جمع الإمام الغزالي بين الموسوعية الفقهية والريادة الفلسفية والنزعة الصوفية الروحية، اتسم بالذكاء وسعة الأفق وقوة الحجة وإعمال العقل وشدة التبصر، مع شجاعة الرأي وحضور الذهن، كل ذلك أهّله ليكون رائدا في تلك العلوم المختلفة والفنون المتباينة؛ فكان الغزالي فقيها وفيلسوفا وصوفيا وأصوليا، يحكمه في كل تلك العلوم إطار محكم من العلم الوافر والعقل الناضج والبصيرة الواعية والفكر الراشد، فصارت له الريادة فيها جميعا، وأصبح واحدا من أعلام العرب الموسوعيين المعدودين، بل يرى فيه المستشرق الفرنسي دي بور beure De، أنه "أعجب شخصية في تاريخ الإسلام".

فأبو حامد الغزالي علوم اجتمعت في عالم، وأشخاص اجتمعت في شخص واحد، اختلف حوله القدماء والمحدثون، بين ناقد ومادح، ومؤيد ومعارض ..، لقي عناية كبيرة من الإسلاميين وغيرهم من الغربيين والمستشرقين، وهذه الدراسات المتنوعة والمتعارضة أحيانًا في أحكامها نجد فيها خصوبة أَثْرت الفكر الإسلامي أيما إثراء.

اسمه ونسبه

هو الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين العابدين, أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط. إمام جليل، وعالم فقيه، وفيلسوف ومرب، أحد أعظم أعلام الفكر في التاريخ العربي الإسلامي، فارسي الأصل. ولد في مدينة طوس بخراسان، وعرف بـ "حجة الإسلام"؛ لتمكنه من العقيدة الإسلامية ودفاعه المستميت عنها. لقِّب بـ "الغزالي" نسبة إلى غزالة -بتخفيف الزاي- وهي بلدته التي ولد فيها, وهي نسبة صحيحة من حيث اللغة, والبعض نسبه إلى: الغزَّالي -بتشديد الزاي- نسبة إلى الغزال حرفة والده التي كانت يكتسب منها وهي نسبة صحيحة أيضًا.

مولده ونشأته

ولد الإمام الغزالي بمدينة طوس إحدى مدن خراسان، تقع شمال شرق إيران وتسمى الآن بشهر، وذلك سنة 450هـ = 1058م. ونشأ الغزالي في بيت فقير، فقد كان كان والده رجلًا فقيرًا صالحًا، لا يملك غير حرفته، محبًا للعلم والعلماء والفقهاء والمتصوفين. وكانت لديه رغبة شديدة في تعليم ولديه محمد وأحمد، فألم به مرض عضال فأوصى قبيل وفاته بابنيه إلى صديق له صوفي، وأعطاه ما لديه من مال يسير، وأوصاه بتعليمهما وتأديبهما. وقد اجتهد الرجل في تنفيذ وصية الأب على خير وجه حتى نفد ما تركه لهما أبوهما من المال، وتعذر عليه القيام برعايتهما والإنفاق عليهما، فألحقهما بإحدى المدارس التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، والتي كانت تكفل طلاب العلم فيها، فيعيشان منها ويتعلمان. ويروى أن الرجل قال للغزالي وأخيه: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد لا مال لي فأواسيكما به، وأصلح ما أرى لكما أن تلجآ إلى مدرسة فإنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت يعينكما على قوتكما، ففعلا ذلك. وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجتهما, وكان الغزالي يحكي هذا ويقول: "طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله".

اجتهاده في طلب العلم

قرأ الغزالي في صباه طرفًا من الفقه ببلده طوس على أستاذه أحمد بن محمد الرازكاني، ثم شد الرحال إلى جرحان فأخذ عن الإمام أبي نصر الإسماعيلي، وعاد بعد ذلك إلى طوس حيث بقي بها ثلاث سنين، ثم انتقل إلى نيسابور -وهي عاصمة الدولة السلجوقية ومدينة العلم بعد بغداد- سنة 473هـ والتحق بالمدرسة النظامية، حيث تلقى فيها علم أصول الفقه وعلم الكلام والنطق على الإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين ولازمه، وجد واجتهد حتى برع في المذهب والخلاف والجدل والأصول, وأعجب بذكائه وغوصه على المعاني الدقيقة واتساع معلوماته، فكان الجويني يقول: "الغزالي بحر مغدق". وفاق أقرانه -وهم أربعمائة- حتى أصبح معيدًا لأستاذه ونائبًا عنه، وقيل إنه ألَّف "المنخول"، فرآه أبو المعالي، فقال: "دفنتني وأنا حيٌ، فهلا صبرت الآن، كتابك غطى على كتابي".

