السليمانية.. بيروت كوردستان العراق وعاصمتها الثقافية
مدينة تشبه أهلها الذين منحوها هويتها وأسلوبها وشخصيتها المميزة عن باقي مدن العراق
معد فياض: سبع سنوات تقريبا، مضت على تغيير النظام في العراق. سبع سنوات مرت من حياة العراقيين الذين يستعدون في بداية العام المقبل للمشاركة في ثالث عملية انتخابات برلمانية. سبع سنوات انطفأت، أو اشتعلت، في التاريخ العراقي الجديد الذي صار يصنف، حسب الأحداث، بما قبل أو ما بعد السقوط أو التحرير أو الاحتلال الامريكي لبلد عرف بأنه وأهله، عصي على الاحتلال والمحتلين. بلد استطاعت شعوبه وعبر آلاف السنين نسج مجتمع متعدد الأديان والطوائف والقوميات، هذا النسيج يبدو حتى اليوم، قويا على الرغم من التفجيرات والاقتتال والتدخلات الإقليمية التي تتشابك مصالحها فوق أرضه وبين ناسه.
سبع سنوات مضت على وعود السياسيين الجدد والأحزاب، التي عارضت بالأمس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وبشرت بوعود بناء «العراق الجديد»، كما أطلق عليه الامريكيون لدى الغزو، كدولة مؤسساتية فيدرالية يسودها ربيع النظام الديمقراطي بعيدا عن خريف الانقسامات، وينتصر فيها القانون للمظلومين.
ولكن كيف هو وضع العراق الجديد بعد سبع سنوات من التضحيات الجسام والتفجيرات والاختطافات وسيادة الميليشيات وغياب القانون في أجزاء كبيرة من ربوع الرافدين اللذين يعانيان الجفاف؟ فهل هذه السنوات السبع العجاف، والتي ستليها، سنوات خير أم أن جفاف الأرواح والأفكار والحياة سيستمر كعنوان لهذا البلد؟
«الشرق الأوسط» لم تذهب إلى السياسيين الذين وعدوا العراقيين، وما زالوا، بحياة مؤثثة بالربيع، بل ذهبت إلى الناس، رصدت حياتهم عن قرب وفوق أرضهم لتنقل صورا من «العراق الجديد» من غير تزويق أو تحريف.
بدأنا برصد الحياة في العاصمة بغداد، ثم هبطنا إلى البصرة، ثاني مدن العراق «وثغره الباسم»، لنصعد إلى شماله في كركوك «مدينة التآخي» التي تتحدث بأربع لغات، ومن هناك اجتزنا بوابة إقليم كوردستان لنتوقف عند قلعة أربيل، قبل أن نصل إلى السليمانية (بيروت كوردستان).
وفي هذه الجولة، تعمدنا التوقف في «لالش» حيث معابد الإيزيديين؛ الدين الذي اختلف فيه كثير من الباحثين الذين حملوه أكثر مما يجب من العناوين الغريبة. هنا صور وخرائط عن «العراق الجديد». عندما أعلنت مضيفة طائرة الخطوط الجوية العراقية عن قرب هبوط الطائرة في مطار السليمانية الدولي وبالتطلع إلى المدينة من الجو بدت مثل ثريا كبيرة مضيئة وكان السؤال: أين وكيف يمكن لهذه الطائرة أن تهبط؟ فالجبال تحاصرها وتسوّرها بسياج صخري، والعمران اتسع وتتداخل بحيث لم يترك مساحة لهبوط طائرة بهذا الحجم، لكن المطار هناك، يختبئ بين المدينة والجبل، والأحياء السكنية التي امتدت حتى البوابة الخارجية للمطار.
فحتى عشر سنوات خلت كان نظر المرء يتسع للمشهد العام لمدينة السليمانية لصغر مساحتها وقلة عمرانها، أما اليوم وعند النظر إلى المدينة من قمة جبل أزمر الذي يحتضن السليمانية، فيحتاج إلى وفرة من الوقت كي يدقق في أرجائها التي اتسعت، بل اتسعت كثيرا.
