كاظم فنجان الحمامي
من المؤسف له ان بعض الأكاديميين الذين تعشمنا بهم خيرا في الوقوف معنا لمواجهة التحديات الخطيرة المحدقة بمستقبلنا, من المؤسف له أنهم خسروا مروءتهم وفقدوا إحساسهم الفطري بهذا الوطن الجريح, وتخلوا عن روح المواطنة, ولم يعد لديهم أي اهتمام بأطماع دول الجوار, ولم يكترثوا بتجاوزاتها المتكررة على مواردنا المائية ومسطحاتنا البحرية, فسجلوا غياباً مخجلاً لا يليق بمستواهم العلمي, ولا يتوافق مع عناوينهم الوظيفية عندما آثروا الهروب من المواجهة, واختاروا الصمت المطبق, فركبوه جملا كسيحا سار بهم نحو كثبان التخاذل في زوابع الولاءات السياسية المتقلبة, واستحسنوا الابتعاد عن مناقشة التجاوزات الكويتية على ممرنا الملاحي في خور عبد الله, مع علمهم المسبق انه الرمق البحري الوحيد, الذي يتنفس منه العراق نسيم بحار الله الواسعة, والأنكى من ذلك كله إن بعضهم لّوّح بهراوة التخويف, ورفع عقيرته بالصياح دفاعا عن منشآت ميناء مبارك في بوبيان, زاعماً أنها لا تؤثر على المسار الملاحي المؤدي إلى أم قصر. .
تعالوا معنا نتحاور معهم بوثيقة واحدة أو بخارطة واحدة من تلك الخرائط التي رسمت ملامح خور عبد الله, دعونا ندحض آرائهم الباطلة, فنقول لهم: إن من ينظر إلى تفاصيل الخارطة البحرية الأدميرالية التي تحمل الرقم الدولي (1235), والتي تعتمد عليها السفن التجارية في ذهابها وإيابها.
سيرى بأم عينه المسار الملاحي المؤدي لموانئنا البحرية في خور الزبير وأم قصر, وسيتأكد بنفسه من محاذاة هذا المسار الملاحي لجزيرة بوبيان, وهو ممر طبيعي حفرته العوامل الجغرافية بمعاول المؤثرات الجيولوجية, وهو الذي يرسم النقطة العميقة لخط الثالوك في حوض الخور, وقد زعمت الكويت مرارا وتكرارا إنها لن تقترب منه, ولن تعيق حركة السفن القادمة والمغادرة من والى أم قصر, لكنها رسمته بخرائطها الدفاعية خارج مساره الصحيح, فوضعته في منتصف المسافة الفاصلة بين ساحل جزيرة بوبيان وساحل شبه جزيرة الفاو, بمعنى إنها رسمته على الخط الوهمي للحدود الدولية الفاصلة بين العراق والكويت بموجب القرار (833) لسنة 1991, في محاولة للإيحاء بان خط الحدود هو الخط الملاحي نفسه, وشتان بين هذا وذاك. .
فالتناقض الظاهر بين ملامح المسار الملاحي المثبت في الخارطة الأدميرالية وبين ملامح المسار الملاحي المختلق في الخرائط الكويتية يؤكد حقيقة المؤشرات الهندسية الدالة على تجاوز الممر الملاحي المؤدي إلى موانئنا. .
وها هو الميناء يتمدد خارج حدود جزيرة بوبيان, ليعزز أركانه بما يربو على (431) ركيزة فولاذية عملاقة, لا يقل قطرها عن مترين ونصف المتر, وبنحو (508) ركيزة فولاذية لا يقل قطرها عن متر ونصف المتر في واجهات المراسي الداخلية, وبلغت كميات الدفان حتى الآن حوالي (1300000) متر مكعب, فاقتربت واجهات الأرصفة شيئا فشيئا من الممر الملاحي, لتولد المزيد من الضغط على حركة السفن القادمة والمغادرة من والى ميناء أم قصر, فما بالك بما سيحتاجه ميناء مبارك من مساحات مائية مفتوحة لأغراض المناورة اللازمة لعمليات الإقلاع والإرساء, وما بالك بما سيحتاجه من مساحات جانبية تُخصص لانتظار سفن الحاويات المحورية. .
