TODAY - 02 September, 2010
البلاد الحزينة «منذ الأزل».. ستمر بأيام سيئة كثيرة
أميركا «المحتلة» ترحل.. والعراقيون لم يمتلكوا بعد تعريفا لـ«السقوط»
غزو العراق واحتلاله والاضطرابات التي تلت ذلك، سُميتْ كلها عملية "حرية العراق"، واليوم ستتغير التسمية لتكون "الفجر الجديد".
لكن محاولةَ أميركا لوضع حد لحرب لا تحظى بشعبية اصطدمت بحاجز معروف. فالخطط والتوجهات العريضة التي عرضها المسؤولون الاميركيون لم تتمكن من اسر الجوانب غير الملموسة والحاجات المعنوية التي غالبا ماشكلت محور حرب العراق. وبامكانك ان تسمي ذلك: الحالة المزاجية. فالبلاد، التي على مايبدو كانت منذ الابد حزينة مضطربة، ستمر بايام سيئة كثيرة.
وصاح يوسف صباح بصوت شخص، نادرا، ماكان احد يصغي اليه، "لم يتغير شيء، لاشيء. منذ سقوط صدام وحتى الآن لم يتغير شيء. بل العكس فاننا نرجع للوراء". كان يوسف ينتظر الحصول على بنزين في صف من السيارات وقد فتح نافذة السيارة وسط طريق قذر امام حاجز من الاسلاك الشائكة وقطع من كتل كونكريتية ونفايات استحالت بلون اسمر واحد.
وفي وسط الطريق كان سائق سيارة الاجرة هيثم احمد، الذي يصف نفسه بانه "محبط وقَرِف ومتشائم وغاضب ومنهك القوى"، ينتظر ايضا ويقول "هل هناك من شيء لأضيفه؟".
والعراق بلد يصوره المسؤولون الاميركان اليوم بانه – آمن ومسالم وفيه بهارج الدولة – معتمدين على عام 2006 كخط اساس يقاس عليه، عندما كانت البلاد على حافة الهبوط لمجزرة عدمية.
لكن الكثير هنا يعتبرون نقطة البداية هي بيان الرئيس جورج بوش في العاشر من اذار (مارس) عام 2003 قبل عشرة ايام من الغزو عندما وعد "بأنّ حياة المواطن العراقيِ ستتحسن بشكل مثير".
والعراق ينتج الآن كهرباء اكثر، لكن الطلب على الكهرباء تعاظم جدا ما ترك الكثير من العراقيين يكتوون بحر الصيف. والماء قذر في اغلب الاحيان. وقوات الامن العراقية متواجدة دوما في كل مكان، لكن سواق السيارات اعتادوا على السخرية منهم بسبب مظهرهم الدال على الانهاك وعلى عدم الاحترافية. ونقاط التفتيش التي تتولاها الشرطة تعقد المرور ولا تساعد في شيء.
والديمقراطية الناشئة التي يصورها المسؤولون الاميركان بانها انجازهم الاعظم، وحتى ان كان ذلك خاطئا، فانها تولد في الغالب ردا كئيبا. اذ يقول الفنان قاسم سبتي ان "الناس لايستطيعون العيش على الهواء فقط، انهم يحتضرون".
وفي صراع تحدده في اغلب الاحيان نتائجه غير المقصودة، فان انتخابات السابع من اذار قد تبرهن على انها نقطة تحول غير متوقعة إلى درجة لم يسبق لها مثيل، فقد شارك الناس فيها بغض النظرعن طائفتهم وانتمائهم العرقي.
لكن وبعد ستة أشهر تقريباً، ما يزال السياسيون محشورين في خانة ضيقة لعدم قدرتهم على تشكيل حكومة، واشارات التحذير البراقة على السيارات التي تنقلهم مع حاشيتهم المدججة بالبنادق من مكاتب مكيفة الى بيوت مكيفة بعد ان يصفوا الاجتماعات بانها كانت "ايجابية" اصبحت كلها عملية غش.
وخيبة الامل لم تعد مقتصرة على فئة دون اخرى، بل انها ألمت بكل الطبقة السياسية التي ساعدت الولايات المتحدة على تقويتها عند الاحتلال.
وتقول لافتة ساخرة بالقرب من الضريح المقدس في الكاظمية "يعزي اهالي الكاظمية الحكومة بوفاة الماء والكهرباء".