وحسب الصحافي الكوردي محمد عثمان فإن «البناء والإعمار كان محرما على أهل هذه المدينة من قبل النظام السابق، وكان ممنوعا على الكوردي في أي مدينة كردية أن يبني غرفة إضافية في بيته، أو أن يتوسع في عقاره، والشارع الذي يحيط بالسليمانية اليوم كان بمثابة الأرض الحرام التي لا يستطيع أن يصلها أي مواطن، وإذا ما أخطأ أي شخص وتجاوز الخطوط الحمر التي كانت قد فرضتها القوات الأمنية في عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين فإن رشقات من الرصاص تستقبله بكل كرم.
ويضيف الصحافي الذي يترأس تحرير صحيفة «الإنصات المركزي» الصادرة عن مكتب الإعلام المركزي للاتحاد الوطني الكوردستاني الذي يتزعمه الرئيس العراقي جلال طالباني: «الخطوط الحمراء كانت مفروضة في كل شيء وعلى كل شيء، حتى إن مديرية أمن السليمانية، والتي كان مجرد ذكرها يزرع الرعب في نفوس الناس، كان الناس يسمونها باللغة الكوردية (أمنه سوره كا) وتعني الأمن الأحمر، نسبة إلى الدماء التي أهدرت في داخلها، وطابوقها الأحمر الذي بُنيت منه، فقد كان الداخل إلى هذه البناية مفقودا تماما، ونادرا ما خرج منها معتقل أو حتى مشتبه به. هذه البناية تحولت اليوم إلى متحف يخلد الشهداء الذين تم تعذيبهم وإعدامهم فيها، ولعرض حقائق الاضطهاد الذي كان يعاني منه المواطن الكوردي في ظل النظام السابق.
لكن المدينة تتمدد اليوم وتسترخي على مساحات شاسعة للغاية، فمن جهتَي الجبال زحفت الأحياء السكنية حتى السفوح العالية، فشرقا بُنيت أحياء راقية على سفح جبل أزمر، والأحياء تداخلت وتشابكت لتكون نسيجا من البيوت الجديدة التي تحيط بمركزها القديم.
يقول مسؤول حكومي في محافظة السليمانية: «كان لا بد للحكومة المحلية أن تمنح المواطن أبسط حقوقه وهو حق السكن بعد أن كان محروما من التملك والبناء لهذا تم توزيع الأراضي السكنية على المواطنين وكذلك عوائل شهداء الثورة الكوردية، لهذا تشاهد هذا الاتساع في البناء، فالعائلة التي كانت تعيش في بيت واحد مع أبنائها وزوجاتهم انشطرت إلى عوائل عدة وبيوت متعددة.
السليمانية التي تعد ثانية أكبر مدينة في إقليم كوردستان العراق بعد عاصمة الإقليم أربيل، تقع شمال شرق العراق (355 كلم شمال شرق العاصمة بغداد)، متاخمة لإيران التي تحدها من الشرق، وترتفع عن مستوى سطح البحر 2895 قدما، ومحاطة بسلسلة من الجبال، حيث يقع جبل أزمر (يبلغ ارتفاعه مترين و1700 متر) وجبل كويزة (ارتفاعه 1524 مترا) شمال شرقي المدينة، بينما يقع جبل برانان (ارتفاعه 1373 مترا) في جنوبها ويمتد سهل شهرزور غربي المدينة، أما جبل بيره مكرون فهو يضم أعلى قمة في المحافظة ويقع شمال غربي المدينة.