عصر الغزالي

اتسم عصر الغزالي (النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس، وهو العصر العباسي المتأخر) من الناحية الفكرية، بازدهار المناهج الفلسفية في الإسلام، إذ سيطرت المدرسة المشائية الإسلامية التي تزعمها الفارابي وابن سينا، كما اكتملت في هذه الفترة معالم الطريق الصوفي، وعمقت مضامين الحياة الروحية في الإسلام. أما من الناحية السياسية فقد اتسم عصره بانحلال سياسي وعسكري وأخلاقي، حيث استولت فيه العناصر التركية على الحكم في بغداد، وأصبح السلاجقة أصحاب السلطة الفعلية فيها، كما هددت الإسماعيلية والباطنية الخلافة، واستشرى خطر القرامطة، وسقطت أنطاكية وبيت المقدس بأيدي الصليبيين، وبينما كان السلاجقة ينشئون المدارس النظامية للدفاع عن المذهب السني كان العبيديون الفاطميون في مصر ينشطون في الدعوة للمذهب الشيعي، وبذلك اشتدت حدة الصراع المذهبي في الإسلام.

التحاقه بالمدرسة النظامية

استقر المقام بالإمام الغزالي في نيسابور فترة طويلة حيث تزوج وأنجب، وظل بها حتى توفي شيخه الإمام الجويني في عام (478هـ = 1085م) فغادرها وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره. خرج الغزالي إلى "المعسكر" فقصد الوزير السلجوقي نظام الملك الذي كان مجلسه مجمع أهل العلم وملاذهم، كما كان معروفا بتقديره العلم ورعايته العلماء. واستطاع الغزالي أن يحقق شهرة واسعة بعد أن ناظر عددا من الأئمة والعلماء وأفحم الخصوم والمنافسين حتى اعترفوا له بالعلم والفضل، فارتفع بذلك ذكره وذاع صيته، وطار اسمه في الآفاق.

وتلقَّاه نظام الملك بالتعظيم والتبجيل، وولاه تدريس المدرسة النظامية ببغداد, وكان ذلك غاية ما يطمح إليه العلماء ويتنافسون فيه، فقدم بغداد في سنة 484هـ = 1091م ولم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وقلَّما تقلَّد هذا المنصب الرفيع عالم وهو في هذه السن، "و بخروجه (من نيسابور) ودع حياة التلمذة نهائيا، ليدخل معترك الحياة العلمية الحقيقية كعالم بارع ومناضل ومتبحر". درّس الغزالي بالنظامية، وأعجب الخلق حسن كلامه، وكمال فضله، وفصاحة لسانه، ونُكتهُ الدقيقة، وإشاراته اللطيفة، وأحبُّوه. قال معاصره عبد الغافر الفارسي: "وعلت حشمته ودرجته في بغداد حتى كانت تغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار الخلافة"، وكان يقرأ عليه جمٌّ غفير من الطلبة المحصلين: يقول في "المنقذ من الضلال" في وصف حاله والنظامية: وأنا مهتم بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد. وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة. وصرف الغزالي همته إلى عقد المناظرات، ووجّه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهي: "الفلاسفة" الذين يدّعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان، و"المتكلمون" الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر، و"الباطنية" الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم، و"الصوفية" الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.

رحلة التحولات الفكرية للإمام الغزالي

استمر الغزالي في عمله بالتدريس أربع سنوات، نال فيها شهرة عظيمة، وحظي بالقبول والاحترام، واكتسب لقب "حجة الإسلام"، انصرف الغزالي في هذه الفترة إلى دراسة الفلسفة، وضع إثرها كتابه "مقاصد الفلاسفة" الذي يدل على سعة اطلاعه، والتزم فيه الحياد التام تجاه الفلسفة والفلاسفة، لكنه سرعان ما بدل رأيه، وألف كتاب "تهافت الفلاسفة" بين فيه ضلال الفلسفة، وشكك في قيمتها وبراهينها.

مر الغزالي، في أثناء إقامته في بغداد بأزمات نفسية عنيفة، وصفها في كتابه "المنقذ من الضلال"، وهي ترجع إلى الوضع المأساوي للمجتمع الإسلامي، الذي كان يعاني الكثير من التفتت السياسي والاجتماعي، والفكري والطائفي، وتفتت الخلافة الإسلامية إلى دويلات وممالك متناحرة، وصراع الطوائف الإسلامية فيما بينها.

وسعى الغزالي جاهدا ليتقصى الحقيقة بين تلك الفرق الأربعة؛ فدرسها بعمق شديد حتى ألم بها وتعرف عليها عن قرب، واستطاع أن يستوعب كل آرائها، وراح يرد عليها الواحدة تلو الأخرى. وقد سجل ذلك بشكل مفصل في كتابه القيم "المنقذ من الضلال"، ولكنه خرج من تلك التجربة بجرعة كبيرة من الشك جعلته يشك في كل شيء حتى مهنة التدريس التي أعطاها حياته كلها، وحقق من خلالها ما بلغه من المجد والشهرة والجاه، فلم تعد لديه الرغبة في أي شيء من ذلك.

وظل الغزالي على تلك الحال من التردد نحو ستة أشهر، ووصف لنا الغزالي هذه الحالة في كتابه "المنقذ من الضلال" حيث يقول: "ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي الجوانب ..، و لاحظت أعمالي وأحسنها التدريس و التعليم فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الأخرة، ثم فكرت في نية التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، و أني قد أشفيت على النار". وأخذ يتجه من جديد نحو التصوف، الذي كانت بذرته موجودة فيه منذ طفولته. وقد دفعته الشكوك التي اعترت معتقداته وأفكاره، والتي كانت تدعوه إلى الاستزادة من العلم وقطع رحلته من الشك إلى اليقين، إلى تخليه النهائي عن التدريس، فترك المدرسة النظامية، بعد أن أناب أخاه أحمد.

