أبو الفضل ابن النحوي يوسف بن محمد التوزري (434 - 513هـ = 1042 - 1119م)، من مشاهير علماء الإسلام وأحد المجددين للفقه الإسلامي وأصوله ببلاد المغرب الإسلامي، وصاحب القصيدة المنفرجة التي انتشر صيتها في العالم الإسلامي وما زالت.

اسمه ونسبه

أبو الفضل يوسف بن محمد بن يوسف، التوزري الأصل، التلمساني، القيرواني، القلعي، المعروف بـ "ابن النحوي التوزري"، مجتهد، نحوي، ناظم، فقيه، من أهل تلمسان. ولد بمدينة توزر سنة 434هـ = 1042م، لذا لقب بالتوزري نسبة الى توزر مسقط رأسه في الجنوب التونسي. ودخل سلجماسة وفاس وصفاقس والقيروان، وله رحلة إلى الأندلس، ثم استوطن مدينة القلعة عاصمة الدولة الحمادية الأولى فقيل له "القلعي"، وعُدّ من أهلها.

نشأته التعليمية

وأتيحت له الفرصة خلال عمره الطويل (ثمانين سنة) ليصيب من العلم أوفر نصيب سمح به زمانه. فقد كانت توزر في عصره (القرن 5هـ / 11م) بها أعلام كثيرة مثل عبد الله بن محمد الشقراطسي، نسبة إلى قلعة شقراطس القريبة من قفصة (ت 466 هـ)، الذي كان إماما في الحديث والعربية والفقه، أديبا شاعرا وهو من شيوخ ابن النحوي. ورحل أبو الفضل إلى ولاية صفاقس بالجنوب الشرقي التونسي للأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى القيروان للأخذ عن شيخ فقهاء عصره الشيخ "أبي الحسن علي بن محمد الربعي اللخمي (ت 478هـ)"، فقرأ عليه كتاب "التبصرة" وروى عنه صحيح البخاري، وقد سأله عن سبب مجيئه إلى القيروان، فقال لـه ابن النحوي: جئت لأنسخ كتابك التبصرة، فأجابه الشيخ قائلًا: إنما تريد أن تحملني في كفك إلى المغرب. وهي إشارة إلى أن علمه كله في هذا الكتاب الذي هو عبارة عن تعليق كبير على المدونة، وقد حكم عليه القاضي عياض بأنه مفيد حسن.

وبعد أن استكمل المترجم رحلته العلمية رجع إلى بلده توزر ثم بارحها في ظروف غامضة لظلم الوالي له، ولبث متجوّلا بين مدن الجزائر والمغرب الأقصى مدرّسا للنحو، والفقه، والأصول، وعلم الكلام، سالكا طريق الزهد والتقشف، ففي الجزائر أخذ عنه النحو عبد الملك بن سليمان التاهرتي، وفي فاس أقرأ "اللمع" في أصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي، ودرّس علم الكلام وذلك سنة 490هـ= 1097م.

ثم انتقل إلى قلعة بني حماد بلدته الثانية التي آثرها على بقية مدن المغرب واستقر بها، فاشتهر بنسبته إليها. وفيها تتلمذ لأستاذين بارزين، هما أبو القاسم عبد الجليل الربعي المعروف بالديباجي، وأبو عبد الله بن الفرج المازري المعروف بالذكي، فقرأ عليه أصول الفقه، وعلم الكلام، وكان المازري إماما مبرزا فيهما. وفي هذا الجو العلمي تنفس ابن النحوي وتأثر به فكان مثل شيخه اللخمي مائلا الى الاجتهاد في الفقه، ومتمكنا من أصول الدين والفقه مثل الإمام المازري ، شاعرا وأديبا لغويا مثل شيخه الشقراطسي.