وحسب تاريخ المدينة، فإن البابانيين (نسبة إلى عشائر بابان الكوردية) فكروا في إنشاء مدينة السليمانية كبديل عن مركز إمارتهم في قرية قلاجوالان التي تحولت فيما بعد إلى معقل لمقرات الاتحاد الوطني الكوردستاني. وما دفعهم إلى التفكير في بناء مدينة معاصرة هو نمو الحركة الثقافية ولغرض توسيع نفوذهم، وكي تصبح رمزا للثقافة ومركزا لسلطتهم بعيدا عن تأثيرات الفرس والأتراك. وهكذا بدأ الأمير الباباني إبراهيم باشا، بعد سيطرته على السلطة ببناء السليمانية عام 1783 كمدينة صغيرة في قرية ملكدني، وأطلق عليها تسميتها الحالية (السليمانية) نسبة إلى اسم والده سليمان باشا أحد أمراء سلالة بابان. وقد تحولت السليمانية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى مركز للثقافة القومية والحركات السياسية الكوردية، وأرضا خصبة لتوالد الثورات الكوردية المتتالية.
السليمانية مدينة تشبه أهلها، فقد منحوها هويتها وأسلوبها وشخصيتها المميزة عن باقي مدن إقليم كوردستان خصوصا، والعراق عموما، فهي العاصمة الثقافية للكورد، وتعد مركزا هاما للهجة السورانية الكوردية، وينحدر منها الكثير من الكتاب والروائيين والفنانين التشكيليين والموسيقيين. ففي هذه المدينة، دون غيرها من المدن الكوردية، تجد أن الثقافة امتزجت في حياة الناس وصارت جزءا من أشيائهم اليومية وضروراتهم الحياتية وذلك من خلال انتشار الكتب التي تباع فوق أرصفة الساحة الرئيسية لمركز المدينة قبيل شارع المكتبات الذي يضم أيضا محلات لبيع الآلات الموسيقية التراثية والمعاصرة. والأهم من هذا أن هذه المدينة تضم واحدة من أهم المؤسسات الثقافية الكوردية، «دار سردم» التي يترأس مجلس إدارتها الشاعر الكوردي المعروف عالميا شيركو بيكس، أو كما يفضل أن يكتب اسمه باللغة الكوردية (شيركو بيكه س) والتي من أوليات مهامها «نشر الإبداع الكوردي باللغة الكوردية وترجمته إلى اللغتين العربية والإنجليزية، وكذلك خلق التواصل الثقافي الكوردي العربي»، سواء عن طريق الفصلية الثقافية «سردم» الصادرة باللغتين الكوردية والعربية، أو من خلال عشرات الكتب التي تخرج عن هذه المؤسسة التي يتوسط واحد من أهم شوارع السليمانية (شارع سالم).
بدخول إحدى مكتبات المدينة والسؤال عن عنوان كتاب باللغة العربية يتحمس صاحب المكتبة ويجيب باستفاضة بأن اسم مؤلف الكتاب كذا وله عدد من المؤلفات، وأن الكتاب الذي نسأل عنه هو طباعة بغداد، ثم يدلنا على مكان وجوده، في «مكتبة الشعب» التي تحتل ركنا في مقهى المثقفين، «مقهى الشعب»، وسط سوق السليمانية. وداخل المقهى يجد الزائر صور الشعراء والكتاب الكورد تزين جدران المقهى الذي يلتقي فيه عادة غالبية من المثقفين الكورد.
غيرَ بعيدٍ عن هذا المقهى القديم يقوم محل «أوسكار» الذي يضم روائع الموسيقى والغناء العربي والكوردي، ونوادر التسجيلات لأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفيروز إلى جانب الأغاني الكوردية الهورامية والكلاسيكية والمعاصرة.
