شمس الدين أبو عبد الله ابن مفلح المقدسي الحنبلي (708-763هـ= 1308-1362م)، أعلم أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، وكان ابن تيميَّة يقول له: "ما أنت ابن مفلح بل أنت مفلح". من تصانيفه المشهورة: "الآداب الشرعيَّة والمنح المرعيَّة"، وكتاب "الفروع" أورد فيه من الفروع الغريبة ما بهر العلماء.
اسم ابن مفلح ونسبه
أقضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مُفلح بن محمد بن مُفَرِّج الرَّاميني المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، الشيخ الإمام العلامة، وحيد دهره، وفريد عصره، شيخ الإسلام، قُدوة الأنام، وأحد الأئمة الأعلام، الشيخ الفقيه النحوي الأصولي، والراميني نسبة إلى "َرامِيْن" قرية مشهورة من أعمال نابلس بفلسطين.
مولد ابن مفلح
وُلِد ونشأ ابن مفلح رحمه الله في بيت المقدس، واختلف في تاريخ مولده، قال ابن حجر العسقلاني: "وُلِدَ في حدود سنة عشر وسبعمائة (710هـ)، وقال الذهبي: سنة بضع وسبعمائة. وقيل: سنة 712هـ". وقال المقريزي: "ومولده بعد سنة سبعمائة". ولكنَّ المشهور لدى المؤرِّخين المحدَثين أنَّه وُلِد حوالي سنة (708هـ=1308م).
شيوخ ابن مفلح
قال ابن حفيده إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح: "لَازَمَ القاضي شمس الدين ابن مسلم وقرأ عليه الفقه، والنحو والأصول على القاضي برهان الدين الزرعي، وسمع من الحجَّار وطبقته، وكان يتردَّد إلى ابن الفويره والقحفاوي النحويَّين، وإلى المزي والذهبي ونقل عنهما كثيرًا وكانا يُعظِّمانه، وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي يُثني عليه كثيرًا". ومن شيوخه المشهورين عيسى المطعم، سمع منه ومن غيره.
علم ابن مفلح وأقوال العلماء فيه
تفقَّه ابن مفلح وبرع، ودرَّس وأفتى، وناظر وحدَّث، وأفاد، وكان آيةً وغايةً في نقل مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه. قال عنه أبو البقاء السبكي: "ما رأت عيناي أحدًا أفقه منه". وكان ذا حظٍّ من زهد، وتعفُّف، وصيانة، وورع، ودين متين.
وذكره الذهبي في المعجم فقال: "شابٌّ دَيِّنٌ عالم، له عملٌ ونظرٌ في رجال السنن والأسماء، وسمع وكتب وتقدَّم وناظر". وقال ابن كثير: "وكان بارعًا فاضلًا متفنِّنًا في علومٍ كثيرة، ولاسيَّما علم الفروع، كان غايةً في نقل مذهب الإمام أحمد".
وقال ابن القيِّم لقاضي القضاة موفق الدِّين الحجَّاوي سنة 731هـ: "ما تحت قبَّة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح". وحسبك بهذه الشهادة من مثل هذا. وحضر عند الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وتفقَّه به ونقل عنه كثيرًا. وكان يقول له ابن تيميَّة: "ما أنت ابن مفلح بل أنت مفلح". وكان أخبر الناس بمسائله واختياراته، حتَّى إنَّ ابن القيِّم كان يُراجعه في ذلك.
وقال ابن المِبْرَد الحنبلي في الجوهر المنضد: "وله اطِّلاعٌ زائدٌ ونقلٌ كثير، كان مقدَّمًا في عصره، مرفوعًا في دهره، لم يذكره الشيخ زين الدين بن رجب في طبقاته، قيل: لأمرٍ كان بينهما ومنافسة. يُحرِّر المسائل تحريرًا حسنًا وينقل ما فيها نقلًا بيِّنًا، كان معظَّمًا لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، ينقل اختياراته في كتبه كثيرًا، وغالب ما ذكره أبو الحسن بن اللحام في اختياراته فإنَّه من الفروع، وقد قابل به جماعةٌ من شيوخنا وغيرهم من المتقدِّمين من أصحابنا، وقدَّم قوله على طائفة من الأصحاب، ووصف بكثرة النقل والاطلاع، واليد العليا في ذلك. ويقال: أفقه أصحاب الشيخ هو -أي ابن مفلح-، وأعلمهم بالحديث ابن عبد الهادي، وأعلمهم بأصول الدين والطرق والمتوسِّط بين الفقه والحديث وأزهدهم شمس الدين بن القيِّم".