سعة علمه وثقافته

وبعدما انتهى من حياة الدرس والتحصيل العلمي والتكوين الثقافي، صار من العلماء البارزين المشهود لهم بالباع الطويل والكعب العالي في علوم عصره، هذا ما نص عليه مترجموه كابن الأبار الذي قال عنه: "إنه كان عارفًا بأصول الدين والفقه يميل إلى النظر والاجتهاد ولا يرى التقليد". وقال عنه ابن عبد الملك: "وكان متقدمًا في المعرفة بعلم الكلام وأصول الفقه، من أهل الفضل وعلى هدى السلف الصالح، ذا حظ من الأدب وقرض الشعر". وعدّه النقاوسي من أئمة الإسلام وأعلام الدين، وقال أبو العباس الغبريني في عنوان الدراية: "كان من علماء العاملين وعلى سنن الصالحين، مجاب الدعوة، حاضرا مع الله في غالب أمره". وقال القاضي أبو عبد الله بن علي بن حماد: "كان أبو الفضل ببلادنا (يقصد المغرب الأوسط)، كالغزالي في العراق علما وعملا". وقال القاضي عياض: "أخذ هو والمازري عن اللخمي، وكان من أهل العلم والفضل، شديد الخوف من الله، ولا يقبل من أحد شيئا، إنما يأكل مما يأتيه من بلده توزر".

وفي القلعة حيث طالت إقامته مارس نشاطًا علميًا متميزًا، ساهم من خلاله في بناء مركزها الثقافي وهو ما يستنتج من أسماء الطلبة الذين درسوا عليه وأخذوا عنه بها، كابن البذوخ الطبيب القلعي وابن الرمامة وغيرها. وقد استهوته القلعة لأنها كانت حاضرة علم ودار ملك بني حماد وقاعدة دولتهم.

تدريسه لعلم الكلم وأصول الفقه

وإذا كانت تونس قبيل ذالك العصر نبتت فيها طلائع متأثرة بتعاليم شيخ أهل السنّة أبي الحسن الأشعري في علم الكلام مع العناية بأصول الفقه، وميل بعض فقهائها الى الاجتهاد المذهبي، فإن الطابع الغالب لدى فقهاء المغربيين الأوسط والأقصى في عهد المرابطين هو النفور من علم الكلام، وأصول الفقه. ولقد لقي ابن النحوي المتاعب والمقاومة من الفقهاء والرؤساء زمن استقراره بالمغرب الأقصى عندما أقرأ علم الكلام، وعلم أصول الفقه.

الرحلة إلى سجلماسة بالمغرب الأقصى

في حدود سنة 493هـ غادر ابن النحوي قلعة بني حماد وهو ابن ستين سنة، متوجهًا إلى سجلماسة بالمغرب الأقصى، ولكن إقامته بسجلماسة لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما اصطدم بأهلها. ومما أنكره عليه أهل المدينة نزوله في دار قريبة من الحمام بعيدة عن المسجد، فأجابهم بأنه يريد كثرة الأجر. وأما ما أنكره هو عليهم، فإنه دخل مسجد ابن عبد الله بالمدينة وأراد أن يصلي في موضع منه، فقيل له: هذا موضع أبي فلان، فحاد إلى موضع آخر، فقيل له كذلك، فقال منكرًا عليهم: ما ظننت أن مثل هذا يكون في بيوت الله تعالى.

ولما شرع في تدريس أصول الدين وأصول الفقه بالمسجد المذكور، مرّ عليه أحد رؤساء المدينة وهو عبد الله بن بسام، فسأل باستخفاف عما يقرئه أبو الفضل، فقيل له: أصول الدين وأصول الفقه. فقال: أرى هذا يريد أن يدخل علينا علومًا لا نعرفها، وأمر بإخراجه من المسجد. وقام أبو الفضل من مكانه ثم قال له: أمتَّ العلم أماتكَ الله ههنا.

ولم يتصلب ابن النحوي في موقفه حين أمره رئيس المدينة بالخروج، إذ امتثل للأمر مكتفيًا بالدعاء عليه، وهنا يسجل لنا ابن الزيات الذي ترجم لابن النحوي، أن الله استجاب دعوته حين مرت جماعة من قبيلة ملوانة الصنهاجية في اليوم التالي لطرده، وقتلت ابن بسام بالرماح في نفس المكان الذي دعا عليه فيه.