إن أهالي السليمانية يعتزون بوصف مدينتهم مركزا ثقافيا، فهنا قامت أولى دور العرض السينمائي في هذا الجزء الحيوي من العراق، وللأسف انحسرت هذه الدور العريقة لتقوم مكانها أسواق تجارية وفنادق فخمة. بينما لا يزال المسرح ودور العرض التشكيلي تقاوم مغريات الغزو التجاري. إحدى هذه الدور هي سينما «سيروان» التي تهرأت واجهتها حيث جلس أربعة من كبار السن يلعبون الدومينو عند مدخلها الذي لم يعد يزدحم بالمشاهدين، قال أحدهم وكان يعمل قاطع تذاكر للسينما: «لقد ذهب مجد هذه السينما التي كانت تشهد ازدحاما متواصلا لعرضها أفلاما متميزة، وكانت هناك أماكن وأوقات عرض خاصة للعائلات، أما اليوم فقد باعها أصحابها، وسيتم هدمها لتتحول إلى أسواق تجارية لكونها تقع في القلب التجاري للمدينة من جهة، ولم تعد مجدية اقتصاديا لأصحابها من جهة ثانية، مشيرا إلى أن «هناك دار عرض سينمائي جديدة تم افتتاحها في مصيف سرجنار وتحمل اسم (سينما المدينة).
ولعل ما أسهم في تكريس الدور الثقافي لمدينة السليمانية هو تأسيس جامعتها منذ وقت مبكر، إذ تم تأسيس جامعة السليمانية عام 1968، والتي كانت تضم العديد من الأقسام والكليات العلمية والإنسانية التي كانت تدرس باللغات الكوردية والعربية والإنكليزية، وفي عام 1980 قرر نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين معاقبة أهالي السليمانية فعمد إلى نقل جامعتها إلى مدينة أربيل تحت اسم «جامعة صلاح الدين»، لكن حكومة الإقليم أعادت للتعليم العالي في المدينة اعتباره فأسست من جديد جامعة السليمانية عام 1991. بل كرست الحكومة الدور الجامعي للسليمانية فأسست الجامعة الامريكية عام 2007، وقبلها جامعة كويه في قضاء كويه التابع للمحافظة.
الجامعة الامريكية هي الإنجاز العلمي والحضاري الأحدث في المدينة، فهي اليوم تزدحم بالطلبة العراقيين الذين جاءوها من جميع المحافظات العراقية، إذ أجمع عدد من طلبتها على أن «هذه الجامعة فتحت أمامنا بوابة الأمل في أن نبدأ حياة دراسية متطورة والحصول على شهادة معترف بها محليا ودوليا». وتدرس الجامعة الامريكية التي كانت قد افتتحت بجهود من الدكتور برهم صالح رئيس أمناء الجامعة نائب رئيس الوزراء العراقي سابقا ورئيس حكومة الإقليم حاليا، ثلاثة اختصاصات تصبّ في علوم إدارة الأعمال والكومبيوتر والعلاقات الدولية، إضافة إلى تدريس اللغة الإنجليزية في العام الأول.
الطالبة لانا لطيف من بغداد، التي تدرس حاليا اللغة الإنجليزية، في عامها الأول، قالت إنها ستتخصص في العلوم الإدارية، مشيرة إلى أنها اختارت هذه الجامعة لكونها «الجامعة الوحيدة في العراق التي تدرس وفق أسلوب علمي متطور كما أن شهادتها معترَف بها عالميا، ذلك أن الشهادة التي سأحصل عليها من أي جامعة عراقية غير معترف بها خارج حدود البلد». وتوضح أن «تكاليف الدراسة سنويا تبلغ عشرة آلاف دولار امريكي، وهو مبلغ لم يعد كبيرا اليوم في العراق، كما أنه ليس مرتفعا إذا ما قارنّا بين تكاليف الدراسة في هذه الجامعة وبقية الجامعات الامريكية في الوطن العربي، كما أنها، ومن حيث المناهج وطرق التدريس أفضل بكثير من بقية الجامعات العراقية.
