مقهى أربيل الذي لم يغلق أبوابه رغم الحروب وخطر تنظيم "الدولة الإسلامية"


مقهى "ماشكو" في أربيل، عاصمة كردستان
العراق فرانس 24


التاريخ يعيش بماشكو، المقهى المقاوم في أربيل، عاصمة كردستان العراق. ومع مسألة الاستفتاء حول استقلال مثيرة للجدل، فإن الماضي سيحدد المستقبل مرة أخرى ربما لأن دروس التاريخ لم يتم الاستفادة منها.

يلوح البانتيون (مقبرة العظماء) الخاصة بالأبطال الأكراد من على جدار مقهى "ماشكو" – أو "التشاي خانا" كما هي معروفة في هذه البقعة من الأرض – حيث تجد صورا معلقة لكتاب وموسيقيين ولشعراء مبجلين خاصة لجهودهم في تدوين تأريخ أحزان ومعاناة شعبهم على مر السنين.
وتبقى الصورة الأكثر تعبيرا هي للراحل الملا مصطفى برزاني، الزعيم الكردي والبطل القومي الذي ما زال أحفاده يهيمنون على الحياة السياسية في أربيل، عاصمة كردستان العراق، حتى يومنا هذا. إلى يساره، صورة قاتمة اللون للقاضي محمد، الزعيم الانفصالي الذي ترأس جمهورية ماهاباد في الأربعينيات من القرن الماضي داخل الأراضي الإيرانية، إلا أنها لم تدم طويلا كما تم إعدامه بتهمة الخيانة.
وأخيرا، صورتان للزعيمين المخضرمين:
مسعود بارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، وجلال الطالباني، من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. وعلى الرغم من المنافسة الشديدة التي أحاطت بعلاقتهما على مر الزمن، حتى في بعض الأحيان تم إراقة الدماء بسببها، يبتسم الزعيمان الكرديان لبعضهما البعض في الصورتين المحاذيتين على الحائط.

البانتيون أو (مقبرة العظماء) الخاصة بالأبطال الأكراد من على جدار مقهى "ماشكو".
وقد عاصر مقهى ماشكو، الذي يقع في أربيل، القلب الكردي للعراق، جميع هذه القيادات على مر الزمن وكان شاهدا على ارتفاعهم وعلى سقوطهم، على إعلانهم الحروب وعلى مضييهم في اتفاقات سلام، وحتى على مماتهم. وعلى مدى 77 عاما، قدمت عائلة محسن مجيد ماشكو، مالكة مقهى ماشكو، التعاطف والشاي والكتب المجانية التي تملأ الرفوف المثقلة بها إلى وجهاء الأكراد وأنصارهم.
ويعانق المقهى الحائط الجنوبي لقلعة أربيل الأثرية، التي تم إدراجها من قبل منظمة اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي العام 2014، والتي تعايشت بشكل أو بآخر، مع حقبات عدة منها سيطرة الآشوريين والساسانيين على هذه السهول الخصبة المتاخمة لجبال زاغروس.
المثابرة على العمل حتى خلال الحرب والقمع
في العام 1940، عندما فتح والد ماشكو، محسن، مقهى العائلة، كانت الحرب العالمية الثانية مستعرة، وكانت المنطقة بيدقا بين أيدي القوى العظمى، وهو مصير لم يتمكن الأكراد من مقاومته تاريخيا منذ أن قام الملوك ورسامو الخرائط بغزو أراضيهم وتقسيمها، وبالتالي حرمانهم من الوطن الأم. وتماما مثل القلعة التي يحميها، نجا المقهى من تحديات الزمن ولم يتوقف يوما عن العمل حتى مع احتدام الصراعات الداخلية والخارجية.
في أوائل التسعينيات، وبعد فترة وجيزة من إنشاء منطقة الحكم الذاتي الكردية في أعقاب حرب الخليج الأولى، كانت أربيل تحت سيطرة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. وبحلول منتصف التسعينيات، اندلع القتال بين القوات الموالية لبارزاني والقوات الموالية لطالباني، مما أدى إلى دخول المنطقة في أتون حرب أهلية وحشية أودت بحياة الآلاف كما اضطر العديد من سكان المدينة إلى الفرار من أجل سلامتهم.
وبقي المقهى مفتوحا خلال الأشهر الأكثر خطرا من العام 2014، عندما استولى
تنظيم "الدولة الإسلامية" على الموصل، عاصمة مقاطعة نينوى غربي أربيل، والذي كان ينوي اجتياح عاصمة كردستان. وقد سيطر الذعر على المدينة خصوصا وأن سكانها ما زالوا يعيشون ذاكرة القهر والفظائع، بما في ذلك الهجمات الكيميائية وعمليات القصف الجوي في ظل حكم صدام حسين للعراق.
ومع تدفق آلاف السكان من سهول نينوى إلى المدينة، واستقرارهم في المتنزهات والأماكن العامة، وفي حين سارعت السلطات المحلية ومنظمات الإغاثة إلى التعامل مع الوضع الإنساني، حافظ مقهى ماشكو على أبوابه مفتوحة أمام الزبائن الذين لم يتوانوا عن الانخراط في نقاشات سياسية حادة حول الأوضاع التي تسيطر على البلاد.
"دعوا التاريخ يمر"
ولكن هذا كان قبل ثلاث سنوات، ويبدو بالفعل أن دهرا قد مر.
"الأعمال جيدة، جيد جدا، والحمد لله"، يقول ماشكو وهو يوجه التعليمات للنادل لموازنة صواني الشاي.
في المساء يزدحم المقهى وتجتمع العائلات حول القلعة، إلا أن ماشكو وافق على أخذ استراحة قصيرة من أجل تقديم نبذة تاريخية عن أحد أشهر مقاهي أربيل.
يجلس ماشكو على إحدى الطاولات المبعثرة في الشارع خارج مقهاه، ويبدأ سرد وتفصيل شجرة العائلة بدقة وكفاءة وفق جدول زمني.
"لقد ولدت في أربيل العام 1956. وكانت أسرتي تمتلك المقهى وأداره والدي حتى توفي في 1962. بعدها، استلم أخي الأكبر المهمة حتى توفي في العام 1991. وبعد ذلك استلمت أنا".

محسن مجيد ماشكو، صاحب مقهى ماشكو، الذي لا يزال يقدم الشاي على مدى 77 عاما.
لكنه لا يريد التحدث كثيرا عن الماضي. "دعوا التاريخ يمر" يتمتم ماشكو بنوع من الغضب. "لقد عانى شعبنا الكثير من المشقات والاضطهاد تحت حكم الديكتاتور صدام حسين. لكننا نعيش الآن في سلام وحرية"، يقولها فيما الشمس تغيب ملقية بوهجها الوردي على العلم الكردستاني العملاق على جدار القلعة فوق المقهى".