وقال النعيمي في الدارس: "وكان ذا حظٍّ من زهد، وتعفُّف، وصيانة، وورع تحسين، ودين متين". وقال ابن تغري بردي: "وكان فقيها بارعًا مصنِّفًا، صنَّف كتاب الفروع، وهو مفيدٌ جدًّا وغيره".
وقال ابن حفيده برهان الدين إبراهيم بن مفلح في المقصد الأرشد: "ولم أعلم أنَّ أحدًا في زماننا (القرن التاسع الهجري) في المذاهب الأربعة له محفوظات أكثر منه، فمن محفوظاته المنتقي في الأحكام، قرأه وعرضه قريب من أربعة أشهر". وقال ابن العماد الحنبلي: "ولم يرَ في زمانه في المذاهب الأربعة من له محفوظات أكثر منه، فمن محفوظاته (المنتقي في الأحكام)".
عمل ابن مفلح بالقضاء والتدريس
كان ابن مفلح رحمه الله قاضيًا مفتيًا، وقد ناب في الحكم عن قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي المقدسي الحنبلي، وتزوَّج ابنته، وله منها سبعة أولاد ذكور وإناث، وفي قضائه شُكِرَت سيرته وأحكامه، كما أنَّه درَّس في المدرسة الصاحبيَّة التي أنشأتها ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب أخت صلاح الدين الأيوبي والملك العادل، وهي بسفح قاسيون من الشرق بجبل الصالحيَّة، كما درَّس بمدرسة الشيخ أبي عمر (المدرسة العمريَّة)، والسلاميَّة، وأعاد بالصدريَّة ومدرسة دار الحديث العالمة.
تلاميذ ابن مفلح
تفقَّه بابن مفلح علماء ومشايخ كثيرون، منهم: زين الدين عبد الرحمن بن حمدان العينتابي، ومحمد بن إبراهيم الجرماني ثم الدمشقي، ومحمد بن محمد بن يوسف المرادي، ومحمد بن عبيد بن داود المرادي، وعلي بن أحمد بن محمد بن التقي سليمان بن حمزة المقدسي، وغيرهم الكثير.
مؤلفات ابن مفلح ومصنفاته
ذكر العلماء أنَّ لابن مفلح رحمه الله مصنَّفات عدَّة، وأجمعوا على جودتها وإتقانها وتفرُّدها، منها: شرح كتاب "المقنع" نحو ثلاثين مجلَّدًا، وعلَّق على "المنتقي" للمجد ابن تيميَّة في مجلَّدين، وله الحواشي على كتاب "المقنع" في أربع مجلَّدات، وله "مسائل" أجاب عنها.
وله كتابٌ جليلٌ في "أصول الفقه" حذا فيه حذو ابن الحاجب في مختصره، وفيه من النقول والفوائد ما لا يوجد في غيره، وليس للحنابلة أحسن منه، وهو كتابٌ جليلٌ مثل الفروع في الفقه، وله "الوسطى" مجلَّد، و"الصغرى" مجلَّد لطيف، وله كتاب "النكت والفوائد السَّنِيَّة على مشكل المحرر لابن تيمية".