الرحلة إلى فاس بالمغرب الأقصى

واضطر ابن النحوي إلى ترك سجلماسة التي لم توفر له الجو المناسب لتبليغ رسالته العلمية، فلجأ بعد ذلك إلى حاضرة أخرى من حواضر المغرب الأقصى وهي مدينة فاس التي حل بها سنة 494هـ. وزاول التدريس فلزمه الطلبة وأخذوا عنه وأعجبوا به. منهم أبو عمران موسى بن حماد الصنهاجي قاضي الجماعة بمراكش، والصوفي الشهير علي بن حرزهم الذي أخذ عنه في صباه، وعيسى بن يوسف من بيت بني الملجوم، وغيرهم من طلبة وشيوخ فاس. ويبدو أن ابن النحوي قد افتتن بجمال هذه المدينة التي أخذت بلبه فحلاها بالأبيات التالية:

يا فاس منك جميع الحسن مسترق *** وساكنوك أهنيهم بما رزقوا

هذا نسيمك أم روح لراحتنا *** وماؤك السلسل الصافي أم الورق

أرض تخللها الأنهار داخلها *** حتى المجالس والأسواق والطرق

ولكن هذا الاستقرار الذي أحس به في هذه المدينة لم يخل من متاعب كالتي تعرض لها في سجلماسة، فإلى جانب دفاعه عن الإمام الغزالي وانتصاره لقضيته، وإظهاره لميوله الصوفية، أقدم على تدريس العلوم التي حظرها الفقهاء المرابطون وهي الأصول وعلم الكلام والدعوة إلى الاجتهاد. فكان من الطبيعي أن يقع الصدام بينه وبين فقهاء المدينة، "فجرى له مع أهل فاس مثلما جرى له مع أهل سجلماسة ولقي من ابن دبوس مثلما لقي من ابن بسام".

ويبدو أن فقهاء فاس قد ضاقوا بابن النحوي ذرعًا، فاستبدلوا أسلوب المواجهة الفكرية بالتهديد والوعيد حين أغار عليه أحدهم وهو ابن دبوس قاضي المدينة وأمر بإبطال دروسه. وحين أحس ابن النحوي أن الأمور أصبحت تسير في غير ما يروم بمدينة فاس، وأن حياته أصبحت محفوفة بالمخاطر، قرر الرحيل متوجهًا إلى القلعة الحمادية.

ويبد أن أبا الفضل ابن النحوي قد تأقر بهذه المضايقة والمعاملة السيئة التي لاقاها في سلجماسة وفاس من أجل نشره لعلمين غير معروفين في المغرب ودعا على مضطهديه، ولعلّه في هذه الفترة قال بيتيه المشهورين:

أصبحت في من له دين بلا أدب *** ومن له أدب خــال مـن الدين

أصبحت فيهم غريب الشكل منفردا *** كبيت حسان في ديوان سحنون

يشير في العجز الأخير إلى بيت حسان بن ثابت في باب الجهاد من المدوّنة:

وهان على سراة بني لؤي *** حريق بالبويرة مستطير

الانتصار لأبي حامد الغزالي

وفي أثناء وجوده بمدينة فاس صدر الأمر من السلطة المرابطية في عهد علي بن يوسف بن تاشفين إلى أهلها بالتحريج (التضييق) على كتاب الإحياء لأبي حامد الغزالي، وأن يحلف الناس بالإيمان المغلظة أن الإحياء ليس عندهم. ولم تكن مدينة فاس وحدها التي شملها هذا القرار، بل إن الأمر يتعلق بقضية سياسية عامة تبنتها الدولة المرابطية بهدف محاصرة الاتجاه الصوفي بالغرب الإسلامي والتضييق عليه، وفرض نمط ثقافي وفكري محدد على الناس.

لقد أثار كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي بعد وصوله إلى الأندلس والمغرب مناقشات متعددة في الأوساط الثقافية، لما تضمنه من إشكالات وطروحات جديدة. فقامت جماعة من الفقهاء الأندلسيين يتزعمهم قاضي الجماعة بقرطبة أبو عبد الله محمد بن علي بن حمدين التغلبي (439 - 508هـ) بإصدار فتوى تقضي بمنع الإحياء من التداول بين الناس وملاحقة ومطاردة من وجد عنده. وسرعان ما أعقب هذه الفتوى التي تبنتها السلطة المرابطية إجراء سياسي خطير أقدم عليه الأمير المرابطي علي بن يوسف بإيعاز من هؤلاء الفقهاء، وهو إحراق كتاب الإحياء في بعض مدن الأندلس والمغرب.