قرر الغزالي مغادرة بغداد، وفرّق ما كان معه من مال ولم يدخر منه إلا قدر الكفاف وقوت الأبناء. فغادر بغداد في شهر ذي القعدة سنة 488هـ/1095م واتجه إلى الشام حيث أقام بها نحو عامين، فكان يقضي وقته معتكفا في مسجد دمشق، لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة الروحية ومجاهدة النفس والاشتغال بتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى. ثم انتقل من دمشق إلى بيت المقدس فكان يدخل مسجد الصخرة كل يوم ويغلق الباب على نفسه وينصرف إلى عزلته وخلوته. وهناك بدأ في تصنيف كتابه الشهير إحياء علوم الدين، ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى دمشق ليعتكف في المنارة الغربية من الجامع الأموي، حتى إذا ما دعاه داعي الحج اتجه إلى مكة ليؤدي فريضة الحج سنة (489هـ / 1096م) ثم زار المدينة المنورة، قال الغزالي: "ثم رحلت منها إلى بيت المقدس أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها على نفسي، ثم تحركت فيَّ داعيـة فريضة الج والإستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه، فسرت إلى الحجاز". وبعد أداء فريضة الحج قصد مصر و أقام بالإسكندرية مدة، ويقال إنه قصد منها الركوب في البحر إلى بلاد المغرب على عزم الإجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين صاحب مراكش، فبينما هو كذلك بلغه نعي يوسف بن تاشفين فصرف عزمه من تلك الناحية، ثم عاد الغزالي إلى دمشق مرة أخرى حيث عكف على إنجاز كتاب الإحياء، وفي العام التالي رحل إلى بغداد، لكنه لم يستأنف العمل بالتدريس بها، وما لبث أن ذهب إلى خراسان وظل حريصا على الخلوة، مواظبا على حياة الزهد والتأمل وتصفية القلب لذكر الله، واستمر على تلك الحال نحو عشر سنوات، يجمع بين التمتع بالخلوة والذكر والتأمل، والأخذ بأسباب الحياة والتغلب على عوائقها، واستطاع خلالها الوصول إلى تلك الحقيقة التي راح يبحث عنها، والاهتداء إلى ذلك اليقين الذي راح يبثه في تلاميذه ومريديه: يقين الصوفية الحقة الذي استمد دعائمه من مشكاة النبوة الصافية وجوهر الإسلام الخالص.

ثم عاد إلى وطنه بطوس، وقال عن عودته إلى طوس: "ثم جذبتني الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه. فآثارت العزلة به أيضا حرصا على الخلوة وتصفية القلب للذكر".

وفي سنة 499هـ استدعاه الوزير السلجوقي فخر الملك ابن نظام الملك، من قبل سنجر حاكم خراسان، للتدريس في المدرسة النظامية بنيسابور، وكان الوزير قد سمع بالغزالي وتحقق من مكانته ودرجته وكمال فضائله، فرجاه وألح عليه كل الإلحاح كي يأتي إلى نيسابور، إلى أن قصد الغزالي نيسابور استجابة لدعوته، وبدأ التدريس في نظاميتها، في شهر ذي القعدة سنة 499هـ، وقال في ذلك: "ويسر الله الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وبلغت مدة العزلة إحدى عشرة سنة"، لكنه لم يلبث طويلًا؛ لأنه عندما وصل نيسابور كان الوزير غائبًا عن الوزارة، بعد أن قُتل غيلة على أيدي فرقة الحشاشين في المحرم (500هـ / 1106م)، فأشار إليه الولاة بالتدريس في المدرسة النظامية، ولم يجد بدًا من الإذعان إلى حين، وغادرها بعد سنة، قاصدًا طوس، وكانت طوس محطة أسفاره الأخيرة. حيث لازم الغزالي بيته، وانقطع للوعظ والعبادة والتدريس، إلى أن وافته المنية، وهو في الخامسة والخمسين من عمره، قال ابن خلكان: "عاد إلى بيته وطنه، واتخذ خانقاه للصوفية ومدرسته للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب و القعود للتدريس، إلى أن انتقل على رحمة ربه".

وفاة الإمام الغزالي

وتوفي الإمام الغزالي في (14 من جمادى الآخرة 505هـ = 19 من ديسمبر 1111م) عن عمر بلغ خمسا وخمسين عاما، وترك تراثا صوفيا وفقهيا وفلسفيا كبيرا، بلغ 457 مصنفا ما بين كتاب ورسالة، كثير منها لا يزال مخطوطا، ومعظمها مفقود.

وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين البخاري ومسلم، ولو عاش، لسبق الكل في ذلك الفن بيسير من الأيام, وهذا توفيق من الله تعالى كبير للإمام الغزالي أن جعل خاتمته على الحديث والسنة, ونحسب أن الله تعالى وفقه لهذه النهاية بكرم وفضل منه ومنة. ولم يتفق له أن يروي، ولم يعقب إلا البنات، وكان له من الأسباب إرثًا وكسبًا ما يقوم بكفايته، وقد عُرضت عليه أموال فما قبلها. ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، وروجع فيه فأنصف، واعترف أنه ما مارسه واكتفى بما كان يحتاج إليه في كلامه، مع أنه كان يُؤلف الخُطب، ويشرح الكتب بالعبارة التي يعجز الأدباء والفصحاء عن أمثالها.

