توجيهُ الطفلِ ليسَ كالجلوسِ على الحاسوبِ وإعطائهِ الأوامرَ والتوجيهاتِ ،
وليستْ هيَ مجردَ نصائحٍ تُملى عليهِ صبحَ مساء .
وإنما هيَ مواقفُ يتعرضُ لها الطفلُ في حياتِه ؛
فيغتنمُ الوالدانِ الفرصةَ لقولِ ما يناسبُ الموقفَ منْ نصائحَ .
وفي وقتِ الصدمةِ تنفعُ الدقّةُ !
على غرارِ تلكَ المشاهدِ التي تتكررُ في بيوتِنا كثيراً ..
ومواقفَ يوميةٍ يتعرضُ فيها الطفلُ للأذى أوِ البكاءِ حتى نعيدَ عليهِ الإسطوانةَ اليوميةَ :
هذا يحصلُ لكلِّ طفلٍ لا يسمعُ كلامَ والدَيهِ ، وآخرٌ يقولُ : هذا جزاءُ الكذبِ ..
وآخرٌ همُّهُ فقطْ إطعامُ أولادِهِ ، وتلك المُحاضرات التي لا تنتهي !
وهوَ ما قلَّلَ مِنْ أهمّيةِ نصحِ الوالدَينِ بالنسبةِ للطفلِ ، والذي يفهمُ تماماً أنَّ الأبوَينِ يحرصانِ
كلَّ الحرصِ على قلبِ كلِّ موقفٍ لصالحِ نصائحِهم التي طالَما أملَوْها على أذنَيهِ ..
كلُّ تلكَ المواقفِ ألِفَها الطفلُ في حياتِهِ ، فلمْ تَعُدِ الأحداثُ التي تمرُّ بالطفلِ ذاتَ أهميةٍ ؛
لأنّهُ يخرجُ مِنها كما دخلَها ، لمْ يتكوّنْ لديهِ رصيدٌ يبنِي عليهِ مبادئَهُ ويكوّنُ بِهِ شخصيتَه ..
وهذهِ مشكلةٌ كبيرةٌ بدأتْ في عدمِ الوعيِ التربويِّ ، وانتهتْ بشبابٍ ضائعينَ
يبحثونَ عنْ كلِّ شخصٍ يُحسِنُ الكلامَ والثرثرةَ ليُحيطوهُ بهالةٍ منَ الإعجابِ والإكبارِ ..
إذن كيفَ يُمكنُنا أنْ نصنعَ جيلاً يمكنُهُ أنْ يتعاملَ معَ الأحداثِ كرجلٍ صاحبِ مسؤوليةٍ
بدلاً منْ أشباهِ رجالٍ يبحثُونَ عنْ رجولتِهم في كلامِ الآخرينَ حولَهم ؟!
أنْ نصنعَ حكماءَ يستخرجونَ الوصفاتِ الناجعة منْ مشاكلِ الآخرينَ بدلَ أنْ يهزُّوا رؤوسَهم
إنَّ هؤلاءِ الأصنافِ منَ البشرِ الشرفاءِ لا تصنعُهمُ المحاضراتُ والنصائحُ والملخّصاتُ ،
وإنَما تصنعُهمُ المواقفُ المشرِّفةُ التي هزَّتْهم وانتعشتْ بها عقولُهم ..
فكيفَ إذن نستفيدُ منَ الأحداثِ والمواقفِ في تربيةِ الطفلِ ؟ ؟
أولاً . دعونا نقولُ إن هذهِ الحلقةَ تابعةٌ لسلسلةِ حلقاتٍ: هكذا ينشأ الجيلُ الصالحُ ،
والتي بدأْناها مُسبقاً فتحدّثْنا عنِ القدوةِ ثمَّ تحدّثْنا عنِ التربيةِ بالعادةِ ،
واليومَ نتحدّثُ عنِ الأسلوبِ التربويِّ الثالثِ وهوَ التربيةُ بالحدَثِ ..
وقدْ وجدْنا تعريفاً لطيفاً لها في كتابِ التربيةِ وأثرِها في السلوكِ للأستاذِ مصطفى الطحان .. حيثُ يقولُ :
" التربيةُ بالحدَثِ
"ومِنْ وسائلِ التربيةِ كذلكَ التربيةُ بالأحداثِ .. أي استغلالُ حدَثٍ معيّنٍ لإعطاءِ توجيهٍ معيّنٍ .
وميْزتُهُ على التوجيهاتِ الأخرى التي تُعطى للطفلِ باستمرارٍ ، أنّهُ يجيءُ في أعقابِ حدَثٍ يهزُّ النفسَ كلَّها .
فتكونُ أكثرَ قابليةٍ للتأثّرِ ، ويكونُ التوجيهُ أفعلَ وأعمقَ وأطولَ أمداً في التأثيرِ منَ التوجيهاتِ العابرةِ .
وقدْ كانتِ الأحداثُ في حياةِ الجماعةِ المسلمةِ الأولى ، والتوجيهاتُ القرآنيةُ المنزَّلةُ فيها ،
مِنْ أبلغِ وسائلِ التربيةِ لهذهِ الجماعةِ وأعمقِها أثراً فيها ..