وقد انقسم خصوم الغزالي في الغرب الإسلامي إلى طائفتين: فأما الأولى فهي التي تزعمت فتنة الإحراق وكان على رأسها الأندلسيان ابن حمدي قاضي الجماعة بقرطبة ومالك بن وهيب (ت 525هـ) وزير علي بن يوسف وقاضي الجماعة بمراكش. وأما الطائفة الثانية فقد اكتفت بالرد على الغزالي ردًا علميًا دون أن تتورط فيما ذهبت إليه الطائفة الأولى. ومن هؤلاء أبو بكر محمد بن الوليد المعروف بالطرطوشي (451 - 520هـ)، الذي وضع كتابًا كبيرًا عارض به كتاب الإحياء، قال عنه الضبي، إنه رأى منه قطعة يسيرة. والفقيه المالكي الذائع الصيت أبو بكر بن العربي الذي رد عليه في كتابه سراج المريدين. ومعاصره الفقيه المالكي المشهور الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المعروف بالمازري (ت 536هـ)، الذي ألف كتابًا في الرد على الغزالي سماه "كتاب الكشف والإنباء عن المترجم بالإحياء".

وإلى جانب هؤلاء الخصوم وهم كثر، فإن الإمام الغزالي لم يعدم وجود علماء بالمغرب الإسلامي أعجبوا به وانتصروا لـه ولكتابه، وفي مقدمة هؤلاء صاحب هذه الترجمة أبو الفضل ابن النحوي، الذي كان أكثرهم جرأة في التعبير عن موقف الرفض والاستنكار الذي عم صوفية العدوتين، وتبنيه مبدأ الدفاع عن حجة الإسلام وعن كتابه. فقد أفتى بعدم لزوم إيمان من أنكر حيازته لكتاب الإحياء. وتجاوز ذلك إلى كتابة رسالة إلى أمير المسلمين، يعرّفه بالشيخ الغزالي وبعلو مقامه، وأن يحسن الظن به لئلا يهلك، وصرح في الفقهاء الذين أفتوا بحرق الكتاب وحمل عليهم. ومما يؤسف له أن هذه الرسالة التي أشار إليها الصومعي لا نعرف عن مضمونها شيئًا لأنه لم يرد ذكرها في أي من مصادر ترجمته.

لم يكتف ابن النحوي بإصدار فتوى عدم لزوم أيمان من أنكر حيازته الإحياء، ولا بالرسالة التي بعثها إلى الأمير المرابطي، بل أصدر فتوى أخرى دافع فيها عن الغزالي ورد على خصومه. وهي الفتوى التي تجاهلها مترجموه أيضًا وأهملوا ذكرها في مصادرهم، ولكنها لحسن الحظ توجد مخطوطة في الخزانة العامة بالرباط. وقد جاءت الفتوى في صورة جواب من أبي الفضل إلى فقهاء تلمسان حين سألوا عن كتاب الإحياء.

ولم يكن دفاع ابن النحوي عن الغزالي ناجمًا عن حب وإعجاب شديدين فحسب، بل كان ينم على علاقة روحية بينهما، تظهر من خلال هذه الأبيات التي نظمها الأول في حق الثاني:

أبو حامد أحيا من الدين علمه *** وجدد منه ما تقادم من عهد
ووفقه الرحمن فيما أتى به *** وألهمــه فيمـا أراد إلى الرشد
ففصلها تفصيلًا ثم أتى بها *** فجاءت كأمثال النجوم التي تهدي

أما كتاب الإحياء الذي انتسخه أبو الفضل في ثلاثين جزءًا، فإن ابن النحوي كان إذا دخل شهر رمضان قرأ منه في كل يوم جزءًا، وكان يقول: وددت أني لم أنظر في عمري سواها (يقصد أسفار الإحياء).

