(اَللّـهُمَّ !.. ارْزُقْني فيهِ فَضْلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَصَيِّرْ أُمُوري فيهِ مِنَ الْعُسْرِ إِلَى الْيُسْرِ ، وَاقْبَلْ مَعاذيري ، وَحُطَّ عَنّيِ الذَّنْبَ وَالْوِزْرَ ، يا رَؤوفاً بِعِبادِهِ الصّالِحينَ !).
- (اَللّـهُمَّ !.. ارْزُقْني فيهِ فَضْلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ...) :
الغرابة هنا : أنه لماذا وقع الدعاء بفضل ليلة القدر وقد اجتزنا الليالي المعروفة : التاسعة عشرة ، والحادية والعشرين ، والثالثة والعشرين ؟!.. لعله من باب الإلفات إلى فضل هذه الليلة -ليلة السابع والعشرين- ، ففي ليلة الوتر من الشهر الكريم يقول الإنسان : اللهم !.. ارزقني فيه فضل ليلة القدر..
ومن الملاحظ أن الإنسان المؤمن يدعو ربه أن يرزقه في هذه الليلة ما يعطيه عباده في ليلة القدر.. وهل هذه الليلة من ليالي القدر ، حتى يعطى الإنسان فيها فضل ليلة القدر ؟!.. حقيقة الأمر أن شهر رمضان شهر الضيافة ، وللمضيف إكرام عام للجميع ، ولكن المضيف يختار بعض الخواص من عباده -من ضيوفه- الذين يترقبون في كل ساعة وفي كل لحظة نوالاً من نواله ، ويخصهم بالكرامة.. ولهذا يقال ليلة العيد أو الليلة الأخيرة من شهر رمضان ، هي ليلة العتق من النار ، ولعل في تلك الليلة هناك عتقاء من النار من الذين لم يعتقوا حتى في الليالي الأخيرة من شهر رمضان المبارك.. إذن، هذه الليلة أيضاً محطة مهمة ، ويحسن للمؤمن استغلالها..
ومع الأسف نلاحظ حالة الإدبار بعد ليالي القدر ، وحالة الإدبار بعد عرفة.. فالناس عادة تركن إلى نفسها بعد ليالي القدر ، وكأنه قد انتهى كل شيء !.. صحيح المقدرات قد كتبت ، ولكن من المعلوم أن الدعاء يرد البلاء وقد أبرم إبراماً ، وينبغي للمؤمن أن يستغل اللحظات والساعات الأخيرة من الضيافة ، وخاصة أن الناس معرضون ، فيكون للمقبلين منهم عناية خاصة.. وفي موسم الحج الطواف الأول يختلف عن الطواف الثاني الواقع بعد عرفة ، حيث حالة من حالات الاسترسال.. ولهذا ليلة مزدلفة - تلك الليلة ليلة العيد ، ليلة الجائزة العظمى ، والحاج في مناطق الرحمة ، وقد عاد لتوه من جبل عرفات - من أشد الليالي قسوة وقلة ذكر !.. وهذا ما لاحظناه في موسم الحج.. فطبيعة الإنسان طبيعة النسيان ، والإعراض عن ذكر الله سبحانه.. ولهذا المؤمنون القلائل الذين يواصلون استجدائهم من الله عزوجل في الليالي الأخيرة من شهر رمضان ، فإنهم في مظان الرحمة الخاصة ، تلك الرحمة التي لم توهب لعوام الخلق.
- (وَصَيِّرْ أُمُوري فيهِ مِنَ الْعُسْرِ إِلَى الْيُسْرِ...) :
قال تعالى : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ، وقد ورد في الحديث الشريف : (لن يغلب عسر يسرين) ، إذ يبدو في الآية الشريفة تكرار لليسر (لأنه نكرة) ، وتوحيد للعسر (لأنه معرفة) ، وكأن معنى الآية هكذا : فإن مع العسر يسراً ويسرا..
