المثالية والواقعية.. وضياع الأهداف
يسعى بعض المصلحين في مجتمعات كثيرة إلى الوصول بمجتمعاتهم لمستوى مثالي، معتمدين في ذلك على نظريات لا ترتكز على أسس علمية ولا تستند على احتمالات النجاح، ولا تستمد من الواقع حيثياتها وأسباب الاقتناع بها، يقابل هؤلاء المصلحين.. آخرون يسعون للوصول بمجتمعاتهم إلى مستوى أفضل وأكثر واقعية وانسجاما مع معطيات ومتطلبات الواقع الذي تعيشه تلك المجتمعات، بما يمليه من تجاذبات، وما يفرضه من تناقضات، وما يعانيه من مشكلات، وهذه الواقعية في معالجة مشكلات المجتمع تحول دون الجنوح لتلك المثالية التي تضيع في دروبها الأهداف المراد الوصول إليها، والتي لا يمكن ترجمتها من كونها مجرد نظريات، إلى واقع معاش في جميع المجالات.
والمثاليون كثيرا ما تضيع اهدافهم، في سراديب المستحيل، ورغم نواياهم الطيبة لم يقدموا للعالم سوى النظريات البعيدة عن الواقع، فلا جمهورية افلاطون ولا مدينة الفارابي الفاضلة، ولا غيرهما من التصورات المبنية على أحلام غير قابلة للتنفيذ، يمكن أن تحقق الأهداف لأنها عامل من عوامل ضياعها، والنوايا الطيبة لا تصنع الحضارات، ولا تؤسس الثقافات، بل تشكل عائقا عندما تجنح بالإنسان إلى ما لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، بما يعتمل في هذا الواقع من سلبيات وايجابيات، وما يمور فيه من تناقضات، وغالبا ما يكون هذا الوهم حول الحياة المثالية سبب خيبة أمل للمخدوعين بالنظريات المثالية عندما لا يرونها على أرض الواقع.
أحيانا تستغل هذه المثالية عندما تتحول إلى وعود براقة يستفاد منها في برامج الحملات الانتخابية، أو عندما يتحدث السياسيون أمام الجماهير بخطاباتهم الرنانة المليئة بالوعود التي لا تنفذ، أو عندما ترفع كشعارات خادعة لعامة الناس، ولا تلبث أن تنسى بعد انتهاء فترة الحاجة إليها، وكل هذه المثاليات تفتقد روح القابلية للتنفيذ لتبقى في النهاية حبرا على ورق، أو مادة لأدبيات الترف الثقافي البعيد عن الواقع، لذلك فإن المطالبات الغارقة في المثالية لا تجد لها آذانا صاغية من الجهات الموجهة إليها، لأسباب يجهلها من يتقدم بها دون مراعاة الواقع الذي يفرض تجاوزها لعدد من الأسباب، ومع ما يمكن أن توصف به من خيال، فإن ذلك لا يعني منع الحالمين من أحلامهم، فما لم يمكن تحقيقه يمكن افتراضه، وليس في ذلك سوى الهروب من الواقع بأحلام مجنحة صعبة المنال، وثمة علاقة بين المثالية والأحلام، فكلاهما من وحي خيال الإنسان الجامح، وقد أدرك العرب الفرق بين المثالية والواقعية، فقالوا: إذا أردت ان تطاع فاطلب ما يستطاع، أما ما يخرج عن استطاعة وقدرة الإنسان، فلن يجد طريقه للتنفيذ، مهما صاحبه من الإلحاح والإصرار.
مع كل ذلك نرى من يتزود بالخيال عند مطالباته فيما يسمى بالإصلاح، رغم الاختلاف فيما تعنيه كلمة الإصلاح، التي ينظر إليها المثاليون بمنظار، والواقعيون بمنظار آخر، وثمة فرق بين خيال وخيال، هناك خيال قابل للتنفيذ إذا توفرت شروط هذا التنفيذ، وخيال آخر غير قابل للتنفيذ لاستحالة توفر شروط تنفيذه، وفي الحالتين لا أحد يملك القدرة على منع الإنسان عموما من التخيل، سواء كان هذا التخيل مبدعا وبناء ومجديا، أو كان هذا التخيل مستحيلا وصعب التنفيذ.
أمامك حرية الخيال، لكن المثالية الموغلة في الخيال مطلب لم يستطع الإنسان بعد أن يحققها، حتى وإن تحقق له ما لا يتوقعه من المبتكرات والمخترعات في المستقبل، لأن ذلك يصبح واقعا منذ اللحظة الأولى لظهوره، واقترابه من الواقع لا يعني وصوله إلى المثالية. أما المثاليون فما زالوا سجناء أفكارهم التي ترهقهم، وتستنزف منهم راحة البال، وطمأنينة النفس، وهذا حتما لا يحول بينهم وبين الإسهام في تطوير مجتمعاتهم للوصول إلى الحياة الحرة الكريمة.
منقول