والمُربِّي لا يستطيعُ أن يفتعِلَ الأحداثَ .. ولكنّهُ ينتهزُ الفرصةَ المناسبةَ ليُلقيَ دروسَهُ التربويةَ في الأحداثِ التي تقعُ ..
قدْ يقعُ الحدَثَ ، ولا تنفعِلُ معهُ نفسيةُ الطفلِ ؛ لعدمِ إدراكِهِ لأهميتِهِ ، ووظيفةُ المربِّي هنا أنْ يبيِّنَ للطفلِ جسامةَ الأمرِ ..
قبلَ أنْ يلقيَ إليهِ بالتوجيهِ "
إذا عرفْنا أنَّ التربيةَ بالحدثِ هي موقفٌ يهزُّ الطفلَ فتأتي عقبهُ نصيحةٌ وتوجيهٌ بقدرِ تأثُّرِهِ ،
فلا تكفي نصيحةٌ بكلمتَينِ في موقفٍ صعبٍ ، ولا يكفي أنْ يمُرَّ موقفٌ صعبٌ فلا نقولُ شيئاً معتبرينَ
أنَّ الموقفَ وحدَهُ سيُربِّي الطفلَ ويعلّمُه !
بلْ بقدْرِ الموقفِ والمشكلةِ والحدَثِ تأتي الوقفةُ التربويةُ المناسبةُ لعمرِ الطفلِ وعقليّتِهِ ومدى إدراكِهِ للأمورِ ..
التربيةُ بالحدث في القرآنِ الكريم ::
كيفَ لا ،فالقرآنُ لغةُ كلِّ العُصورِ، وقدْ حكَى اللهُ لنا أخباراُ ومَواقِفَ لوْ تفكَّرَ فِيها أحَدُنا
لوَجَدهَا مَدْرسَة ًترْبويّة ًتَخَرَّجَ مِنْها الأنبياءُ والعُظماءُ
وقدْ عرَفْنا كلُّنا كيفَ ينتقي اللهُ عبادَهُ الصالحينَ ويربّيهم ليكونوا لنا قدوةً ،
دعونا نتذكّرُ سيدَنا الصديقَ أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ وموقفَهُ منْ مسطحٍ حينَ خاضَ في حديثِ الإفكِ
حولَ ابنتِهِ الطاهرةِ العفيفةِ أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضيَ اللهُ عنْها وأرضاها ،
فقطعَ عنهُ النفقةَ غضباً عليهِ والتي كانَ يعطيهِ إياها قبلَ حديثِ الإفكِ ،
فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ منْ آياتِهِ الكريمةِ ما تدعو سيدَنا الصدّيقَ إلى العفوِ والصفحِ في موقفٍ ليسَ منَ السهلِ أبداً على الآخرينَ التجاوزُ عنهُ ،
ولكنّهُ الصديقُ أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ وتربيةُ اللهِ لهُ ساعةَ الحدثِ والموقفِ ..
قالَ تعالى :{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النور22
وهذا أسلوبُ التربيةِ بالحدَثِ ::
حيثُ إن الآياتِ أتتْ عقبَ الحدثِ العظيمِ الذي أثّرَ في نفوسِ جميعِ الصحابةِ، فكيفَ بنفسِ سيدِنا الصديقِ رضيَ اللهُ عنهُم ؟
ولكنْ هنا يأتي دورُ القرآنِ ليُغَيّرَ مجرى الأمورِ والأحداثِ ، فتنزلُ آياتٌ جليلةٌ تدعو للمغفرةِ والعفوِ
وختمتْها بآيةٍ يرغبُ كلُّ مسلمٍ أنْ يخاطَبَ بِها: ألا تحبّونَ أنْ يغفرَ اللهُ لكُمْ ؟
كما كانَ رسولُ اللهِ محمدٌ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يستغلُّ الأحداثَ كثيراً ، فتراهُ وقتَ الجنازةِ وتشييعِ الميتِ
يذكّرُ أصحابَهُ عذابَ القبرِ وما فيهِ منْ أهوالٍ ، فتهتزُّ نفوسُهُم وتتأثرُ أيّما تأثُرٍ لأنّه كلامٌ عظيمٌ في موقفٍ مؤثرٍ ..
إذن فالمربّي الحقيقي هوَ الذي يختارُ التوجيهَ المناسبَ في الوقتِ المناسبِ ،
وأن لا تكونَ توجيهاتُه عابرةً في كلِّ وقتٍ وكلِّ صيفٍ وشتاءٍ تتكررُ نفسُ التوجيهاتِ ..
فهذهِ مِنْ شأنِها أن تَبْلى في ذهنِ الطفلِ لأنّها وُضعتْ في ذهنٍ باردٍ ،
على خلافِ أنْ تكونَ عقبَ حدَثٍ مؤثرٍ ،
فيكونُ التوجيهُ حينَها ساخناً مؤثّراً ...