والغزو الاميركي الذي جرى في عام 2003 يتردد صداه في عام 2010 حيث تستعد القوات للمغادرة. فثمة احساس بعودة الوقوف في صفوف (للحصول على مادة ما) في هذه الايام وهو احساس مكرر مألوف. وقد عادت الصفوف في محطات الوقود في هذا الشهر وهي شهادة على واحدة من اكبر المفارقات الساخرة في العراق: ففي بلاد تحوي ثالث اكبر احتياطي نفطي في العالم يتوجب على الناس ان يتحملوا الانتظار طويلا للحصول على البنزين.
والكلمة التي كانت تتردد هنا في السنوات السابقة هي "غامضة"، واصبحت الآن الجواب النموذجي على كل سؤال.
ويقول السيد صباح المنتظر في الصف للحصول على البنزين "بعد سبع سنوات لايزال مصيرنا مجهولا. وعندما تنظر الى المستقبل فانك لا تعرف ما الذي يحمله".
والشكاوى حول الخدمات الرديئة هي اعادة صياغة لنفس الشكاوى التي تصاعدت في الاشهر التي تلت سقوط صدام.
ويتواصل الشعور بمجهولية المصير مع تصاعد الاحباط وتشاحن الزعماء السياسيين ولا احد يبدو متأكدا من النوايا الاميركية، على الرغم من ملاحظة الرئيس اوباما حول ما تصفه الادارة بانه نقطة تحول في الصراع.
وكان بائع الكتب محمد حياوي، الذي يتطابق مقاس جسمه مع فتنته، قد قال في يوم صيفي حار من ايام عام 2003 فيما كان العرق يتصبب من وجهه ذي العظام الناتئة "أَتحدّى أي شخص ان يخبرني عما حدث؟ وعما يحدث الآن وما سيحدث مستقبلا؟"
لكن السيد حياوي مات في عام 2007، عندما مزقت سيارة مفخخة مكتبته المليئة بمجلدات آيات الله، وتنبؤات المنجمين وقصائد المثقفين الشيوعيين. وفي هذا الاسبوعِ، وفي نفس المكتبة، التي لا تزال ملكا لعائلته، ردد اخوه نجاح حياوي كلماته قرب ملصق شجب "التفجير الجبان البائس" الذي اودى بحياة اخيه.
وقال "ليس في العراق شخص يملك اي فكرة ليس عما حدث وعما يحدث الان فقط بل حتى عما سيحدث مستقبلا". ويضيف "لست انا فقط لا اعرف، وليس محمد رحمه الله، ولكن كل شخص تتحدث معه، ولن تجد احدا يعرف".
ويسمي العراقيون الاطاحة بصدام: السقوط. وبعد سبع سنوات لا يمتلك احد تعريفا كاملا للبديل التي اخذ مكانه. انها فترة غير حاسمة كان الاحتلال ذروتها. ويسميها اخو السيد حياوي "مسرحية". ويقول انه لم يكن لعامة الناس يد في كتابة السيناريو بل كتبته ايد اخرى.
وتقول شهلاء الاطرقجي الطبيبة البالغة من العمر38 عاما والتي تنتسب الى سلاسة لبنانية وقد عادت للعراق عام 2003، فيما كانت ترتشف قهوتها في نادي الصيد ببغداد ان "افضل شيء هو ان ليس لدي اطفالا، فاذا لم يكن بمقدوري ان اوفر لاطفالي حياة مرفهة فلماذا اجيء بهم لهذا العالم". وقال الطبيب ثامر عزيز الذي يعمل في مركز التأهيل الطبي على مساعدة مبتوري الاطراف، بايجاد ما يناسبهم من الاطراف الصناعية، وهو يحدق بالطفل مصطفى هاشم البالغ من العمر ست سنوات والذي فقد ساقه اليمنى في انفجار سيارة مفخخة في الكاظمية وتعرض ابوه للشلل "لطالما اقتنعت ولازلت مقتنعا باني لن اتزوج وأكوّن عائلة قد افقدها في اية لحظة بطلقة او قنبلة مثلما جرى لهذا (الطفل)".
وحتى في خاتمة التجربة الاميركية في العراق، فان العادات القديمة لم تتبدل. ففي يوم الاثنين الماضي سلكت اربع عربات همفي اميركية الاتجاه المعاكس للسير في احد الشوارع وعندها توقفت السيارت القادمة مفسحة لهم المجال، وبعدها استدارت عربات الهمفي عابرة الجزرة الموحلة الفاصلة بين الاتجاهين ثم واصلت مسيرها مقرقعة وعندها صاح أمين مخزن اسمه مصطفى مناف متسائلا "انظر! هل رأيت انه الامر نفسه، ما الذي تغير؟"
عن نيويورك تايمز