إلا أنه ليس كل الطلبة هم من يتحملون دفع تكاليف الدراسة، فهناك مؤسسات علمية أو منظمات مجتمع مدني تتحمل تكاليف دراسة بعض الطلبة، إذ خصص الرئيس العراقي جلال طالباني، وكذلك رئيس إقليم كوردستان مسعود بارزاني وحكومة الإقليم ومنظمة «واعدون» التي تهتم بالمتفوقين دراسيا من الطلبة العراقيين، بعثات دراسية مجانية لبعض الطلبة.
الدكتور برهم صالح رئيس أمناء الجامعة أكد لـ«الشرق الأوسط» أنه فكر في إنشاء هذه الجامعة كي يضيف مؤسسة علمية متطورة إلى باقي المؤسسات الأكاديمية العراقية و«من أجل أن يجد الطالب العراقي المكان المناسب لدراسته بدلا من أن يترك العراق للدراسة في الجامعات الامريكية الأخرى التي تتطلب الدراسة والحياة فيها تكاليف عالية»، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن «غالبية من الطلبة هنا حصلنا لهم على دعم سواء من الرئيس جلال طالباني أو من منظمة «واعدون» التي أترأسها والتي تدعم الطلبة العراقيين ماليا وعلميا، ومن مؤسسات علمية ومنظمات مهنية بعيدا عن السياسة وشروطها». وقال صالح إنه «تم مؤخرا التوقيع مع شركة هندسية عقدا ببناء منشآت الجامعة على أرض واسعة جدا حيث ستضم المرافق العلمية ومنشآت إسكان الطلبة وأسواق ودور عرض سينمائية وفنادق ومسارح.
الدكتور جوشوا ميتشل، وهو امريكي يرأس الجامعة، كشف عن الخطط المستقبلية للجامعة وقال: «سنفتح كليات علمية أخرى وسنفتح جامعات مماثلة أخرى في بغداد والبصرة»، مشيرا إلى أن «تكاليف الدراسة هنا هي الأقل بين الجامعات الامريكية في عموم العالم، ذلك أن هدفنا هو ليس تحقيق الأرباح بقدر ما نريد أن نبني جيلا من الخريجين الذين سيسهمون بإعادة البناء في العراق.
الصرح الحضاري الآخر الذي تفتخر به هذه المدينة هو مركز الفنون الذي يعد واحدا من أكبر المؤسسات الفنية في العراق حيث يضم صالات حديثة للعروض المسرحية والموسيقية والتشكيلية، وقد أتيح لنا حضور عرض موسيقي غنائي قدمته فرقة نسائية هي الأولى من نوعها في العراق وتضم عازفات ومغنيات يؤدين الموسيقى والقصائد الكوردية. هذا المركز الضخم يقع في شارع يحمل اسم الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري (شارع الجواهري)، ويوضح الكاتب والصحافي الكوردي ستران عبد الله أن «مدينة السليمانية هي الوحيدة التي أطلقت اسم الشاعر الجواهري على واحد من أهم وأكبر شوارعها.
باستثناء عدم تحدث غالبية من الشباب اللغة العربية، فإن الزائر لهذه المدينة لا يشعر بالغربة فيها وبين أهلها، فاللغة العربية يجيد التحدث بها وكتابتها بقواعدها النحوية السليمة غالبية المثقفين، فإن أجيالا من الشباب والفتيان حُرموا تعلُّمها بسبب القطيعة التي حدثت بين كوردستان وبغداد منذ ما قبل التسعينات وحتى 2003.
فرهاد، طالب في كلية الزراعة بجامعة السليمانية، يوضح أكثر قائلا: «هناك أيضا ردة فعل طبيعية حدثت ضد كل ما هو عربي بسبب الممارسات الوحشية للنظام السابق ضد الكورد، فأنا أنحدر من قضاء حلبجة الذي قصفته طائرات النظام السابق بالأسلحة الكيماوية وخلفت أكثر من خمسة آلاف ضحية من الأطفال والنساء والرجال خلال نصف ساعة، فمن الصعب أن تطلب مني أو من أهلي تعلم العربية وقد اقترنت بمن جاء إلينا بالموت المجاني»، مستطردا: «أنا لا أريد تعلم العربية، بل لا أختلط كثيرا بالعرب الذين يقيمون هنا أو يزورون السليمانية لأغراض السياحة، ولا أفكر في زيارة بغداد. عالمي هنا وأنا سعيد بهذا.