أطوار الغزالي الفكرية

إن دراسة أطوار الغزالي الفكرية ترتكز بالدرجة الأولى على ما تركه هذا المفكر والفيلسوف من كتب وأعمال. وقد ترك الغزالي كتابًا اعترافًا هو "المنقذ من الضلال"، أودع بين طياته وصفًا مسهبًا لحالته النفسية والمعاناة التي كابدها حتى انتقل من مرحلة الشك إلى مرحلة اليقين، الذي تمثل بالتصوف مذهبًا وطريقة. ألف الغزالي هذا الكتاب بعد عزلة دامت عشر سنوات سلك فيها طريق الصوفية، وبعد أن أناف على الخمسين، فهو إذن من نتاج سن النضج، كتبه في أواخر أيامه، لذا يمكن عده مؤشرًا صادقًا على ما انتهى إليه أبو حامد من قناعات فكرية ودينية.

أ- طور الشك: يقول الغزالي "كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني منذ أول أمري وريعان عمري ..، ورأيت صبيان من النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان من اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود وصبيان من المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام… فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية". يرى الغزالي أن التقليد لا يمكن أن يؤدي إلى اليقين. وقد اتبع منهجًا مناقضًا لمذهب فلاسفة العرب، فبدل أن يركز المعرفة على العقل ليظهر حدوده الضيقة، راح يركز المعرفة على الإيمان، مبينًا أن العقل لا يصلح أداة للمعرفة ما لم يقم على الإيمان، واتخذ من الإيمان نقطة الانطلاق ومبدأ المعرفة.

ب- طور اليقين: يحدد الغزالي العلم اليقيني بأنه "العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا بديهيًا لا يبقى معه ريب"، وبعد وضعه الأسس والشروط، بدأ الغزالي بالبحث عن علم موصوف بهذه الصفة، لكنه لم يجد هذا العلم، لأن العلم إما أن يكون بالحسيات وإما أن يكون بالعقليات، والثقة معدومة بالمحسوسات، وهي معدومة في العقليات أيضًا. فالعقل يكّذب الإحساس والإحساس يكذّب العقل. دامت شكوك الغزالي وريبته وهو على مذهب السفسطة قرابة شهرين، ولم يرجع إلى الإيمان، بحكم الضروريات والبديهيات العقلية، إلا بمساعدة خارجية، بـ "نور قذفه الله تعالى في الصدر"، وهنا أدرك أن العقل لا يمكن أن يكون مصدرًا للعقيدة الدينية، وهو لا يفسر الدين ولا يبرره، بل الدين هو الذي يعطي العقل مشروعيته، وإن الكشف مفتاح المعرفة.

جـ- طور العلم اليقيني: بعد أن حدد شرط اليقين الذي أنقذه من دوامة الشك، ينتقل الغزالي للبحث في آراء الفرق والمذاهب، فيحصرها في أربع: فرقة المتكلمين، والباطنيين، والفلاسفة، والصوفية. ينتقد الغزالي الفرق الثلاث الأولى، ويرد على أصحابها، ويفند حجج مريديها والقائلين بها، ثم يخلص إلى أن طريق الصوفية أسلم الطرق، لأن الصوفي يهتدي بنور النبوة، بينما المتكلم مقلد، والفيلسوف مكتف بعقله، والباطني يقول بإمام معصوم.

مجدد القرن الخامس الهجري

كان الغزالي منذ حداثة سنه يشعر أنه صاحب رسالة، وقد أدرك منذ صباه ذلك الصراع الدائر بين الفرق الدينية المختلفة والتيارات الفكرية المتناحرة، وهو ما حظي بقدر كبير من الاهتمام والجدل في عصره؛ ولعل ذلك ما أغراه بدراسة تلك الفرق والطوائف والتصدي لها في العديد من مؤلفاته ومناظراته.

وبالرغم من النزعة الصوفية التي سيطرت عليه طوال حياته، والتي كان لنشأته وبيئته الأولى أثر كبير في ترسيخها في عقله ووجدانه، فإنه لم ينعزل عن قضايا مجتمعه ومشكلات أمته، وإنما اهتم برصد ما يدور حوله من تيارات فكرية ومذاهب دينية واتجاهات فلسفية، وتصدى لها بالنقد والتحليل، فجمع بين روحانية الصوفية في صفاء العبادة وشفافية الوجدان وعمق الإيمان والزهد في الدنيا، وبين النزعة العقلية العلمية في النظر إلى الأمور الدنيا والدين على حد سواء، وحرية الفكر وشجاعة الرأي.

