العلم والطب لا يخصان عرقًا معينًا أو مجموعة محددة من الشعوب، فمن الاكتشافات التي حققها الإنسان والتي يصعب حصرها نرى أن عددًا محدودًا جدًّا كان نتيجة جهد فردي، أو كان مقتصرًا على أمة واحدة أو جيل أو موقع جغرافي معين والأغلب أنّ يكون الاكتشاف الطبي حصيلة إسهامات مشاركة من قبل علماء سابقتين من مختلف البقاع عبر العصور.
إنّه لمن المؤسف أنّ كبار المؤرخين الغربيين قد تجاهلوا المنجزات التي حققها الشرق بصورة عامة والمسلمون بصورة خاصة في مختلف مجالات العلوم والطب؛ حيث إن هنالك قرائن تشير إلى أنّ الحضارة الإسلامية قد ساهمت بنصيب عظيم في تقدم العلم والطب، ويكفي أنّ نذكر هنا أسماء بعض علماء المسلمين الذين ساهمت اكتشافاتهم الجبارة في جوانب من التقدم الحضاري ما زال ينعم به البشر في وقتنا الحاضر، من هؤلاء: علاء الدين بن النفيس الذي كان له السبق في وصفه للدوران الرئوي قبل 350 عامًا من الاكتشافات التي اقترنت بعصر النهضة، وابن الهيثم واضع أسس علم البصريات، والخوارزمي واضع علم الجبر، وهذا يعطينا فكرة سريعة عن مساهمة الإسلام في التقدم الحضاري.
والهدف من هذه الدراسة هو إلقاء الضوء على الاكتشافات التي حققها العلماء المسلمون في حقل التخدير والتي تركت أثرًا بارزًا على الحضارة الغربية ما زالت تستعمل في مجال الممارسة حتى وقتنا الحاضر.
التخدير في الطب الإسلامي:
التأخر في إنتاج الأدوية المخفضة للألم مردّه إلى الاعتقاد الذي كان سائدًا في الغرب، وهو أنّ الألم والمعاناة هما الثمن الذي يجب أن يدفعه الإنسان ليكفر عن خطاياه، والمجتمع البشري مدين بإدخال طرق التخدير الحديثة إلى مجال الممارسة إلى "مورتون" و"ويلز وسيمسون " وغيرهما
الكتب الرئيسية التي بين أيدينا تشير إلى أنّ التخدير بالاستنشاق لم يكن معروفًا قبل هؤلاء، وإنّما هنالك محاولات من قبل الرومان والإغريق ذكر أنّها لا تتعدى استعمال طرق السحر والشعوذة والتبريد واستعمال مزيج مخفف للألم عن طريق الفم.
لقد عرف الأطباء المسلمون الجراحة ومارسوا مختلف المداخلات الجراحية التي كانت معروفة في ذلك الوقت، من بتر واستئصال اللوزتين والأورام، وأحيانًا يعرضون وصفًا مسهبًا لبعض التفاصيل الفنية المتبعة ، هذا القدر من المداخلات الجراحية لا يعقل أن يجري بدون الاستعانة بقدر من تخفيف الألم، ومما ساعد على ولوج المسلمين حقل التخدير والعمل على تطويره هو أنّ قصة الألم كنوع من الجزاء الإلهي لا أصل لها في معتقداتهم وتقاليدهم، وهنالك قرائن تشير إلى أنّ المسلمين كانوا يستعملون المهدئات، وخلائط مزيلة للألم قبل العمل الجراحي، فقد ورد عن ابن سينا قوله: "ومن أراد أن يقطع له عضو يسقى من البيروح في شراب مسيت".
ومن النباتات الأخرى التي استعملها المسلمون للهدف نفسه نذكر: القُنَّب الهندي (الحشيش)، وفقاعات الأفيون (الخشخاش)، والشويكران البنج وست الحسن.
كذلك يرجع الفضل لعلماء المسلمين في استعمال التخدير الاستنشاقي عن طريق ما دعي بـ"الإسفنجة المرقدة" أو الإسفنجة المنومة، فقد ذكرت زيغريد هونكه في كتابها: "وعلم الطب حقق كسبًا كبيرًا واكتشافًا هامًا، وذلك باستعمال التخدير العام في العمليات الجراحية، وكم كان تخدير المسلمين فعالاً فريدًا ورحيمًا بكل ما يتناولونه، وهو يختلف كل الاختلاف عن المشروبات المسكرة التي كان الهنود واليونان والرومان يجبرون مرضاهم على تناولها كلما أرادوا تخفيف آلامهم، وينسب هذا الكشف العلمي إلى طبيب إيطالي مرة أخرى، في حين أنّ الحقيقة تقول والتاريخ يشهد أنّ فن استعمال الإسفنجة المخدرة فنّ إسلاميّ بحت لم يعرف من قبل، وكانت توضع هذه الإسفنجة المخدرة في مزيج من الحشيش والأفيون وست الحسن والزوأن".