كتاب الفروع
ومن مصنَّفات ابن مفلح كتاب "الفروع" في أربع مجلَّدات، وقد اشتهر في الآفاق، وهو من أجلِّ كتب الحنابلة وأنفعها وأجمعها للفوائد. قال ابن حجر: "وصنَّف الفروع في مجلَّدين، أجاد فيه إلى الغاية، وأورد فيه من الفروع الغريبة ما بهر العلماء". وقال ابن المِبْرَد الحنبلي: "جمع فيه غالب مذهب الحنابلة، ويقال هو مِكْنَسَةُ المذهب". ونقل فيه في باب ذكر أصناف الزكاة أبياتًا رُوِيَت عن يحيى بن خالد بن برمك في ذمِّ السؤال وهي:
مَا اعْتَاضَ بَاذِلُ وَجْهِهِ بِسُؤَالِهِ *** عِوَضًا وَلَوْ نَالَ الْغِنَى بِسُؤَالِ
وَإِذَا بُلِيتَ بِبَذْلِ وَجْهِكَ سَائِلًا *** فَـابْذُلْهُ لِلْمُتَكَرِّمِ الْمِفْضَـالِ
وَإِذَا السُّؤَالُ مَعَ النُّوَالِ وَزَنْتَهُ *** رَجَحَ السُّؤَالُ وَخَفَّ كُلُّ نُوَالِ
الآداب الشرعية والمنح المرعية
ويُعتبر كتاب "الآداب الشرعيَّة والمنح المرعيَّة" -ويُسمَّى "الآداب الشرعيَّة الكبرى"- من أشهر كتب ابن مفلح وأنفعها، فهو ذو قيمةٍ علميةٍ كبيرة؛ لاشتماله على كثيرٍ من أصول الأخلاق المستقاة من الكتاب والسنة، وما انبثق عنهما من علومٍ في إطار الثقافة العربية الإسلامية، وقد تحرَّى فيه أن يكون كالفروع في الفقه، جامعًا لخلاصة ما ألف فيه أئمَّة الحنابلة من المصنَّفات التي ذكرها في خطبة كتابه؛ كأبي بكر الخلال، وأبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وابن الجوزي، وغيرهم من أعيان وعلماء الحنابلة.
فأتى في كتابه على ما في كتب هؤلاء العلماء، وزاد عليها أشياء كثيرةً نافعةً حسنةً غريبةً من أماكن متفرقة؛ يقول ابن مفلح رحمه الله في خطبة الكتاب وهو يتحدَّث عن هذا الكتاب: "فمَن عَلِمه عُلِم قدره، وعلم أنَّه قد علم من الفوائد المحتاج إليها ما لم يعلم أكثر الفقهاء، أو كثير منهم؛ لاشتغالهم بغيره، وعزَّة الكتب الجامعة لهذا الفن".
وعليه، فإنَّ ممَّا يزيد من القيمة العلميَّة لهذا الكتاب، ويزيده ألَقًا؛ احتواءَه على نقول عزيزة فريدة من كتبٍ لم تصلنا، لعلَّ أعظمها كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي، والرعاية الكبرى لابن حمدان، والمستوعب لمحمد بن عبد الله السامري، وغير ذلك من المصنَّفات النافعة النفيسة.
وغير خافٍ على من له إلمامٌ حسنٌ بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيميَّة أنَّ هناك اعتمادًا كبيرًا جدًّا على النصوص القرآنيَّة والحديثيَّة، وما مصنَّفات ابن تيميَّة وابن كثيرٍ وابن رجب إلَّا شاهد صدقٍ على ذلك، وعليه فقد جاء كتاب الآداب الشرعيَّة مشحونًا بالنصوص القرآنيَّة، والمتون الحديثيَّة من المصنَّفات المشهورة؛ كالكتب الستَّة، ومسند الإمام أحمد، وصحيح ابن حِبَّان، وغيرها من دواوين الحديث النبوي، مشفوعًا ذلك بالكلام عن بعض الأسانيد وأحوال الرجال فيما تمسُّ إليه الحاجة، مع العناية بشرح المفردات الغريبة، والمشاركة في استنباط الأحكام، والردِّ على العلماء، وعدم الاكتفاء بالنقل عنهم، بحيث برزت شخصيَّة ابن مفلح في الكتاب، واستقلَّ بصياغة المادَّة العلميَّة والتفقُّه فيها.