وكان الغزالي معنيًا بأمر الدين، مهتمًا بالذبّ عن العقيدة الخالصة والإسلام الصحيح، وقد تجلى ذلك في العديد من مؤلفاته مثل: المنقذ من الضلال، وفضائح الباطنية، وتهافت الفلاسفة، بل إنه في كتابه الضخم وموسوعته الكبرى "إحياء علوم الدين" يستشعر هدفا أسمى ودورا أعظم ويضع نصب عينيه غاية أبعد بأنه مجدد الدين في القرن الخامس الهجري، ويتجلى ذلك بوضوح في العنوان الذي اختاره لدرته الرائعة وكتابه الفريد "الإحياء".

الغزالي مفكرا

يبدو أن فكر الغزالي مزيج من علوم شتى صقلها التفكير و أصفتها تجاربه العلمية. فقد كان الغزالي رجلا متعطشا إلى معرفة كل شيء، فكان دائرة معارف عصره، ونال لقب حجة الإسلام ومجدد المائة الخامسة. لكن أهمية الغزالي ليست في معرفته الموسوعية، فكم من موسوعيين في التاريخ لم يتبؤوا مكانة الغزالي في عقول المسلمين ومشاعرهم، ولم يفوزوا بلقب حجة الإسلام. و الغزالي -كما يبدو لدارسه بشكل عام- واحد من أكبر مفكري الإسلام، ولعله أقربهم إلى الابتكار. ويرى "كولد تسيهر" أن الغزالي قد استطاع بقدرة المفكر أن يشيع الفكرة الدينية العامة التي رفع بها معه شأن آراء الصوفية وجعلها من العوامل الفعالة في الحياة الدينية في الإسلام. ومهما تكن الآراء التي قيلت عن الغزالي مختلفة، فإن الجميع متفقون على مكانته في شؤون المعرفة ورسوخ قدمه فيها.

الغزالي فيلسوفا

إن الغزالي يهدمه الفلسفة قد غدا فيلسوفا، ولكن بمعيار آخر ومن منطلق آخر. لم يعد تابعا، بل أصيلا مستقلا، وأنه فيلسوف وإن لم يرد أن يكون فيلسوفا. ولعله لو سئل -كما قال الأستاذ العقاد- أأنت فيلسوف؟ لأنكر ذلك. وهذا أمر اعترف به كثيرون في الشرق و الغرب، حتى قال الفيلسوف الشهير رينان: "لم تنتج الفلسفة العربية فكرا مبتكرا كالغزالي"، ويبين أن الفلاسفة الإسلاميين قبله وبعده كانوا أتباعا للفلسفة الأرسطية أو الأفلاطونية الحديثة، وأن الغزالي وحده هو الذي ثار عليها واتخذ له نهجا خاصا.

وقد تميز الغزالي الفيلسوف بالجرأة والشجاعة والذكاء؛ فقد واجه الاتجاهات الفكرية المختلفة التي سادت في عصره بذكاء وشجاعة نادرين، وكان نقده مركزا على نقد الفرق المتطرفة من منطلق إخلاصه للإسلام، وكان في نقده لها يتسم بالنزاهة والموضوعية، وأثبت الغزالي في رده على الفلاسفة مخالفتهم للإسلام في بعض الجوانب، وحذر الناس من اتباع طريقتهم من غير مناقشة أو تمحيص، كما كشف عن أباطيل الباطنية، وفضح ضلالاتهم بعد أن درس أسرار مذهبهم وعرف حقيقة أفكارهم، وكان أمر تلك الفرقة قد استشرى واستفحل خطرهم سياسيا ودينيا، وقد أراد الغزالي من رده عليهم تحجيم خطرهم والتقليل من نفوذهم الديني والسياسي بعد تعريتهم والكشف عن زيفهم وضلالهم وتوضيح أهدافهم.

وكان الغزالي في فلسفته يعبر عن شغفه بالعلم والبحث عن الحقيقة، وقد اتبع منهجا عقليا يقوم على فكرتين أساسيتين هما: الشك، والحدس الذهني. وقد عبر عن ذلك بوضوح في قوله: "إن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم".

ويعبر عن تجربة البحث عن الحقيقة التي تبدأ عنده بالشك فيقول: "فأقبلت بجدٍّ بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا". وهو يفسر ذلك بأنه "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال".

وهذا المنهج الذي اتبعه الغزالي منذ أكثر من تسعة قرون شديد التشابه بما قدمه الفيلسوف الفرنسي ديكارت وهو ما يؤكد تأثره بالفيلسوف الإسلامي الكبير وأخذه عنه؛ فقد عاش الفيلسوفان التجربة المعرفية ذاتها، وإن كان فضل السبق والأصالة يظل الغزالي، فعبارة الغزالي الشهير "الشك أول مراتب اليقين" التي أوردها في كتابه "المنقذ من الضلال" هي التي بنى عليها ديكارت مذهبه، وقد أثبت ذلك الباحث التونسي "العكاك" حينما عثر بين محتويات مكتبة ديكارت الخاصة بباريس على ترجمة كتاب المنقذ من الضلال، ووجد أن ديكارت قد وضع خطًا أحمر تحت تلك العبارة، ثم كتب في الهامش: "يضاف ذلك إلى منهجنا".