الهجرة إلى المغرب الأوسط

ولعلّ هذه المضايقات المستمرة دعت المترجم إلى الخروج من المغرب الأقصى والاستقرار بالقطر الجزائري منتقلا بين مدنه كبجاية وقلعة بني حماد، ولم يسلم من إيذاء الفقهاء الرسميين بهذا القطر، وظهر تأثير التربية الصوفية لدى المترجم في صبره على تحمّل صنوف الأذى من أجل أفكاره ومبادثه، وعزوفه عن تقلّد المناصب، وقبول الهدايا، مقتصرا في معاشه على ما يرد إليه من بلده توزر مع ميله إلى الإنصاف من نفسه بالرجوع إلى الحق دون أن يرى في ذلك غضاضة عليه، والعفو عن البوادر الصادرة عن البعض بدون سوء نيّة وقصد. ولما كانت تعاليم المترجم الأصولية والكلامية لم تصادف نجاحا يذكر بالمغربين الأوسط والأقصى لم تتخرج عليه إلا طائفة محصورة العدد من الفقهاء والصوفية وعلى رأس هؤلاء الأخيرين علي بن حرزهم المتوفى سنة 559/ 1164 الذي قال عنه الساحلي الأندلسي في "بغية السالك" (خط) "أنه أحكم كتاب الإحياء وضبط مسائله وكان يستحسنه ويثني عليه"، ومن تلامذته الفقهاء عبد الرحمن بن محمد الكتامي المعروف بابن العجوز السبتي. والمترجم قام بدور الرائد المصلح الذي هيّأ الأذهان، وأيقظ العقول لتلقّي تعاليم الغزالي التي أصبحت بعد وفاة المترجم بزمن غير طويل من دعائم مذهب دولة الموحدين التي قضت على دولة المرابطين وحلّت محلها.

الاستقرار في قلعة بني حماد

وحين عاد إلى القلعة باشر مهمة التدريس بكل حرية كما كان يفعل فيها من قبل، ولقي قدرًا واحترامًا لا من أهلها فحسب، بل من أولي الأمر فيها أيضًا. وهنا تجدر الإشارة إلى ما كانت تنعم به مدن المغرب الأوسط من حرية ثقافية في ظل بني حماد، على خلاف حواضر المغرب الأقصى التي كانت حياتها الثقافية خاضعة لتأثيرات وتوجيهات الفقهاء وتقنياتهم بتحالف مع السلطة السياسية الواقعة تحت نفوذهم. وفيما تعرض له ابن النحوي في سجلماسة وفاس، وما لقيه في قلعة بني حماد ما يكفي للتدليل على هذه المقارنة.

يقول ابن الزيات: "ولما عاد أبو الفضل إلى القلعة أخذ نفسه بالتقشف وهجر اللين من الثياب ولبس الخشن من الصوف وكانت جبته إلى ركبتيه". يستفاد من النص أن ابن النحوي قد وجد في القلعة الحرية الكاملة في ممارسة سلوكه الصوفي مثلما وجدها في تدريس الأصلين وعلم الكلام، دون أن يعترض عليه أحد. وهذا ما يؤكد أيضًا تناقضه مع البيئة الثقافية في المغرب الأقصى التي كان يسيطر عليها اتجاه متحفظ من كل العناصر المذكورة. لقد كان ابن النحوي واحدًا من الصوفية العلماء الذين جمعوا في نوع من الانسجام بين السلوك الصوفي والعلم الشرعي، وهم الذين عُرفوا في الأوساط الصوفية "بالعلماء العاملين على سنن السلف الصالح".

مؤلفاته

وعلى الرغم مما خاضه ابن النحوي من معارك فكرية ومواجهات ثقافية، وشهرته في الأوساط الصوفية، وتضلعه من علمي أصول الدين والفقه وعلم الكلام، فإنه لم يهتم بالتأليف، إذ لم تُشر مصادر ترجمته إلى اشتغاله بذلك، باستثناء ابن الأبار الذي ذكر أن لـه تواليف، ولكنه لم يذكرها. كما أشار أبو علي صالح الأيلاني في مخطوطه الموسوم بـ: رسالة في القبلة، أن لابن النحوي كتابًا سمّاه "قبلة أهل المغرب" ووصفه بأنه كتاب حفيل في فنه، ولكنه بناه على الهندسة قل من يفهمه. والكتاب لا يزال في حكم المفقود. وكل ما تبقى له من آثاره عبارة عن مجموعة من المقطوعات الشعرية في أغراض الزهد والتوسل.

