وجهه قائلا: "في السابق كان وضع السوق مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن، فقد كان مزدهراً لساعات متأخرة من الليل برواده من السياح الأجانب الذين كانوا يتنافسون على اقتناء محتويات السوق".
وبينما ينشغل هادي (41عاماً) وهو أب لأربعة أطفال، بالنقش على حقيبة مصنوعة من الجلد، يضيف "لم ارغب بأن يتجه أبنائي على خطاي في امتهان هذه المهنة لأنها اليوم لا تدر أي مورد مادي لكل من يعمل بها"، مشيراً إلى أن "غياب الدعم الحكومي للحرف التقليدية واليدوية سبب في اندثار الكثير من الأسواق البغدادية التراثية التي يعود تاريخها إلى مئات السنين".
7 ملايين دولار لتطوير أسواق بغداد

حكيم عبد الزهرة من أمانة بغداد
وبعد أن تكرر الحديث عن الدعم والاهتمام الحكومي توجهت دويتشه فيله إلى أمانة بغداد، المسؤولة عن جمالية العاصمة وتنظيم أسواقها، وطرحت على المتحدث الرسمي باسمها الانتقادات التي وجهها السراجون، فأجاب حكيم عبد الزهرة:"إن الأمانة خصصت مبلغ 7 ملايين دولار أميركي لإعادة تأهيل المناطق التاريخية والأثرية في بغداد ومن ضمنها سوق السراجين".
ويؤكد عبد الزهرة أن عودة سوق السراجين إلى حياتها الطبيعية مقرون باستقرار الوضع الأمني في العراق، باعتبار أن اغلب روادها هم من السياح الأجانب، وفي ظل انعدام حركة السياحة اُجبر العديد من أصحاب المهن على اللجوء إلى مهن أخرى، حسب تعبير المسؤول الحكومي.