نعلم جميعاً أن سويسرا بلدٌ محايد، لم تدخل في الحرب العالمية الأولى ولم تشترك في الثانية، أليس كذلك؟ حسناً، لم تكن سويسرا دولة محايدة دائماً، بل كان الجنود السويسريون من أقوى جنود المشاة في أوروبا. على أي حال، مرّ البلد بحدثين رئيسيين شكّلا السياسة السويسرية التي نعرفها اليوم.
كان اتحاد Helvetii القبلي مجموعة من القبائل الغالية (والغاليون هو الإسم الذي أطلقه الرومان على الشعوب الكلتية التي عاشت في فرنسا والأراضي المجاورة)، واجهت هذه القبائل (يوليوس قيصر) خلال الفترات الأولى من حروب الغال. استقر شعب Helvetii في مرتفعات جبال الألب وتوقفت الهجرة بعد خوضهم معركة طاحنة أدت إلى هزيمتهم، وبقي الشعب هناك محافظاً على تجانسه على مر قرون من الصراع الأوروبي الذي أدى إلى سقوط روما وبدء فترة القرون الوسطى، وفي نهاية المطاف، حصل اندماج بين السكان الأصليين مع آخرين من إيطاليا وفرنسا وألمانيا لتصبح سويسرا دولة متعددة الثقافات واللغات.
أصبحت سويسرا قوة عظمى في أواخر فترة القرون الوسطى، وخاصة خلال الحروب الإيطالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث اكتسب السويسريون شهرة واسعة بسبب غزواتهم وانتصاراتهم الحربية، حيث أدى المرتزقة السويسريون عرضاً مذهلاً للقوة العسكرية، كما عُرف حاملو الرماح السويسريون بقدرتهم على الحفاظ على تشكيلة مثالية حتى في المواقف الصعبة، فضلاً عن قدرتهم على تغيير تشكيلتهم بسرعة من الهجوم إلى الدفاع، وكان لهم دور كبير في الثورة السويسرية للحصول على حكم ذاتي من الإمبراطورية الرومانية المقدسة، حيث أرسلت الامبراطورية قوة من الفرسان لسحق الثورة، لكنها تعرضوا لهزيمة نكراء على يد حاملي الرماح السويسريين.
آلة الحرب السويسرية المتفوقة :
كانت معارك الرماح عنيفة ومريعة، والتي كان فيها السويسريون ممتازين.
أصبح للمجموعات العسكرية المرتزقة كحاملي الرماح السويسريين والـLandsknecht الألمانيين شعبية واسعة في جميع أنحاء أوروبا، وتم توظيفهم من قبل مختلف الدول لسد حاجة جيوشها وصنع كتيبة منضبطة من نخبة الجنود، والـLandsknecht تعني حرفياً ”خادم الأرض“، وهم مجموعة من جنود المشاة عُرفوا بقوتهم العسكرية وأصبحوا من أهم القوات العسكرية في القرنين الخامس والسادس عشر، وفي نهاية المطاف، نما نوع من التنافس بين الـLandsknecht وحاملي الرماح السويسريين خلال تلك الفترة أيضاً.
قد يبدو هذا الـLandsknecht مضحك المنظر، غير أنه يحمل سيفا يحمل بقبضتين قليلون من يستطيعون القتال به.
في أوائل القرن السادس عشر، انطلقت الحملات العسكرية السويسرية من جبال الألب باتجاه شمال إيطاليا، واجه السويسريون جمهورياتٍ إيطالية مختلفة بالإضافة إلى الفرنسيين طوال حملاتهم، واستطاعوا التفوق على خصومهم حتى في المواجهات العسكرية الكبرى، ففي معركة (نوفارا) في عام 1513، فرض السويسريون هيمنتهم عندما واجه جيشهم المفتقر للخيالة والمؤلف من 13000 مقاتل من المشاة فقط قوة تصل إلى ضعف حجمهم تقريباً مؤلفة من الفرسان والمدفعية والـ Landsknecht، وأدت المعركة إلى تدمير الجيش الفرنسي تقريباً، وكانت الغارات سريعة جداً مما ساعد السويسريين على الاستيلاء على مخيم العدو وعددٍ كبير من الأسلحة وآلاف السجناء من قوات Landsknecht الذين لقوا حتفهم في النهاية.