والمطلع على كتاب الآداب الشرعيَّة، يتبيَّن له أنَّ مؤلَّفه رحمه الله ذو اطِّلاعٍ واسعٍ وفهمٍ ثاقبٍ لمذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وإلمامٍ غير قليلٍ بالنسبة إلى مذاهب الأئمَّة المتبوعين؛ ولذلك يجد القارئ في كتابه هذا نصوصًا كثيرةً ينقلها عن الإمام أحمد وتلامذته، وعن العلماء الذين جاءوا من بعدهم ممَّن ينتمي إلى هذا المذهب، ويجد -أيضًا- النصوص النبويَّة الكثيرة التي ينسبها المصنِّف إلى مخرجيها من أمَّهات كتب السنة.
وهو في كثيرٍ من الأحيان لا يخلي هذه النصوص من تعقُّبات حديثيَّة في التضعيف والتحسين والتصحيح، ممَّا يدلُّ على براعته في هذا الفن، وحسن تأتيه لِمَا يستشهد به من المنقولات، لاسِيَّما أنَّه في أغلب الظنِّ يُدوِّن هذا من حفظه؛ دلالةُ ذلك قوله في غير موطن: أظنُّه كذا، وإنَّه كذا في حفظي، ثم إنَّه لا يترك في الباب حديثًا أو أثرًا إلَّا أثبته، وفي بعض الأحاديث نكارة وضعف لا يُمكن الأخذ بها ولا التعويل عليها في باب الحلال والحرام، لكنَّه ترخص في روايتها وإثباتها؛ لأنَّها إمَّا أن تكون عاضدةً لأخبارٍ صحيحة، أو أنَّ ضعفها خفيفٌ في الغالب يُؤخَذُ بها في فضائل الأعمال والآداب، كما هو مذهبُ غير واحدٍ من الأئمَّة، بالشروط المعتبرة التي دوَّنها الأئمَّة في الاستدلال بالحديث الضعيف، وهي: ألا يكون الضعف شديدًا، وأن يندرج تحت أصلٍ عام، وألَّا يعتقد ثبوته عند العمل به، يفعل هذا في الأعمِّ الأغلب، إلَّا أنَّه قد يحتاج إلى تقوية بعض الفروع الفقهيَّة في مذهب أحمد بأحاديثَ شديدة الضعف، ولا تندرج تحت أصلٍ عام، فيذكرها.
وفاة ابن مفلح
تُوفِّي ابن مفلح رحمه الله بسكنه بالصالحيَّة ليلة الخميس الثاني من شهر رجب سنة (763هـ=1362م) عن بضعٍ وخمسين سنة، قال ابن كثير: "وصُلِّي عليه بعد الظهر من يوم الخميس ثاني الشهر (رجب) بالجامع المظفري، ودُفِنَ بمقبرة الشيخ الموفَّق (ابن قدامة المقدسي)، وكانت له جنازة حافلة حضرها القضاة كلُّهم، وخلقٌ من الأعيان".
وقال ابن العماد: "ودُفِن بالروضة بالقرب من الشيخ موفَّق الدين، ولم يُدفن بها حاكمٌ قبله، وله بضعٌ وخمسون سنة". فرحمه الله وأكرم مثواه.
__________________
المصادر والمراجع:
- الذهبي: إنباء الغمر بأبناء العمر، تحقيق: د حسن حبشي، الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر، 1389هـ=1969م.
- الذهبي: المعجم المختص بالمحدثين، تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، الناشر: مكتبة الصديق - الطائف
الطبعة الأولى، 1408هـ=1988م.
- ابن رافع: الوفيات، تحقيق: صالح مهدي عباس وبشار عواد معروف، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1402هـ.
- ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، الناشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الأولى 1408هـ=1988م.
- ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق ومراقبة: محمد عبد المعيد ضان،
الناشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية - صيدر أباد/ الهند، الطبعة: الثانية، 1392هـ=1972م.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ=1997م.
- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب - مصر، د.ت.
- إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح: المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، الناشر: مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ=1990م.
- النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية
الطبعة الأولى، 1410هـ=1990م.
- ابن المبرد الحنبلي: الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد، حققه وقدم له وعلق عليه: الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، الناشر: مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة الأولى، 1421هـ=2000م.
- ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناءوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناءوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ=1986م.
- الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر، مايو، 2002م.
- بدر بن جزاع: التعريف بالإمام ابن مفلح ومؤلفات، شبكة الألوكة، 2014م.
- قصة الإسلام .