الغزالي متصوفا

عاش الإمام الغزالي في بيئة كثر فيها المتصوفة وهو يسمعهم ويتصل بهم، كما أنه درس ما كان في عصره من علوم وثقافات، كان منها علم التصوف ومبادئه. والجو الذي أحاط بالغزالي منذ صباه كان مفعما بعبير التصوف، فأبوه وأخـــوه وعمــــه والوصي عليه وأستاذه الفارمدي كلهم متصوفة، والوزير نظام الملك محب للصوفية، ثم هناك التدين الدافع إلى التصوف، وهناك عاطفة الغزالي المتدفقة ونفسه المشرقة. ولعل شواغل من الهوى أو الشهرة أو الطموح شغلت الغزالي عن العناية البارزة بالجانب الصوفي في صدر حياته، ولكنه حين حاسب نفسه وراجعها غلبت عليه الدوافع القديمة فساقته بكليته إلى رحاب التصوف.

تصوف الغزالي بعد فترة الشك، فأصابه تحول عنيف مجرى حياته، فإذا به يزهد بالحياة كلها وينغمس في حالات من السمو الروحي في استقصاء نهايات الأفكار على الطريقة الصوفية. و إعلان الغزالي -حقيقة- عن تصوفه لم يكن عندما ترك بغداد سنة 48هـ بل على إثر عودته منها حوالي سنة 498هـ حيث قطع كل صلاته مع العالم الخارجي الذي غلبت عليه النفعية التي تبعده عن الآخرة بشكل حقيقي، فقد وعظ بمادة "إحياء علوم الدين" في نظامية بغداد الذي ألفه خلال رحلته و في دمشق بالذات.

ومما لا ريب فيه أن أبرز ما أخذ على الغزالي، اندماجه في طريق الصوفية اندماجا يكاد يكون كاملا، وإذعانه لما عند القوم من معارف وأحوال وأعمال، دون أن يحكمها إلى منطق الفقه وأصوله. وسر هذا أنه تعامل مع التصوف بقلبه دون عقله وبذوقه قبل فقهه. من أجل هذا أنكر عليه ابن الجوزي وغيره من الناقدين، قبوله لكثير من أفكار الصوفية وأعمالهم وأحوالهم، وهي مخالفة لقانون الشرع منحرفة عن الكتاب والسنة. ومع هذا لا ينكر منصف ودارس للغزالي ولإحيائه خاصة، أنه لم يقبل التصوف بعجزه، بل رفض في حزم تصوف أهل الحلول والإتحاد كالحلاج وأشباهه، ولم يقبل إلا التصوف المعتدل القريب من الكتاب والسنة، واجتهد أن يرد كل فكرة أو سلوك مما يقول به المتصوفة إلى أصول إسلامية، وأن يستدل عليها بالقرآن و الحديث والأثر.

ومما يسجل له أنه نبه على ضرورة العلم الشرعي لسالك طريق الآخرة، خلافا لما كان شائعا بين كثير من الصوفية أن العلم حجاب. وقد جعل أول كتاب من كتب الإحياء الأربعين "كتاب العلم"، وأول عقبة يجب أن يجتازها العابد هي العلم، كما في "منهاج العابدين"، وأكد في مواضع لا تحصر أن السعادة لا تنال إلا بالعلم و العمل. ومن أهـــم ما أبرزه الغزالي في التصوف: أنه نقله من مجرد الذوق والتحليـــل والشطح والتهويل، إلى علم أخلاقي عملي يعالج أمراض القلوب وآفات النفوس ويزكيها بمكارم الأخلاق. ومن عرف كيف كان التصوف قبل الغزالي، ثم كيف صار بعده، عرف فضل الغزالي على التصوف وأهله، وما ترك فيه من أثر واضح يشهد به المتخصصون في علم هذا الجانب من جوانب الثقافة والحياة الإسلامية.

مؤلفات الإمام الغزالي

كان الغزالي واسع المعرفة، غزير العلم، لم يتوقف عن التأليف والكتابة، حتى خلال السنوات العشر التي قضاها في التنقل والزهد والعبادة. وقد ذكر أحد الرواة أنه لو وزعت كتب الغزالي على سني عمره لكان له في كل يوم منها أربع كراريس. وقد اختلف الباحثون في عدد الكتب التي ألفها الغزالي، فقد قطع عبد الرحمن البدوي في كتابه عن الغزالي بصحة نسبة 69 كتابًا إليه، في حين وضع الباحثان جميل صليبا وكامل عيّاد قائمة بمؤلفات الغزالي ضمت 228 كتابًا ورسالة، ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود. وكتبه موزعة، بصورة رئيسة، بين التصوف والفقه، والأصول والمنطق، والفلسفة والأخلاق؛ غير أنه تطرق، وعالج بالتفصيل، في كتبه ورسائله، موضوعات أخرى كثيرة في علوم النفس والاجتماع والتربية والسياسة والطبيعيات.

الترتيب الزمني لمؤلفات الغزالي المقطوع بصحة نسبتها إليه حسب تاريخ تأليفها?

* المرحلة الأولى: من 465هـ - 478هـ: أي قبل وفاة شيخه أبي المعالي الجويني:

- التعليقة في فروع المذهب, وهي التي أخذها منه قطاع الطرق ثم ردوها إليه.

- المنخول في أصول الفقه.