سيطر السويسريون بنتيجة هذه المعركة على مدينة (ميلانو) في قلب الشمال الإيطالي. أثار هذا الحدث القلق والرعب في مختلف ولايات إيطاليا، لكن وقع الحادثة بالنسبة للفرنسيين كان أكبر بكثير، حيث كانت هذه المعركة بمثابة بوابة للسيطرة على جميع إيطاليا وإنشاء إيطاليا عظمى تحت سيطرة السويسريين.
وهذا الهاجس صحيح نوعاً ما، فسيطرة سويسرا على (ميلانو) تعني السيطرة على الجزء الداخلي من شمال إيطاليا، مما يشكل تهديداً كبيراً يتمثل في سيطرة سويسرا على ولايتي (جنوا) والبندقية الساحليتين بعد فترة قصيرة، وقد تحقق سويسرا مآربها من خلال الغزوات والتحالفات والحكام العملاء، وهو ما سيعود بفائدة اقتصادية عملاقة عليها، وجنباً إلى جنب مع القوة العسكرية المتفوقة، توقع الفرنسيون أن يسيطر هذا البلد على القارة الأوروبية بأكملها.
الملك الشاب في مواجهة التفوق السويسري :
تم إعداد هذه اللوحة للملك الشاب (فرانسيس الأول) بعد عام من المعركة.
لم يكن الفرنسيون مستعدين لقبول هذه السيطرة السويسرية، خاصة أنهم سعوا إلى الهيمنة على إيطاليا بأنفسهم، لكنهم ليسوا في وضع مناسب للهجوم، حيث اعتلى ملك جديد لم يتجاوز عمره الـ 21 عرش فرنسا، وهو الملك (فرانسيس الأول). امتلكت فرنسا في تلك الفترة عشرات الآليات المدفعية الجيدة، لكنها متموضعة على الجانب الآخر من جبال الألب.
قرر (فرانسيس) عبور جبال الألب في طريق خطر وشاق والوصول إلى شمال إيطاليا، زحفٌ جريء يذكرنا بعبور حنبعل وفيلته لجبال الألب عام 218 قبل الميلاد. كان تعداد الجيش الفرنسي نحو 40000 مقاتل، وهو رقم أعلى بكثير من تعداد الجيش السويسري (نحو 10 آلاف مقاتل).
وبغض النظر عن كفاءة الجيش الفرنسي، من الواضح أنه كان قادراً على سحق السويسريين، خاصة بعد إنجاز الفرنسيين انتصارات عظيمة وحصولهم على كميات كبيرة من الثروات عن طريق الغارات والفتوحات، مما اضطر السويسريين إلى طلب السلام على الفور.
كانت محادثات السلام قصيرة الأجل، وتمكن لاحقاً نحو 10 إلى 15 ألف سويسري من الالتحاق بالقوات السابقة لتعزيز الجيش السويسري المرابط في Marignano. لا زال السويسريون أقل عدداً من أعدائهم، لكن جيشهم متمرس في خوض الحروب، فما بالك بحرب ضد ملك شاب وجيش هزيل! لذا قرر السويسريون الهجوم طمعاً في المجد والثروة إن انتصروا على الفرنسيين.
خطط السويسريون لاستخدام كامل قوات المشاة تقريباً في مواجهة المدفعية الفرنسية في المركز، وعلى الرغم من كونهم مشاة، لكن الهجوم وقع بسرعة كبيرة، واستولى السويسريون على المدفعية الفرنسية بعد أن أطلقت بضع عيارات نارية فقط. بدا أن انتصار السويسريين وشيك في البداية، لكن قوات Landsknechts والملك الشاب (فرانسيس) لم يرضخوا للسويسريين، وحاربوا باستبسال حتى المساء، إلى أن استسلم الطرفان وأعلنا انسحابهما تكتيكياً من ساحة المعركة.
عانى كلا الجانبين بشكل كبير، وفُقد عدد كبير من الضباط والرجال. كان السويسريون واثقين من نجاح خطتهم المتعلقة بالهجوم على المدفعية الفرنسية. وبالفعل، بدا النصر وشيكاً في بداية المعركة، أما (فرانسيس)، فأدرك أن خسارته كانت وشيكة، لذا طلب من رجال المدفعية أن يستعيدوا عافيتهم بسرعة ويستعدوا لمواجهة تكتيكات مماثلة في اليوم التالي للمعركة، وهذا ما حصل بالفعل.
مقاربة المشاة السويسريين في الهجوم السريع بالتمايز مع استراتيجية مدفعية الملك (فرانسيس الأول).
