"سوق الصفارين" في بغداد يطوي آخر صفحات تاريخه
كان "سوق الصفارين" علامة من علامات العاصمة العراقية، حيث ظلت سيمفونية الأزاميل والمطارق تصدح من زواياه على مدى قرون، لكنه بات مهددا بالاندثار ومعه تطوى صفحة من تاريخ عاصمة الرشيد. دويتشه فيله تجولت في سوق النحاسين.
مهنة تحولت إلى جزء من تاريخ العاصمة العراقية
لطالما تعالت في فضاء شارع الرشيد، أقدم شوارع العاصمة العراقية بغداد، معزوفة النقر على النحاس من سوق النحاسين، أو سوق الصفافير كما يطلق عليها باللهجة العراقية، فالصفر في اللهجة العراقية هو النحاس. تلك الأصوات كانت ناجمة عن عملية تطويع المعدن لصنع الأواني المنزلية وأباريق الشاي والملاعق وإطارات الصور والفوانيس النحاسية المنقوشة بالزخارف، وغير ذلك. ويعتبر هذا السوق من أقدم الأسواق في بغداد وما لبث حاضراً في الأمثال التي يتداولها سكانها على امتداد الأزمان الماضية.
وفي الأزقة الضيقة يعمل في المحال الصغيرة المتراصة إلى بعضها البعض حرفيون، توارثوا المهنة الشاقة والممتعة، فجعلوا من هذا المكان معلماً تاريخياً، كان في أزمان أخرى مضت عامل جذب لكل من يزور عاصمة الرشيد ويبحث عن معالمها التاريخية. لكن ما جاء به التغيير في العراق بدا واضحاً بقوة في السوق، ففي ظل غياب الدعم الحكومي للحرف اليدوية والصناعات التقليدية وغياب الحماية من منافسة السلع المستوردة بدأت متاجر المشغولات الجاهزة الرخيصة تحل تدريجياً محل ورش النحاسين.
خفوت صوت سيمفونية الأزاميل والمطارق
جزء من تاريخ بغداد يتوارى
في أزمان مضت كانت سيمفونية الأزاميل والمطارق تصدح من بين زوايا الشارع الطويل بلا انقطاع حتى ساعات المساء، لكنها اليوم تراجعت إلى حد كبير. العمل في هذه المحال ينقسم بحسب مراحل الإنتاج؛ فهناك من يضرب على قطعة النحاس لتأخذ الشكل المطلوب، وهناك من ينقش عليها باستخدام المطرقة والأزميل. وبينما يختص الآخرون بتصميم الزخارف التي تنقش على صفائح النحاس، ينشغل الآخرون بصقل المنتج بعد زخرفته وتلميعه أو يلوّن بعض أجزاء الصفائح المطروقة لتضفي لمسات فنية أكثر جمالية على الأواني، وبعضهم يرصعها بالأحجار أو يطليها بالمينا.
ورغم تراجع حركة هذه السوق فإن وتيرة العمل هذه لم تتغير كثيراً ربما منذ إنشاء السوق في عصر الخلافة العباسية بالقرب من المدرسة المستنصرية التي كانت جامعة لعلوم ذلك الزمان. ويعود تاريخ سوق الصفافير في بغداد إلى القرن الثالث عشر الميلادي؛ فترة الخلافة العباسية وبالتحديد إلى عهد الخليفة المستنصر بالله (1226-1242)، الذي آمر بإنشاء أسواق عدة متخصصة كأسواق الوراقين والبزازين والعطارين وسوق الصفافير، وكان الغرض من إنشائها هو توفير المتطلبات اللازمة لطلبة وأساتذة المدارس في ذلك الوقت. وكان سوق الصفافير يمدهم بما يحتاجون من فوانيس وقناديل وغيرها من الأواني والقدور وغيرها. ويذكر الذين تعرضوا لتاريخ بغداد أن السوق كان مكاناً مناسباً لتعويد الخيول العسكرية على ضجيج المعارك، إذ كانت تمرر في السوق وسط ضجيج طرق المعادن لكي لا تفر أثناء الحروب عند سماعها صليل السيوف.