إن المؤمن يطلب اليسر ، ولكن في مرضاة الله عزوجل.. لا يلح على اليسر ، لأنه يسر ؛ وإنما يلح على اليسر ، لأن الله عزوجل أمره بذلك.. ولا شك بأن بعض صور البلاء تمنع الإنسان من السير إلى الله عزوجل ، ولهذا فإن أمير المؤمنين (ع) يقول عن الفقر : (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) ، أو (كاد الفقر أن يكون كفراً).. ومن هنا فإنه ينبغي للمؤمن السالك أن يعوذ بالله عزوجل من كل انشغال يشغله عن طريقه ، كما في مضمون الدعاء : اللهم !.. اقطع عني كل شيء يقطعني عنك.. ومن المناسب للمؤمن السالك أن يصر على هذا الدعاء ، وأن يحاول أن يرفع عن طريقه كل موجبات الانشغال ، حتى لو كانت نفسه التي بين جنبيه ، فإنه يدعو عليها لو كانت تصده عن الله تعالى ، كما نقرأ في دعاء مكارم الأخلاق : (وَعَمِّرْني ما كانَ عُمْري بِذْلَةً في طاعَتِك ، فَإذا كانَ عُمْري مَرْتَعاً لِلشَّيْطانِ فَاقْبِضْني إليك قَبْلَ أنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إليَّ).. إذ نلاحظ -هذه الحالة التي قد تكون غريبة- أن المؤمن يدعو على نفسه بالموت ، وهذا الدعاء المؤمن يدعوه ببكاء ونحيب وإصرار.. يطلب من الله عزوجل أن يأخذه إليه ، إذا كان يعلم أن بقاءه في الدنيا سيكون موجباً لسخطه تعالى.. فقبل أن يستحكم مقته تعالى عليه ، ما دام الآن هو مرضي عند الله عزوجل ، يدعو الله عزوجل أن يأخذه إليه !.. نعم، المؤمن يصل إلى هذه الدرجة من الوعي والحرص على مرضاة الله عزوجل !.. فإذا الإنسان المؤمن يتبرأ من نفسه إذا كانت نفسه عقبة في الطريق ، فكيف بالأموال ، وما شابه ذلك من العناوين الزائفة والباطلة !.
- (وَاقْبَلْ مَعاذيري... ) :
المؤمن يترقب لذلك اليوم ، يوم يقف بين يدي الله عزوجل ، ولهذا وهو الآن في الدنيا يحمل هم ذلك اليوم ، ويدعو الله عزوجل أن يقبل أعذاره ، ويلقنه حجته : (اللهم !.. لقني حجتك).. فقد يكون العذر عذراً مختلقاً ، فإن المؤمن بين يدي الله عزوجل قد يصل في بعض الحالات إلى مرحلة الإحساس بالخجل والوجل ، وأنه لا يملك أي دليل على تخلفه عن ركب الصالحين ، ومن هنا فهو يطلب من الله عزوجل أن يلقنه ذلك..
ولهذا من أجمل صور العفو يوم القيامة ما ورد عن الإمام الصادق (ع): إنّ آخر عبد يُؤمر به إلى النار يلتفت فيقول الله عزّوجلّ: أعجلوه، فإذا أُتي به قال له : يا عبدي !.. لمَ التفتّ ؟.. فيقول : يا ربّ !.. ما كان ظني بك هذا، فيقول الله جلّ جلاله : عبدي، وما كان ظنك بي ؟!.. فيقول : يا ربّ !.. كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي ، وتسكنني جنّتك.. فيقول الله: ملائكتي !.. وعزّتي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني، ما ظنّ بي هذا ساعة من حياته خيراً قطّ ، ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً ، ما روّعته بالنار.. أجيزوا له كذبه، وأدخلوه الجنّة !..
قد يقول قائل : أن هذه الحيلة قد يستعملها أهل جهنم جميعاً !.. ولكن لا ، ليس الأمر كذلك ، فإن هذا التوفيق من مصاديق : (اللهم !.. لقني حجتك).. فالله عزوجل لعنصر ما في هذا الإنسان ، يحب أن يرحمه في اللحظات الأخيرة قبل أن يدخل باب جهنم ، فيلقي في روعه ما يوجب إنقاذه.. وإلا فإنه في يوم القيامة من الذي يجرأ على الكلام مع الله عزوجل بكل ارتياح ، وخاصة إذا كان له ما له ، من التبعات ؟!.. ومن المعلوم بأن حالهم يوم القيامة هو ما يشير إليه قوله تعالى : {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .. ولكن هذا العبد عبد أُذن له في أن يتكلم مع الله عزوجل ، والله عزوجل مع أنه يعلم أنه إنسان يكذب ، ولكن مع ذلك قد قبل توبته !..
إلهي بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها ، صل على محمد وآل محمد ، وافتح علينا أبواب رحمتك !.. إنك على كل شيء قدير.
منقول