"الندافة" في العراق.. مهنة تتنفس برئتي الوراثة والتقاليد
يراهن أصحاب مهنة "الندافة" في العراق على أن المستهلك المحلي سوف يبقى مقتنعا بأن منتجاتهم من الأغطية والمفروشات القطنية والنسيجية أفضل في جودتها على نظيراتها المستوردة، رغم المنافسة وغياب الدعم للحرف التقليدية واليدوية.
تتنقل كريمة هاشم مطشر، من محل إلى آخر في سوق "الندافين" في مدينة الصدر شرقي العاصمة العراقية بغداد، من أجل معاينة القطن الأجود لعمل المفروشات اللازمة لتجهيز عش الزوجية لابنها، حتى انتهى بها المطاف عند أحد الندافين الذي اتفق على أن يسلم طلبها كاملاً في غضون أيام قلائل. والنداف، أو نافش القطن، وتتكون عدته في السابق من عصا من أغصان شجر الرمان وقوس خشبي فيه وتر من سلك معدني مع مطرقة خشبية، ويقوم بندف ونفش القطن عند تمرير القطن من خلال الوتر. أما حديثاً وبسبب التطور الصناعي فقد استعاض أغلب الندافين عن القوس بالماكنة الكهربائية في عملهم.
تقاليد الزواج سر ديمومة الحرفة
تقول مطشر (52 عاما) في حوار معDWعربية إن "لمهنة الندافة في العراق حكايات مع البيوتات العراقية، إذ اعتاد النداف أن يقوم بمهنته متجولاً بين هذا البيت أو ذاك، ويتجمع من حوله الأطفال أثناء قيامه بندف القطن لصنع أغطية جديدة في مناسبات الزواج والمولود الجديد وغيرها".
"شراء جهاز الزفاف كالمفروشات القطنية من الندافين يعد تقليداً شعبياً متعارفاً عليه لدى العائلات العراقية"، توضح مطشر. "أفضل اقتناء الفرشان المحلية المصنوعة بيد الندافين على شراء المستورد، لأن مقتنياتي ستكون حسب رغبتي من حيث التصميم ونوعي القطن والقماش".
لكن على الرغم من ذلك فإن هذه المهنة بدأت تواجه منافسة قوية مع دخول العديد من المنتجات القطنية المستوردة إلى السوق العراقية. وبات أكثرهم يخشى من أن يكون مصير مهنتهم خلال السنوات القليلة تاريخاً يُعرض فقط في المتاحف، مثل تمثال النداف العجوز في "المتحف البغدادي"، والذي يجلس في ركن إحدى القاعات عند أكوام القطن وهو محاطاً بالأغطية المفروشات المصنوعة يدوياً.
تحدي المستورد رغم رخص أسعاره
في مشغل صغير متواضع وسط سوق "الأولى" في مدينة الصدر، يقوم محمد حميد وداعة مع ولديه، بتصميم وندافة مفروشات النوم التقليدية لزبائنه الذين اعتادوا على ارتياد ورشته باعتباره أحد أقدم الندافين في هذا السوق الشعبي وأكثرهم خبرة، كما يقول احدهم.
ويقول وداعة، "لم يشكل دخول المستورد رغم رخص ثمنه حاجزاً أمام ما ننتجه من قطع فنية من المفروشات القطنية، لأن المواطن سيقتنع بالتالي بأن منتجاتنا هي الأفضل"، منوهاً إلى أن "المفروشات المستوردة لا تمثل الذوق التراثي الخاص بالعائلة العراقية".
وبينما يجلس وداعة (49عاماً)، وسط أكوام القطن وينشغل بتصميم أحد المفروشات القطنية لزبونه الراغب في الزواج والذي طلب منه انجازه قبل "عيد الفطر"، يضيف قائلاً: "هناك إقبال متزايد على شراء المفروشات القطنية وأغطية النوم تزامناً مع اقتراب عيد الفطر لأن اغلب زبائننا هم من المقبلين على الزواج".
أما عن أسعار جهاز الزواج من المفروشات القطنية فيبين وداعة الذي ورث المهنة عن أبيه، أنها تختلف باختلاف نوع القطن وكذلك نوع القماش المستخدم في تصميمه، إذ تتراوح ما بين 300 ألف دينار عراقي (نحو 250 دولاراً أمريكيا) و450 ألف دينار عراقي (نحو360 دولاراً أمريكيا). ويتكون جهاز الزفاف من ست إلى ثماني وسادات مع فرشة كبيرة واثنين صغيرين، بالإضافة إلى أغطية المنام.