لقد فضل الأكاديميون والسياسيون عدم التطرق لظاهرة الاختزال الساحلي عند مقتربات رأس البيشة, وتجاهلوا العوامل الطبيعية والبشرية المؤثرة على مسطحاتنا البحرية المنكمشة, والدليل على ذلك جهل معظمهم بتفاصيل قناة (الروكا), وجهلهم بخور (الخفقة), ولسنا مغالين إذا قلنا إنهم لا يعرفون أسماء الجزر العراقية المبعثرة في شط العرب, ولا شأن لهم بما آلت إليه ظروف ممراتنا الملاحية الضيقة المؤدية إلى موانئنا النفطية في عرض البحر. .
من نافلة القول نذكر إن بعض أساتذة القانون عندنا يعدون من أكثر الفقهاء تعمقاً في شرح أحكام وبنود القوانين والتشريعات الدولية والإقليمية والمحلية, لكنهم لا يحبذون التطرق للقرارات والتشريعات الظالمة وتداعياتها السلبية, التي سلبت السيادة الشرعية للعراق قي بحره الإقليمي وفوق ممراته الملاحية, فاختاروا السكوت عن حقوقنا الضائعة, ولم تعتمل في قلوبهم جذوة النخوة والمروءة. .
وكأنهم لا يعلمون ان المروءة العلمية تعد من خصال البطولة والشجاعة والشرف, فالأكاديمي الشجاع هو الذي يسخر علومه ومهاراته في خدمة وطنه, والسياسي المجاهد هو الذي يهتم بقضايا بلده أكثر من اهتمامه بنفسه, وهو الذي يضحي بالغالي والنفيس من أجل كرامة أبناء شعبه, ويسعى لضمان أمنهم واستقرارهم, ويخلص في مشاعره الوطنية. .
من المفارقات العجيبة التي ظهرت على السطح في تباين السياقات التنفيذية بين مشروع ميناء مبارك وبين مشروع ميناء الفاو, ان الوزارات الكويتية اجتمعت وتعاونت مع بعضها البعض, وكرست جهودها كلها في تنفيذ الجزئيات التخصصية الملقاة على عاتقها نحو انجاز مراحل ميناء مبارك على الوجه الأكمل في المواعيد والتوقيتات التصميمية المتفق عليها مسبقاً, باستثناء وزارة النقل الكويتية, التي وقفت تتفرج من بعيد بانتظار اليوم الذي تتسلم فيه مفاتيح إدارة المشروع بعد اكتماله, اما في العراق فالمسألة معكوسة تماماً, إذ انفردت وزارة النقل العراقية وحدها بالإشراف على مشروع ميناء الفاو الكبير, ومتابعة تنفيذ مراحله خطوة خطوة, بينما وقفت الوزارات العراقية التخصصية الأخرى موقف المتفرج الغائب, تاركين وزارة النقل العراقية تذود وحدها بالدفاع عن هذا المشروع الوطني الاستراتيجي. .
ومن المؤسف له حقا إننا نسمع بين الفينة والفينة تصريحات بعض المسؤولين العراقيين الذين اختاروا الوقوف مع ميناء مبارك, فنراهم يدافعون عنه دفاعا مستميتا, لكنهم فقدوا حماسهم الوطني في الدفاع عن مسطحاتنا البحرية العراقية المتقلصة المنكمشة المختزلة المتقزمة, وبات واضحا إن الأمر لا يعنيهم, لا من بعيد ولا من قريب. .
والعجيب بالأمر إن بعض الوزارات العراقية تعاقدت في نقل بضائعها المستوردة من الخارج عبر الموانئ البديلة, وأشاحت بوجهها عن الموانئ العراقية, وليس مستبعدا أن تكون تلك الوزارات في طليعة المتعاقدين مع ميناء مبارك بعد اكتماله من أجل الاعتماد عليه في توريد موادها المنقولة بحراُ, فنحن في بلد العجائب والغرائب, وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود, وعيش وشوف. .
|
|
|
|
|