لكن زميلة لهذا الطالب تدرس الفنون التشكيلية تنظر إلى هذه الأفكار بدهشة وتقول: «أنا درست لعامين في جامعة بغداد قبل أن أنتقل إلى هذه الجامعة، وأنا كوردية ومن السليمانية وليست لدي أي ردة فعل ضد أي عراقي آخر لأن العراقيين لا ذنب لهم في ما اقترفه النظام السابق ضدنا وضد شعبي، بل إن غالبية العراقيين، سواء كانوا من العرب أو الكورد، عانوا كثيرا من ممارسات نظام صدام، معترفة بأن لها علاقات صداقة حميمة مع طلبة من العرب العراقيين، والأكثر من هذا هي لا تمانع في أن تتزوج عربيا عراقيا إذا ما ارتبطت بعلاقة صحيحة معه. وترد هذه الجامعية، التي رفضت نشر اسمها، على زميلها فرهاد قائلة: «هو لا يفكر في زيارة بغداد لأنه لم يزرها في حياته وبقي محددا بمساحة السليمانية التي هي صغيرة جدا قياسا بمساحات العاصمة بغداد، كما أنه لم يتعرف أهلَها، ولو فعل ذلك لما قال ما يفكر فيه حاليا. بغداد مدينة جميلة وأهلها منفتحون أمام كل العراقيين، ولم أشعر يوما هناك بأني غريبة؛ كيف أشعر بالغربة وأنا عراقية في مدينة عراقية وبين عراقيين؟.
سوق السليمانية القديمة (القيصرية) واحدة من أجمل مآثرها الحياتية واليومية، فهي مهرجان للألوان والأصوات معا، ألوان الفاكهة والخضار والملابس الكوردية الزاهية، تتداخل مع أصوات الباعة الذين يروجون لبضائعهم بكلمات تتناغم موسيقيا مع الإيقاع السريع الذي يسود حركة الناس.
هذه السوق تتفرع إلى أسواق عدة، فهنا سوق الخضار والفواكه، ومنها تتفرع سوق الملابس والأقمشة النسائية، تدور هذه السوق لتقودنا إلى سوق الصاغة والذهب التي تقع خلفها مباشرة سوق الأجهزة الكهربائية التي تلتقي مع سوق السجاد المنسوج يدويا، وإذا ما اتجهت شمالا فسوف يأخذك الطريق إلى سوق الحلوجية حيث تشتهر هذه المدينة ببضعة «أسطوات» صناعة الحلويات التقليدية الخاصة بالسليمانية.