وينقسم العمل في محال الندافة بحسب مراحل الإنتاج، فهناك من يعمل على قص القماش وكيل القطن حسب رغبة الزبون، وهناك من يعمل على ملء القماش بالقطن و"نفشه" بواسطة عصا الخيزران أو غصن الرمان لتأخذ الشكل المطلوب. وبينما يختص البعض بتصميم الزخارف التي تنقش على واجهة الفرش، ينشغل الآخرون بإضافة بعض المواد الكمالية التي تضفي جمالية على المنتج.
عوامل مناخية وأخرى اقتصادية سبب تدهور المهنة
عمار اللامي، خريج إحدى الجامعات العراقية فضل العمل في الندافة. ولا يتفق اللامي مع ما قاله وداعة، إذ يرى أن دخول الأغطية والمفروشات المستوردة بنوعياته الرديئة والرخيصة الثمن، أثر بشكل سلبي على تراجع وتيرة عملهم. وعن المعوقات الأخرى التي تواجه عمل الندافين يبين عمار:"ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار ساهم في اختفاء أنواع معينة من القطن المحلي، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار القطن المستورد".
"لا ارغب بأن يسير أبنائي على خطاي في امتهان هذه المهنة لأنها اليوم لا تدر أي مورد مادي لكل من يعمل بها"، يضيف عمار (35 عاماً)، مشيراً إلى أن "غياب الدعم الحكومي للحرف التقليدية واليدوية سبب اندثار الكثير من المهن التراثية والتقليدية التي يعود تاريخها إلى مئات السنين".
وعن كيفية تمييز النداف الخبير عن مستطرق المهنة، يكشف عمار أن "دقة العمل وتساوي أبعاده إضافة إلى استخدام خامات قماش جيدة وخيوط ممتازة هي ما تميز النداف الخبير. بعض الندافين تكون له لمسة سحرية على المفروشات التي يصنعها ويقبل عليه الناس بكثرة بفضل مهارته وإتقانه لعمله".
زياد عباس لم يذهب بعيداً عما قالته مطشر، فـ"جودة" المفروشات التقليدية هي الدافع الأساس وراء تمسكه بها، وعدم إقباله على شراء المفروشات المستوردة. ويقول عباس في حديث مع DWعربية: "أفضل شراء كل ما احتاج إليه من مفروشات منزلية من أصحاب هذه المهنة (...) لا أحب شراء المفروشات المستوردة رغم رخص أسعارها واعتبر اغلبها رديئة".
وبعد أن انتهت مفاوضات عباس (28 عاماً) مع صاحب إحدى محال الندافة حول السعر، انتهى بشراء عدد من الفرش السريرية. ويضيف قائلاً: "لاشيء أجمل من أن تنعم بليلة هادئة على سرير صنعته أيدي حرفيي هذه المهنة التراثية التي أراها بأنها باتت اليوم تلفظ أنفاسها الأخيرة".
وبحسب مختصين بالشأن التجاري، فإن كثرة المفروشات المستوردة من الخارج وانتشارها في الأسواق العراقية، أسهمت في قلة الطلب على المنتوجات المحلية، مشيرين إلى أن اختلاف مناشئ المنتجات المستوردة وتنوع أشكالها وألوانها فضلاً عن تناسب أسعارها عدت وسائل جذب جيدة لشرائها مقارنة مع المحلي. ولم تستغن العائلات العراقية عن الذهاب لمحال الندافة المنتشرة في المناطق الشعبية رغم التطورات الصناعية المتعاقبة وغزو المنتجات القطنية والنسيجية للبلاد، إذ يزور كثير منهم محال الندافة لطلب بعض المفروشات التقليدية كالتي تعد للعرسان الجدد.
وقبل أن تخرج كريمة مطشر من محل النداف بعد الاتفاق معه على جهاز أبنها، التفتت إليه قائلة إنها ستوصي أبنها أن يقوم بتجهز مولوده الأول من الفرش والوسائد عند النداف، لأنه "مع هذا الكم الهائل من المفروشات المستوردة من الصين وتركيا وسوريا ربما سيكون من النادر مستقبلاً الحصول على الفرش والأغطية والوسائد التي اعتدنا عليها وهي من صنع النداف".