* المرحلة الثانية: من 478هـ - 488هـ:

- البسيط في فروع المذهب. قال فيه ابن خلكان: ما صنف في الإسلام مثله. - الوسيط (ملخص من البسيط). - الوجيز. - خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر, أو الخلاصة في الفقه الشافعي. - المنتحل في علم الجدل (في المناظرة والخلاف). - مآخذ الخلاف. - تحصين المآخذ (في علم الخلاف). - المبادئ والغايات (في أصول الفقه). - شفاء الغليل (في القياس والتعليل). - فتوى لابن تاشفين (من جملة فتاوى الغزالي). - الفتوى اليزيدية (في حكم من كفر يزيد بن معاوية). - مقاصد الفلاسفة (بيان مبادئ الفلسفة وهو أحسن كتاب يلخص الفلسفة اليونانية والإسلامية). - تهافت الفلاسفة. - معيار العلم. بعد التهافت وقبل سفره إلى دمشق. - معيار العقول. - محك النظر في المنطق. ويذكر الذهبي أنه ألفه بدمشق. - ميزان العقل. - المستظهري (وهو رد على الباطنية). - حجة الحق، كذلك بيان فساد مذهب الباطنية. - قواصم الباطنية؛ يرد فيه على شبههم. - الاقتصاد في الاعتقاد. - الرسالة القدسية في العقائد. - المعارف العقلية والأسرار الإلهية.



* المرحلة الثالثة: من 488هـ - 499هـ: وكتب هذه المرحلة كثيرة أهمها:

- إحياء علوم الدين.



* المرحلة الرابعة (بين 499هـ - 503هـ) وأهم كتب هذه المرحلة:

- المنقذ من الضلال. - المستصفى في علم الأصول.



* السنوات الأخيرة من 503هـ - 505هـ:

- منهاج العابدين في الزهد والأخلاق والعبادات. - إلجام العوام عن علم الكلام. وهو آخر كتبه التي ألفها عام 505هـ وقبيل موته بأيام. جرى على مذهب السلف ونسب ما دونه من المذاهب إلى البدعة.


ويرى كثير من الباحثين أن أهم هذه الكتب التي تحدد شخصية الغزالي ومنهجه واتجاهه وأفكاره ثلاثة هي:

"المنقذ من الضلال": وهو مرجع ضروري في معرفة تطور أفكاره وانتقاله من الدراسة المستفيضة إلى الشك ومن ثم إلى اليقين، وفي معرفة موقفه من علم الكلام، ومن الفلسفة والفلاسفة، ومن التصوف. وفي هذا الكتاب تتضح قواعد المنهج عند الغزالي، ومساره العقلي في طلب اليقين، وذلك بـ: رفضه التقليد وإيثاره طريق النظر العقلي (الاستبصار)، وارتكازه على الفطرة الأصلية، وانتقاده العقائد والمذاهب، واعتماده العلم اليقيني، الذي يرقى في نظره إلى مستوى العلم الرياضي، وتشكيكه بالمحسوسات والمعقولات، ورجوعه إلى اليقين، ألا وهو النور الإلهي - سند المعرفة المباشرة ومضمونها- وهو التصوف، وأخيرًا مناقشته مواقف الفرق المختلفة طلبًا للحق في ضوء موقفه النظري (الصوفي).

- "تهافت الفلاسفة": هذا الكتاب هو محاولة جريئة من الغزالي، وقد كان هدفه منه هدم المنهج العقلي الذي استندت إليه آراء الفلاسفة وليس تسفيه الفلاسفة. لقد أراد الغزالي أن يثبت في كتابه هذا أن العقل، إذا لم يتخذ الوحي هاديًا ومرشدًا، عجز كل العجز عن الوصول إلى الحقيقة فيما وراء الطبيعة.

- "إحياء علوم الدين": وهو أهم كتبه على الإطلاق، وقد قال عنه الإمام النووي: "كاد الإحياء أن يكون قرآنًا". ويعد كتابه "إحياء علوم الدين"، الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية، أوسع كتب الأخلاق الإسلامية انتشارًا في العالم حتى اليوم. ألفه الغزالي -حسب رواية ابن الجوزي- في بداية انصرافه إلى العزلة، فقد وجد أن الشيطان استحوذ على أكثر الناس، واستغواهم الطغيان، وأصبح الدين في نظر علمائه فتوى حكومة أو جدلًا للمباهاة والغلبة والإفحام؛ ألفه ليستعيد الإخلاص إلى القلوب، ليستعيد ما درج عليه السلف الصالح من اتخاذ الإخلاص أساسًا وشعارًا، وإخلاص الدين لله وحده هو التوحيد، والتوحيد هو جوهر الدين الإسلامي. وقد رتب الغزالي كتابه هذا أقسامًا، والأقسام كتبًا، والكتب أبوابًا، والأبواب فقرات، وحاول فيه وضع منظومة إيديولوجية لتنظيم المجتمع عن طريق الإصلاح والعودة إلى أصول العقيدة الإسلامية السمحة. وقد عالج في كتابه هذا، إلى جانب مسائل الدين والعقيدة، موضوعات أخرى مهمة، موضوعات نفسية واجتماعية، وأخلاقية وسياسية وتربوية: كالسلوك الإنساني ودوافعه، وكيفية تعديله؛ والعادات التي بحثها بالتفصيل، حتى أن «قسم العادات» يشغل ربع هذا الكتاب، حيث عرف العادة، وبين مراحل تكونها، وأشكال العادات والعوامل المؤثرة في اكتسابها؛ وتناول الجماعة، فبين أنواعها «أصناف الخلق» وعوامل تكونها.