القصيدة المنفرجة

إن عاطفة التديّن ألهمت أبا الفضل ابن النحوي نظم الشعر الجيد الرقيق مثلما ألهمت شيخه الشقراطسي من قبل نظم لاميته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر معجزاته. ومن أطول وأجود شعر أبي الفضل ابن النحو "القصيدة المنفرجة" والتي تسمى "أم الفرج"، في أربعين بيتا، والتي نظمها على إثر ضائقة لحقته، والتي صحح نسبتها إليه كثير من أهل العلم ومطلعها:

اشتدّي أزمة تنفرجي *** قد آذن ليلك بالبلج

وهو متأثر بالمنفرجة التي تنسب للغزالي وإن كان المترجم أسلس نظما وأخصب خيالا وها هي ذي أبيات من المنفرجة المنسوبة للغزالي نذكرها للمقارنة:

الشدة أودت بالمهج *** يا رب فعجّل بالفـرج

فهاجت لدعاك خواطرنا *** والويل لها إن لم تهج

ذكرها تاج الدين السبكي في طبقاته، فقال: "ورأيت في كتاب الغرة اللائحة لأبي عبد الله محمد بن علي التوزري المعروف بابن المصري أن هذه القصيدة لأبي الفضل يوسف بن محمد النحوي التوزري قال: وذلك أن بعض المتغلبين عدا على أمواله وأخذها فبلغه ذلك وكان بغير مدينة توزر فأنشأها، فرأى ذلك الرجل في نومه تلك الليلة رجلا في يده حربة، وقال له: إن لم ترد على فلان أمواله وإلا قتلتك بهذه الحربة، فاستيقظ مذعورا وأعاد عليه أمواله. قلت (السبكي): وكثير من الناس يعتقد أن هذه القصيدة مشتملة على الاسم الأعظم، وأنه ما دعا بها أحد إلا استجيب له، وكنت أسمع الشيخ الوالد (تقي الدين السبكي) رحمه الله إذا أصابته أزمة ينشدها".

وقال عنها ابن عبد الملك: "هي قصيدة مشهورة كثيرة الوجود بأيدي الناس ولم يزالوا يتواصون بحفظها ويتجافون عما حواه معظمها من حوشيّ لفظها". هكذا كُتبَ للمنفرجة الذيوع والانتشار بين الناس وكثرت العناية بها، ليس بالحفظ فحسب، بل بالشرح والتخميس والمعارضة.

ومن الذين خمسوها أبو محمد عبد الله بن نعيم الحضرمي القرطبي (ت 636هـ). والفقيه أبو عبد الله محمد بن علي المصري الذي وسم تخميسه بـ "عجالة الروية في تسميط القصيدة النحوية". ومن أشهر شروحها شرح القاضي شيخ الإسلام زكرياء الأنصاري المسمى "الأضواء البهجة في إبراز دقائق المنفرجة"، وشرحها الفقيه الصوفي المغربي ابن عجيبة وخمسها ابن الشباط التوزري وسمى تخميسه "عجالة الروية في تسميط القصيدة النحوية"، وشرحها أبو العباس النقاوسي (ت 810هـ)، وسمى شرحه "الأنوار المنبلجة في بسط أسرار المنفرجة". وعارضها الفقيه الأديب محمد بن عبد الرحيم التازي (ت 920هـ).

وأورد التخميس برمته العبدري في رحلته، وطالعه:

يا من يشكو ألم الحرج *** ويرى عسره قرب الفرج
أبشر بشذى أوج الفرج *** اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
ويوجد ضمن مجموعة قصائد بالمتحف البريطاني رقم 1393، وخمسها عبد الله بن نعيم الحضرمي القرطبي التونسي المولد المتوفى بقسنطينة سنة 636/ 1239 وطالعه:
لا بدّ لضيق من فرج *** والصبر مطيّة كل شجي
وبدعوة أحمد فالتهجي *** اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
وتخميسه أورده كاملا الغبريني في "عنوان الدراية".


