بابل.. كيف محت الحرب أعظم تراث للبشرية ؟
المصدر: ياسمين عماد– إرم نيوز
في أول جزء من سلسلة تنشرها صحيفة ”الغارديان“ البريطانية، يتناول مؤلف كتاب ”بغداد: مدينة السلام ومدينة الدم“، جوستين ماروزي، قصة هذه المدينة العراقية التي كانت قوية في أحد الأيام، وما تمثله من صورة مصغرة لتاريخ البشرية، وما حل بها من حصار وحروب.
وأكد الكاتب في الصحيفة البريطانية، أنه من بين جميع المدن الضائعة في العالم، لا شيء يمكن أن ينافس روعة أو تاريخ أو غموض بابل، فهنا، على السهول الصحراوية التي تبعد 60 ميلًا من جنوب بغداد، حيث تحول الشمس الآفاق إلى برك مضيئة من الزئبق، بدأ الكثير من التاريخ الإنساني.
ويحد أرض الهلال الخصيب، نهرا دجلة والفرات، وهذه تباعًا مملكة سومر وأكاد، وآشور، وبابل، بلاد ما بين النهرين والعراق، وقد قيل إن جنة عدن آدم وحواء كانت في مكان قريب.
وإذا كانت بلاد ما بين النهرين هي مهد الحضارة المدنية، فبابل هي الطفل الأول، وقد تم ذكرها لأول مرة في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وتلوح بداية عهد حمورابي بصورة أكبر في السجلات في حوالي العام 1792 قبل الميلاد.
وأوضح، أن ملك بابل الثاني الأكثر شهرة، يتم تذكره لشريعته القانونية التي لا هوادة فيها، والتي تنتهي العديد من نصوصها، بالعبارة المنذرة بالسوء: ”يجب أن يتعرض للموت“، والتي تقبع اليوم في متحف اللوفر على حجر الديوريت الأسود المنحوت ذي الأقدام الثمانية، وكان حمورابي هو أول من صاغ بابل كعاصمة لمملكة تشمل جنوب بلاد ما بين النهرين وجزءا من الإمبراطورية الآشورية في شمال العراق.
ولكن بابل التي تثير التشويق لدى أي شخص، حتى لو كان لديه اهتمام عابر بالتاريخ، هي مدينة المناهض لبطل العهد القديم: ذبح اليهود، وتحطيم المعابد، والطاغية المحب للذهب، نبوخذ نصر الثاني، والذي نجح في الوصول إلى العرش في العام 605 قبل الميلاد.
وبعد عودته من زوبعة من الغزو العسكري في مصر وسوريا، انخرط نبوخذ نصر في برنامج بناء ضخم، ما أدى إلى إنشاء أكبر وأعرق مدينة في العالم القديم، فقد كانت مشهدًا حضاريًا مبهرًا، حيث المعابد الشاهقة والأضرحة والقصور جميعها يزينها البلاط الأزرق المزجج، والمتألق في الذهب والفضة والبرونز، وجميعها محاطة بأسوار المدينة الضخمة، حتى أن مركبتين ضخمتين تجر كل منهما أربعة خيول، تستطيعان المرور بكل سهولة على الطريق الذي يجري فوقهما.
وأشار الكاتب إلى أن هذا الوصف هو وفقًا للجغرافي اليوناني سترابو.
وقد نتج أيضًا عن جنون نبوخذ نصر الإمبراطوري في البناء، النصب الأكثر شهرة في المدينة، وهو بناء غاية في الطموح، حتى أصبح المبنى الأكثر شهرة في العالم، ويعرفه البابليون بالبرج الذي يبلغ طوله 91 مترًا، أو زقورة إيتيمينانكي على رأس معبد مردوخ، ”بيت الحدود بين السماء والأرض“. وقد عرفه بقية العالم، بدءًا من قراء العهد القديم، بأنها برج بابل.
وأشار ماروزي، إلى أن كل ما نعرفه عن بابل يأتي من قبل مجموعة من العلماء الكلاسيكيين، مثل هيرودوت، المؤرخ اليوناني القديم من القرن الخامس قبل الميلاد، وفي مقدمتهم الحفريات الأثرية والأدلة من النصوص المسمارية.