أما الأخلاق، فقد مال الغزالي إلى بحثها من الناحية العملية السلوكية التطبيقية، فاهتم بتحديد واجبات المرء نحو نفسه وقريبه، ووالديه وإخوانه في الدين، ورأى أن أصول الأخلاق أربعة هي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل. وتمتاز الأخلاق عند الغزالي بعمق التحليل النفسي الذي يصف فيه الفضائل الجزئية المختلفة، دون أن يرتقي إلى البحث في مبدأ الأخلاق وأساسها وغايتها، لذلك جاءت مباحثه في الأخلاق أقرب إلى المباحث النفسية منها إلى المباحث الفلسفية؛ وتطرق الغزالي في كتابه هذا إلى موضوع المرأة فبين حقوقها؛ وتحدث في السياسة، فربطها ربطًا محكمًا بفلسفته الأخلاقية، وتناول بالبحث نشوءها، وضرورة اهتمام الدولة بمصالح الفرد ومصالح المجتمع على حد سواء؛ وتطرق إلى موضع القيادة والقائد، ورأى أن العدل أهم صفة من صفات الحاكم.

وعالج الغزالي في هذا الكتاب الموسوعة موضوعات تربوية مهمة، كالتنشئة الاجتماعية للأولاد، وضرورة مراعاة الفروق الفردية فيما بينهم، والجمع بين الدراسة واللعب في المدرسة، ودعا إلى ضرورة ربط التعليم والدراسة بالمجتمع والبيئة.

مكانته العلمية

حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي مفكر إسلامي كبير، وعالم جليل، ومتكلم بارع، ومربّ مقتدر؛ وهو رائد مذهب الشك، فطريق الشك التي اتبعها الغزالي ليصل إلى اليقين هي نفسها التي اتبعها فيما بعد الفيلسوف الفرنسي الكبير رونيه ديكارت (1556 – 1650م) والنتيجة التي توصل إليها حول ضرورة وجود مسلمات عقلية أولية، ليست خاضعة للبرهان هي نفسها النتيجة التي توصل إليها ديكارت بعد شكه بالحسيات والعقليات. وقد بلغ في كتابه "تهافت الفلاسفة" أقصى حدود الشك، وسبق زعيم الفلاسفة الشكيين ديفيد هيوم David Hume (1711 – 1776م) والغزالي هو متصوف عملاق، أسس منهجًا صوفيًا أعاد به التصوف إلى حظيرة الإسلام بعد غربة طويلة، تخللتها شطحات صوفية. كما وضع الغزالي نظرية متكاملة في الأخلاق لا نجدها لدى مفكر آخر من سابقيه أو معاصريه. لقد ترك الغزالي تراثًا ضخمًا يجعله في الخالدين، وهو كما قيل: مزاج من علوم شتى، أنضجها البحث الدقيق، وصقلها التفكير العميق، وهو لهذا يتمتع بمقام مرموق من علماء الشرق والغرب، وقد تُرجِم عديد من كتبه إلى جميع اللغات الحية، ويرى المستشرق الفرنسي دي بور Beure De، أنه "أعجب شخصية في تاريخ الإسلام".

__________________

المصادر والمراجع:
- ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة- بيروت د.ت.
- الصفدي: الوافي بالوفيات: تحقيق: هلموت ديتر، دار النشر فرانز شتايز فيسبادن، 1381هـ / 1962م.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، أشرف على تحقيقه: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت، 1410هـ / 1990م.
- ابن كثير: البداية والنهاية: تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة، 1417هـ / 1997م.
- بهي الدين زيان: الغزالي ولمحات عن الحياة الفكرية الإسلامية، مكتبة نهضة مصر - القاهرة، 1378هـ / 1958م.
- عبد الرحمن بدوي: مؤلفات الغزالي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب – القاهرة، 1380هـ / 1961م.
- أحمد شمس الدين: الغزالي .. حياته، آثاره، فلسفته، سلسلة الأعلام من الفلاسفة، دار الكتب العربية، بيروت،1990م.
- محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار النهضة العربية، بيروت، 1973م.
- يوسف فرحات: الفلسفة الإسلامية وأعلامها، ترادكسيم - جنيڤ، 1986م.
- هنري كوربان: تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة: نصير مروة، حسن قبيسي، منشورات دار عويدات – بيروت، 1966م.
- محمد إبراهيم الفيومي: الإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالعقل، دار الفكر العربي – القاهرة، 1406هـ / 1986م.
- نزار عيون السود: الإمام أبو حامد الغزالي، الموسوعة العربية العالمية.
- سمير حلبي: الإمام الغزالي .. لمحات من منهج خلقي، موقع إسلام أون لاين.
- عبد الرحمن الحربي: حجة الإسلام أبو حامد الغزالي .. نشأته وحياته وآراؤه التربوية، موقع مدونة السهيمي الإلكترونية.
- قصة الإسلام .