وإذا ما تطلعت إلى المدينة من الطابق العلوي لفندق قصر السليمانية (واحد من أقدم فنادقها وأكبرها) فسوف تكتشف أن السليمانية قد تحولت إلى ورشة عمل دائمة، فالعمال يصلون بجهودهم بين النهار والليل من أجل إنجاز المشروعات الخدمية بفترة استثنائية، مشروعات لم تستطع الأيدي العاملة المحلية إنجازها فاستعانت شركات المقاولات بالعمال القادمين من جنوب العراق وشرقه وغربه لبناء الطرق المعلقة والجسور الداخلية وطرق المرور السريع والفنادق والمجمعات السكنية التي انتشرت في جهات السليمانية الأربع. ففي شمال المدينة كانت أرض خربة تحولت خلال عامين إلى واحدة من أكبر وأجمل المجمعات السكنية التي أنشئت على مساحة 122 دونمًا وتضم 804 وحدات سكنية توزعت على فيلات وشقق أنيقة ضمتها 16 عمارة واسعة ترتفع إلى 11 طابقا إذ تم تنفيذ هذه القرية التي أضفت على معالم المدينة أسلوبا سكنيا ومعماريا ولونيا مختلفا تماما عما هو شائع، على مرحلتين أطلق عليها «القرية الألمانية» لأنها استمدت من العمارة الألمانية بعض خطوطها ولكون صاحب الشركة تاليا كان يقيم هناك. ويوضح شاسوار عبد الواحد صاحب الشركة على الرغم من أنه ما زال شابا (31 عاما)، أن هناك «مشروعا سكنيا آخر ضخما سيتم الانتهاء من تنفيذه قريبا وهو (كورد سيتي) 1 و2 الذي يضم 1284 وحدة سكنية لأصحاب الدخل المحدود إذ تسهم حكومة الإقليم بدفع نصف سعر الوحدة السكنية بينما يتحمل المواطن المستفيد دفع النصف الآخر بالتقسيط المريح وعلى مدى عشر سنوات، وهذا يحدث للمرة الأولى في العراق أن تبيع شركة مقاولات شققا وبيوتا سكنية بالأقساط بهذه الطريقة من غير أن تطلب أي ضمانات من مصارف أو من الدولة»، مشيرا إلى أن أسعار شقق وفيلات القرية الألمانية مرتفعة بعض الشيء لكونها مترفة وواسعة بينما الوحدات السكنية لمشروعَي «كورد سيتي» 1 و2 بيعت بأسعار تناسب الموظفين على الرغم من أنها تضم جميع الخدمات الحياتية وتعد شققا مترفة قياسا إلى الموجود حاليا وحتى مستقبلا».
عبد الواحد الذي بدأ العمل في المقاولات البسيطة ثم تدرج في إقامة مشروعات سكنية صغيرة قبل أن يبدأ بتنفيذ القرية الألمانية يؤكد أن «ميزانية هذه المشروعات بلغت أكثر من 190 مليون دولار، مع أننا بدأنا بمبلغ 8 ملايين دولار وحصلنا على قروض من مصارف حكومية وخاصة»، منوها بأن «الفرصة الآن مثالية للاستثمار في العراق وبخاصة في مدن إقليم كوردستان حيث يشجع قانون الاستثمار والوضع الأمني والتسهيلات التي تقدمها الحكومة المحلية للمستثمرين، وهناك الكثير من المستثمرين العراقيين عادوا إلى الإقليم من الخارج واستثمروا في المشروعات السكنية والسياحية ومشروعات العقارات التجارية، فنحن على سبيل المثال ننفذ حاليا أضخم مشروع سياحي في العراق وفي عموم المنطقة تبلغ كلفته 110 ملايين دولار وهو عبارة عن مد تلفريك بطول 2020 مترا وبارتفاع 700 متر مع بناء أكبر مدينتين للألعاب، إحداها مغلقة والأخرى مفتوحة».
ولا يقدم عبد الواحد نفسه باعتباره مضحيا من أجل إسكان مواطنيه ورفاهيتهم فحسب، بل يكشف عن أهدافه بقوله: «أولا هذه المشروعات تحل مشكلات السكن في المدينة، وتسهم برفاهية الناس، غير هذا فإنها تحقق لنا أرباحا جيدة وبفترة قياسية، ثم إننا اعتمدنا على الأيدي العاملة العراقية ومن جميع المحافظات، كما تضفي (المشروعات) طابعا جماليا على مدينتنا التي وُلدنا وترعرعنا بها».