ويوفر هيرودوت، واحدًا من أقدم وأكثر الوصوفات التفصيلية لبابل، ففي مجلده الرائع ”التاريخ“، يكرس هيرودوت 10 صفحات للمدينة، وهو مزيج اعتيادي لديه من الحقيقة والخيال المحتمل وبعض الجنس للحفاظ على اهتمام جمهوره.
ويبدأ هيرودوت وصفه للمدينة: ”تقع بابل في سهل واسع، وهي مدينة واسعة مربعة الشكل مع جوانب يبلغ طولها ما يقرب من 14 ميلًا، وتحيط نحو 56 ميلًا، بالإضافة إلى حجم هائل يفوق عظمة أي مدينة من العالم المعروف، ويحيط بها خندق عميق واسع مملوء بالمياه، وهناك بداخل هذا الخندق جدار يبلغ اتساعه 50 ذراعًا، وارتفاعه 200 ذراع“.
وكان هناك عدد من المعابد الصغيرة في هذا القسم الشرقي القديم من المدينة، جنبًا إلى جنب مع أرصفة للسفن التجارية، وهو ما يشير إلى ازدهار بابل الرائع الذي نتج عن الغزو والتجارة، وضمن شبكة متقنة من الشوارع، كان الشريان الرئيسي والأهم هو الطريق الموكبي، وهو طريق ممهد يمتد من الشمال من خلال بوابة عشتار، ومنمق بالثيران والتنين الخاص بـ ”بيت مهرجان العام الجديد“ .
وتشير نقوش نبوخذ نصر والتي تدعو للفخر رغم الطوب المحروق، والتي أعقبت تقليد ملوك بابل المتعلقة بإنجازاتهم المعمارية بدلًا من العسكرية، إلى أدلة على قيمة المدينة، فهو يتحدث في أحدها عن العمل على بوابتين على طول الطريق الموكبي.
وأوضح الكاتب ماروزي في مقاله بالصحيفة، أن قصة بابل هي المد والجزر للذبح والرحمة والحرب والسلام، فهي صورة مصغرة من تاريخ البشرية. وهي حكاية عن الجشع والغطرسة، والإمبراطورية والاضطهاد الديني، كذلك الحضارة الإنسانية، والثروة الهائلة، والمجد المعماري والتسامح الديني، فهي تلخص أفضل الصفات البشرية، وتظهر في وسائل الإعلام في العالم خلال حرب العراق على وجه التحديد، لأن بابل هي مصدر تاريخنا، فولادة الحضارة البشرية ملك لنا جميعًا.
وقال، إنه زار الموقع في نوفمبر 2004، حينما كانت القوات البولندية تستعد لتسليمها إلى السلطات العراقية، وقد حذره الراحل دوني جورج، الذي كان وقتئذ رئيس متحف العراق، في بغداد من الأضرار الرهيبة التي لحقت بالموقع من قبل الجيش البولندي، وكان مذعورًا من تقارير حول قيام جنود بملء حقائب الرمل بتراب الأرض التي تحتوي على قطع أثرية، حيث سحقت العربات المدرعة الطوب الذي يعود للقرن السادس قبل الميلاد على الطريق الموكبي، كما اقتلع اللصوص قطعًا من التنين على بوابة عشتار في هذه المدينة القديمة، وأضاف: ”هذا أعظم موقع تراثي للبشرية“.
واختتم ماروزي مقاله، قائلًا إن بابل قد مضى عليها وقت طويل منذ ازدهارها في الأرض، وتمت محاصرتها من قبل الحروب، والطقس والزمن.
وكانت عمليات السلب والنهب وتجريف العام 2003 هي آخر هجوم على النسيج المتقلص في المدينة، مقر الإمبراطورية التي شملت العالم ومنحتها اسمها، لتدل على العظمة والثروة التي لا تعد ولا تحصى، ناهيك عن الانحطاط والفجور.
رغم أن معظم أنقاضها القديمة انقرضت تقريبًا، من خلال دورة الدمار والإعمار وفي ذاكرتنا الجماعية ما يعنيه أن يكون إنسانا، ستظل بابل صامدة دائمًا.