ومن شعر ابن النحوي ذي النزعة الصوفية:

عطاء ذي العرش خير من عطائكم *** وسيبه واسع يرجى وينتظر
أنتم يكدّر ما تعطون منّكم *** والله يعطي ولا مـــنّ ولا كدر
لا حكم إلا لمن تمضي مشيئته *** وفي يديه على مـا شاءه القدر

وله في النثر بعض الأدعية ووصية، وهذه الأخيرة ذكرها الغبريني في "عنوان الدراية"، وله مقطعة في مدح الإمام مالك ومذهبه ذكرها القاضي عياض في ترتيب المدارك في ترجمة مالك.

مجاب الدعوة

وكان أبو الفضل ابن النحوي إذا تأخر ما يأتيه من بلده، دعا بدعاء الخضر: "اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء الخ .."، فيفرج عنه. وكان ابن النحوي مجاب الدعوة حتى يقال: "نعوذ بالله من دعوة ابن النحوي". وشكى إليه بعض أهله الضيق من فراره من ظالم بلده، ورغبه في رفع الأمر للظالم ليأذن له بالرجوع فقال: سأفعل. وتضرع لله تعالى في تهجّده، فقال:

لبست ثوب الرّجا والناس قد رقدوا *** وقمت أشكوالى مولاي ما أجدُ
وقلت يا سيدي يا منتهى أملي *** يا من عليه بكشف الضّـرّ أعتمدُ
أشكو اليك أمورا أنت تعلمها *** مالي على حمــلها صبرٌ ولا جلَدُ
وقد مددتُ يدي للضّـرّ مشتكيا *** إلـيك يا خير من مُدّت اليـه يدُ

ونظم القصيدة المعروفة "المنفرجة"، وأعاد أهله السؤال، فقال: بلغ الأمر أهله، وسترى. فعن يسير ورد الكتاب من توزر بالتلطف للشيخ، ورغبته أن يرجع، فقال للسائل: قُضيت الحاجة. ورأى الباغي في نومه فارسا يحمل عليه بيده حربة من نار، فتنبه مذعورا ويتعوّذ، ثم ينام ويعاوده، إلى أن قال: إنما يتعوذ من الشيطان، وأنا ملك ومالك وللعبد الصّالح .. .

وفاته

بعد هذه الحياة المديدة ممن العلم والعمل توفي أبو الفضل ابن النحوي بقلعة بني حماد في محرم سنة 513هـ / 1119م، وهو ابن ثمانين سنة. فجزاه الله خير الجزاء.

___________________
مصدر البحث:
1- محمد محفوظ: تراجم المؤلفين التونسيين، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان الطبعة: الثانية، 1994م.
2- محمد بن معمر: أبو الفضل ابن النحوي المالكي، منتديات الوحيد.
المصادر والمراجع:
- القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق مجموعة من الباحثين. الرباط: وزارة الأوقاف، 1983م.
- ابن الزيات يوسف بن يحيى: التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أحمد التوفيق. الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1984م.
- ابن الأبار أبو عبد الله محمد: التكملة لكتاب الصلة، تحقيق عبد السلام الهراس. الدار البيضاء: دار المعرفة، 1995م.
- ابن عبد الملك أبو عبد الله محمد: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق محمد بن شريفة. الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، 1984م.
- العبدري أبو عبد الله محمد: رحلة العبدري، تحقيق محمد الفاسي. الرباط: وزارة الشؤون الثقافية، 1968م.
- الغبريني أبو العباس أحمد: عنوان الدراية، تحقيق رابح بونار. الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1981م.
- ابن خلكان أحمد بن محمد: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس. بيروت: دار القلم، 1971م.
- تاج الدين السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، المحقق: د. محمود محمد الطناحي د. عبد الفتاح محمد الحلو، الناشر: هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية، 1413هـ.
- د. راغب السرجاني .