لكن السليمانية لا تزال تعاني من مشكلات شحة الخدمات خصوصا في مجالَي الطاقة الكهربائية والمياه الصالحة للشرب، وحسب معلومات قيادي في حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني فإن «الإدارة الامريكية خصصت مبلغ مائة مليون دولار لمعالجة شحة المياه، ولكن الإدارة المحلية في السليمانية أصرت على تنفيذ المشروع بشكل مباشر ومن قِبلها، فتسلمت المبلغ ولم ينجز المشروع وصار على هذه الإدارة اليوم صرف مبلغ 120 مليون دولار لإنجاز المشروع بينما في أربيل قامت شركة امريكية بتنفيذ المشروع بالتعاون مع شركة محلية، وهكذا حلت أربيل مشكلتها مع المياه قبل السليمانية بعام ونصف العام»، ويشير المسؤول ذاته، وقد فضّل عدم نشر اسمه، إلى أن «مشكلة شحة التيار الكهربائي سببها أن الشركة المجهزة للكهرباء لها ديون في ذمة الحكومة المحلية لهذا وقفت أو قلصت خدماتها وسوف تحل الحكومة الجديدة هذه المشكلة عن طريق تسديد الديون للشركة».
حركة العمران الجديدة فرضت تقاليد اجتماعية جديدة على حياة الناس، تقاليد جاءت في صالح الشباب أكثر من غيرهم، حسبما يوضح مصورنا كاميران نجم الذي يعد خير دليل لمناطق السليمانية. فالأبنية التجارية الجديدة خصصت مساحات فارهة للمقاهي ومطاعم الوجبات السريعة التي تزدحم عادة بالشباب من الجنسين، وساعدت الأفكار المنفتحة لأهالي هذه المدينة على رواج هذه المقاهي وتقبلها. يقول آزاد، وهو طالب جامعي كان يجلس في واحد من تلك المقاهي المطلية من الداخل بالأصفر والبرتقالي والأزرق الباهت، وإلى جانبه عدد من الشابات والشبان مستمتعين بالموسيقى الغربية التي تنبعث من مكبر الصوت، إن «هذه الأماكن تتيح لنا فرص اللقاء مع زملائنا وأصدقائنا بعدما كانت السليمانية تخلو من المقاهي المخصصة للشباب باستثناء الفنادق التي لا يدخلها سوى كبار السن أو النزلاء من الغرباء»، بينما تستطرد زميلته هلالة، وتعني الجميلة، قائلة: «نحن لا نستطيع دخول الفنادق أو المقاهي العامة المخصصة للرجال فقط، وكنا نأمل انتشار مقاهٍ شبابية نلتقي فيها ونتبادل الآراء ونقضي مع زملائنا وأصدقائنا أوقاتا جميلة وبريئة، وهي بالتالي لقاءات تتم في وضح النهار وأمام أعين الناس، أي لا تحوم حولها الشبهات».
فكرة هذه المقهى نقلها صاحبها الذي كان مقيما في هولندا ويحمل الجنسية الهولندية مع أنه ينحدر أصلا من السليمانية، يوضح هيوا عبد القادر الذي يدير المقهى: «كنا نتوقع نجاح مثل هذا المقهى لأننا نعرف أن الحياة الاجتماعية لأهالي السليمانية تسمح بمثل هذه الممارسات الاجتماعية، ففي هذه المدينة أنشئت أولى دور العرض السينمائي التي كانت العوائل تذهب إليها وتستمتع بعروض أفلامها، والمعروف عن أهالي السليمانية حبهم للموسيقى والرقصات الكوردية (الدبكات) والفرح».
السليمانية بأجوائها وعمرانها وحياتها الجديدة بدت كأنها بيروتُ كوردستان العراق، فهي المدينة التي يمتزج فيها الجبل والسهل، وتتداخل فيها حياة المصايف بمناخاتها الطبيعية الرائعة، خصوصا مصيف أحمد آوا، وأزمر ودوكان، وعشرات المصايف الأخرى التي تنتظر المزيد من الفرص الاستثمارية لتضع نفسها فوق خارطة المصايف العالمية.