بدأ السويسريون الهجوم في اليوم التالي، لكنهم تعرضوا للعديد من ضربات المدفعية قبل أن يتمكنوا من الوصول إليها. كان الفارق في اليوم التالي هو الوقت، احتاج السويسريون إلى وقت إضافي للفوز، لكن الفرنسيين استوعبوا خطتهم، واستغلوا الوقت لصالحهم، فقاموا بالالتفاف على السويسريين واتبعوا أسلوب الهجوم من الجناح والإحاطة بالجيش السويسري.
اضطر السويسريون في النهاية إلى الانسحاب. حافظوا كعادتهم على مستوى مثير للإعجاب من النظام، لكن جيشهم تضرر بشكل كبير، وفقدوا نصف قواتهم على الأقل في المعركة. كانت النتائج الفورية هي تخلي سويسرا عن غزواتها الإيطالية، ولاحقاً تفاوض السويسريون والفرنسيون حول ما يعرف بـ”السلام الأبدي“.
لم تكن هذه الوثيقة هي السبب وراء حيادية سويسرا، لكنها كانت أول عامل كبير يؤدي إليها. نص اتفاق السلام على عدم خوض مملكة فرنسا وسويسرا أي شكلٍ من أشكال الحروب، ولن يتورطا في الحروب التي قد تؤدي إلى صراع فرنسي وسويسري، لقد تخلى السويسريون عن مساحة كبيرة من أرضهم مقابل السلام، وبالمقابل دفعت فرنسا مبالغ كبيرة إلى السويسريين.
كانت معركة Marignano سبباً أساسياً في استيعاب السويسريين لأهمية السلام، حيث مُنيت بلادهم الصغيرة نسبياً بواحدة من أسوأ الهزائم في تاريخهم، وخلال العقد القادم، لم يشارك السويسريون في الحروب كأمة واحدة، لكنهم عانوا خسائر فادحة في الأرواح بسبب خسارة مرتزقتهم حروباً في القارة الأوروبية.
في معركة (بيكوكا) مثلاً، تعثرت قوات المشاة السويسرية بسبب الطين ونيران المدفعية، وكانت تشكيلة القوات الضخمة هدفاً سهلاً للمدفعية الإسبانية ورماة القنابل. بدا واضحاً أن عصر حاملي الرماح السويسريين قد انتهى. إن هذه المعركة، والسلم الفرنسي السويسري، هما سبب تبني هذه الدولة الصغيرة سياسة الحياد.
حدث استثناء وحيد لسياسة الحياد السويسري، وبشكل مثير للسخرية حقيقة، وذلك عند بدء الإمبراطور الفرنسي (نابليون) حملاته لتوسيع رقعة الامبراطورية. تزامن هذا الحدث مع بعض الاضطرابات والثورات داخل سويسرا، وهو الحدث الوحيد الذي تعارض مع سياسة الحياد التي دامت لـ 400 عام.
أثار مزيج سويسرا من الثقافات الألمانية والفرنسية والإيطالية وغيرها خلال الحربين العالميتين بعض التوتر داخل الأمة، لكن الأعراق المختلفة لم تمنع البلد من التزام الحياد.
كانت سويسرا تدافع عن مجالها الجوي أثناء الحربين، كما قامت بإسقاط الطائرات عند انتهاكها مجال سويسرا الجوي بصرف النظر عن انتمائها، كما تبين بعض الوثائق أنه قد كان لسويسرا ممارسات تجارية ومصرفية مشكوك فيها خلال فترة الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك ليس خرقاً لسياسة الحياد، وبالمناسبة، تساعد القوى الكبرى دولة سويسرا وشعبها في التزام سياسة الحياد والحفاظ عليها.
كما ذكرنا سابقاً، ساعدت الثورة في سويسرا (نابليون) أثناء حملته، ولم يكن الغزو بهذه السهولة لو واجه الإمبراطور بلداً موحداً، ولا تزال الممرات العالية في جبال الألب ميزة كبيرة إن اندلعت حرب ما، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار التكنولوجيا العسكرية الحديثة، وبالرغم من سياسة الحياد، يملك المواطنون السويسريون أسلحة بنسبة لا بأس بها، بالطبع عددها أقل من نظيره في الولايات المتحدة مثلاً، لكن فكرة الحياد التي تبنتها سويسرا مميزة بالفعل، ونستطيع جميعاً تقدير هذه السياسة، فقط تخيل الحروب التي جرت منذ 500 عام، وتخيل عدد القتلى الذين راحوا ضحيتها.
www.historycollection.co