ذكريات من الماضي الجميل
"لي ذكريات جميلة تربطني بسوق الصفافير"، هذا ما قاله أحد الرواد السابقين لسوق الصفافير بصوت يضفي عليه الحزن، مبيناً أنه حتى ما بقي من السوق يعاني من الإهمال الكبير "وبات يلفظ أنفاسه الأخيرة". ويقول سلمان يوسف ذياب (64عاماً)، لدويتشه فيله: "أفضل عدم ارتياد سوق الصفافير في الوقت الراهن لكي لا اشوه الصورة القديمة التي لا تزال في مخيلتي من تلك الأيام الجميلة التي كانت تعج فيها المحال بروادها من مختلف الجنسيات". ودعا ذياب الجهات المعنية إلى إعادة هيكلة السوق بـ"صورة تدل على تاريخه العريق وأن تدعم أصحاب المحال بمادة النحاس وكذلك منع دخول المستورد من السلع النحاسية المنافسة كالصينية والتركية والهندية التي أخذت تنافس منتجات هذه السوق بشكل كبير لرخص أسعارها".
فاضل مهدي هادي أحد أقدم الصفارين في السوق يداعب النحاس بمطرقته منذ نعومة أظافره مستذكراً حكايات رسمت البسمة على وجهه قائلاً "في السابق كان وضع السوق مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن، فقد كان مزدهراً برواده من السياح الأجانب والعرب". ويضيف النقاش هادي (55 عاماً)، الذي ورث مهنة النقش على النحاس عن أبيه، إن السياح كانوا يتنافسون على اقتناء محتويات السوق من التحف البغدادية الذي نقشت عليه رسوم لمعالم بلاد الرافدين الأثرية والتاريخية مثل أسد بابل والزقورة والملوية والحضر فضلاً عن الشخصيات التي حكمت العراق في السابق.
ويتحسر هادي على الزمن الجميل وهو يقول "لم يعد هناك من يرغب باقتناء الأشكال التي يجيد الصفارون صناعتها، فليس هناك من يبحث عن الأنتيك البغدادي القديم بمختلف ألوانه أشكاله النحاسية، الآمر الذي اجبر العديد من أصحاب المحال على هجر هذه المهنة واللجوء إلى مهن أخرى".
طغيان النحاسيات المستوردة
غزوان سعدون هاشم، صاحب أحد المحال المتبقية في سوق الصفافير، يعزو من جانبه سبب الهجرة المستمرة من هذه المهنة إلى "طغيان الصناعات النحاسية المستوردة وقلة مادة النحاس في السوق والإهمال الحكومي، وقلة السائحين بالإضافة إلى اتجاه بعض التجار إلى استيراد بعض المواد التي تنافس النحاسية كالزجاجيات".
ويضيف هاشم (32عاماً) لدويتشه فيله أن الصََّفار يشعر بالأسف، لأن رواد السوق توقفوا عن سماع أصوات المطارق التي كانت تدل القاصد إليهم في السابق من مسافة بعيدة، لكن في الوقت الحاضر تجد السوق قد توقفت عن العمل بصورة شبه تامة، بسبب عدم وجود المشتريين.
ماذا تقول أمانة بغداد؟
فاضل مهدي هادي أحد أقدم الصفارين يتحسر على إندثار مهنته
وبعد أن تكرر الحديث عن الدعم والاهتمام الحكومي توجهت دويتشه فيله إلى "أمانة بغداد" وطرحت على المتحدث الرسمي باسمها الانتقادات التي وجهها الصفارون، فأجاب حكيم عبد الزهرة بالقول إن الأمانة خصصت مبلغ 7 ملايين دولار أميركي لإعادة تأهيل المناطق التاريخية والأثرية في بغداد ومن ضمنها سوق الصفارين".
ويؤكد عبد الزهرة على أن عودة سوق الصفارين إلى حياته الطبيعية مقرون باستقرار الوضع الأمني في العراق، باعتبار أن اغلب رواده هم من السياح الأجانب، وفي ظل انعدام حركة السياحة اُجبر العديد من أصحاب المهن إلى عزوف مهنهم واللجوء إلى مهن أخرى، حسب تعبير المسؤول الحكومي.
لكن حتى مع هجر الكثير من النقاشين للسوق وغزو مهن أخرى لمحال هذا السوق القديم، تبقى القلة القليلة من هؤلاء الحرفيين مخلصة لمهنتها وتحاول أن تفتح لها منافذ جديدة رغم ضيق الأفق الذي وجدت نفسها فيه. وقد يُسمع أحياناً صوت مطرقة هنا أو هناك.