والأحداثُ التي يمرُّ بها الطفلُ كثيرةٌ ونذكرُ على سبيلِ المثالِ :
- الأحداثُ العامةُ : انتشارُ مرضٍ ، موتُ قريبٍ أوْ صديقٍ ، العيدُ ، رمضانُ ، موسمُ الحجِ ، صلاةُ الجمعةِ ،
صلاةُ الجماعةِ ، احتلالُ فلسطينَ ، احتلالُ العراقِ ، وغيرُها منَ الأحداثِ التي قدْ تمرُّ بأيِّ فردٍ منّا ..
- أحداثٌ فرديةٌ : رسوبٌ في الامتحانِ ، ابتعادُ الأصدقاءِ عنهُ ، الخوفُ منْ شيءٍ ، الرغبةُ في الحصولِ على شيءٍ ،
الحزنُ على أمرٍ فاتَ ، تضييعُ الوقتِ وغيرُها الكثيرُ ممّا يصعبُ حصرُهُ ..
فالأحداثُ العامةُ تمرُّ بها الأمةُ الإسلاميةُ وعليه يجبُ أنْ نربيَ أطفالَنا لَها ،
وإلا فكيفَ نطمعُ في تربيةِ جيلٍ صالحٍ يرتقي بأمَّتِهِ وهوَ يجهلُ همومَها ؟!
وهذهِ أمثلةٌ منَ التوجيهاتِ التي يجبُ أنْ نركزَ عليها:
* ما يخصُّ احتلالَ فلسطينَ :
- أنَّ الصراعَ بينَ الحقِّ والباطلِ صراعٌ مستمرٌّ، وأنَّ الباطلَ لهُ جولاتٌ سريعةٌ والحقُّ سيأتِي بقوةٍ دامغةٍ .
- أنهُ بسببِ ذنوبِ المسلمينَ سلّطَ اللهُ عليهِم أعداءَهم .
- وبسببِ ضعفِهم وتفرّقِهم وعدمِ اجتماعِهم تجمعتْ كلُّ الأممِ الكافرةِ ضدَّنا ، كما تخاذلنا عنْ نُصرةِ بعضنا بعضا .
- الأعداءُ على كثرتِهم جبناءُ ، والمسلمونَ على قِلَّتِهم أقوياءُ في الحربِ وليسَ أدلُّ على ذلكَ
أنْ ينصرَ اللهُ المقاومينَ القلّةَ على أعدائِهم بعدّتِهم وعتادِهم ..
- سيأتي اليومُ الذي يتحقّقُ فيهِ وعدُ اللهِ ورسولِهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بأنْ ننتصرَ على اليهودِ ،
وسيختبِئ اليهوديُّ خلفَ الصخرةِ ، فتنادي الصخرةُ : يا مسلمُ هذا يهوديٌّ ورائِي فاقتُلهُ ..
فمنْ هذهِ التوجيهاتِ : يؤمنُ الطفلُ بأنَّ الحقَّ قائمٌ قويٌّ ، وسيعرفُ أنَّ للذنوبِ سلطانا على المسلمينَ ،
فتحرمُهُم منَ التفوقِ والتميزِ ، وفيهِ إيمانٌ بوعدِ اللهِ ورسولِهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ..
أمّا الأحداثُ التي تمرُّ بالطفلِ وحدَهُ ، فيحتاجُ لتوجيهاتٍ تُخرجُهُ ممّا هوَ فيهِ منَ الحيرةِ والضياعِ ،
فنعلّمُهُ كيفَ يربطُ النتائجَ بالأسبابِ ويستنتجُ الحلولَ ، ويستشيرُ أهلَ الخبرةِ كالوالدَينِ والمعلمِ والشيخِ ، ولا نعطيهِ نحنُ توجيهاتٍ جاهزةً منْ دونِ اقتناعٍ بِها .
فالطفلُ القادرُ على التفكيرِ في أمورِهِ واستشارةِ أهلِ الخبرةِ والرأيِ ، ومنْ ثمّ محاولة حلّ مشاكلهِ من نفسهِ بطرقٍ قَدْ تفشلُ ثمّ تفشلُ ثمّ تفشلُ ثمّ تنجحُ ،
خيرٌ منْ طفلٍ نعطيهِ نصيحةً ينجحُ بِها , أو لا ينجحُ فيظلُّ باحثاً عنْ حلٍ عندَ الآخرينَ
وأخيراً .. يمكنُنا أنْ نقولَ إن تاريخَنا مليءٌ بهؤلاءِ الأبطالِ والقدواتِ الفذّةِ الذينَ كانوا أطفالاً
ولكنْ حتّى في طفولتِهم كانوا رجالاً ..
فلنعُدْ إلى تاريخِنا فهوَ أغنى منْ تاريخِ الأممِ الأخرى ،
وحافلٌ بأخبارٍ ومواقفَ صنعَ اللهُ فيها رموزاً للأمةِ ..
ولكنْ فلنبحثْ في أغوارِها ، ولنكلّفْ أنفسَنا مشقةَ القراءةِ ..
هذا إنْ كنّا نرغبُ في إنشاءِ جيلٍ صالحٍ .. واللهُ وحدَهُ الموفّقُ