في حقل الكيمياء فإنّ رابطة الأثير التي هي الجذر الأساسي لمجموعة من المواد المخدرة الاستنشاقية التي تستعمل اليوم (أثير، ميتوكسي ، فلورين ، انفلورين، فلوروكسنت، فورين) يكتسب أهمية خاصة ويبدو أنّ هنالك خلافًا حول من قام بتركيبه أولاً، بعض المصادر تردّ ذلك إلى " فاليريوس كوردس" Valerius Cordus الذي قيل إنه وصف طريقة صنعه في كتابهAnnolation on Disconides الذي (طبع عام 1561) ودعاه: زيت الزاج الحلو Sweet Vitriol، حين ترد بعض المصادر الأخرى الفضل في اكتشافه إلىParacelsus الذي وصف تركيب الأثير في كتابهOpera medi- co- Chemica Sive paradoxa الذي (طبع عام 1605) وذكر تأثيره على الدجاج، هذا الاختلاف حول المصدر الذي قام بتركيب مادة أثير قد وصل درجة جعلت "أرمسترونج دافيزون Armstrong Davison" يقول: "إنّه ليس من المؤكد أنّ فاليرويوس كوردوس الذي مات عام 1544 يستحق أن ينسب إليه كشف مادة الأثير، باراسلسوس Paracelsus (فوق هون هايم) الذي مات عام 1341 وصف مادة أثير أيضًا في كتابه Opera Medico- Chemica Sive Paradoxa".
هنالك قرائن تشير إلى أنّ علماء الطب الإسلامي هم الذين اكتشفوا الغول (الكحول)، ومن المحتمل أيضًا أنّهم وبصورة عفوية اكتشفوا جذر الأثير (-O-)، هنالك مصادر موثوقة تؤكد أنّ الكندي قد استقطر الغول من النبيذ، ومع أنّ كلمة الكحول عربية صرفة وهي تحريف للكلمة الأصل "الغول" من "الاغتيال" وهو روح الخمرة التي وصفها العرب بأنّها تغتال العقل، كما أنّها وردت في القرآن الكريم الذي يصف خمر الجنة بأنّها خالية من الغول ولا تتسبب في صداع من يتناولها وذلك في الآية الكريمة {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] بالرغم من كل ذلك كانت هنالك محاولات لرد فضل هذه التسمية إلى مؤلفين من الغرب.
أريك . ج هولميارد Holmyard Enic.j. عام 1937 كان في طليعة من قام بتلك المهمة في كتابه "صانعو الكيمياء" "Makers of Chemistry" فنسب التسمية إلى (باراسلسوس Paracelsus) وكتب يقول: "لقد كان باراسلسوس أول من طلق اسم "الكوهول" لروح النبيذ، والكحل أو الكحول تعني في الأصل دهنًا أسود للعيون، المستعمل من قبل نساء الشرق، وبالتدريج اكتسب معنى أي مسحوق ناعم، وبتحوير طبيعي أخذ يعني أفضل أو أدق جزء في أية مادة)، ويمضي مولميارد فيضيف: "من المحتمل أنّ باراسلسوس اعتبر روح النبيذ كأفضل جزء فيه ومن ثم دعاه كحول النبيذ أو باختصار الكحل".
هنالك دراسة أخرى عن تاريخ هذه المادة أجراها الأستاذ الدكتور محمد يحيى الهاشمي (1968) وأخذ فهيا بوجهة نظر هولميالرد، وذهب إلى أبعد من ذلك فذكر أنّ الكحول هو جمع الكحل، وكما سيتضح من هذا البحث فإنّ كلتا المطالعتين بعيدتان عن الصحة، فكلمة الكحول لا وجود لها في اللغة العربية طبقًا لجميع المعاجم والموسوعات والتراث الأدبي، وإنّما هنالك: الكحل: ما وضع في العين بمستشفي به، وهو اسم مادة ولا تجمع، وقد اعتاد العرب القول: "ناعم كالكحل" لوصف شدة نعومة المواد الصلبة، وهو قول أقرب إلى العامية منه إلى الفصحى.
إلا أنّ هذا لا ينطبق بشكل عام المواد السائلة بالتأكيد، وإنّما هنالك دلائل تشير إلى أنّ كلمة الكحول هي تحريف مشوه لكلمة الغول المشتقة من "الاغتيال" والتي تعني: القضاء على الشيء خلسة، وتلك هي الخاصة التي وصف بها الخمر، كما وردت في بعض أشعار العرب حتى قبل الإسلام، وقال أبو عبيدة: الغول أن تغتال عقولهم، وأنشد:
ومازالت الخمر تغتالنا **** وتذهب بالأول الأول
من ناحية أخرى هنالك قرائن تشير إلى أنّ الرازي هو مكتشف حمض الكبريت الذي ركبه من مركبات الحديد المائية ودعاه "الزاج الأخضر"، وقد اعتادوا تقطير الغول بإجراء تفاعل بينه وبين حمض الكبريت، إذا علمنا أن مادة أثير تنتج من تعامل الغول بحمض الكبريت لاستخلاص قدر من الماء عام النحو التالي:
2C2H5 OH2SO4-H2O+C2O- C2H5+H2SO4
إذن لأدركنا أنّه من المحتمل جدًّا أنّ المسلمين الأوائل كانوا أول من وضع أسس تركيب هذه المادة الرئيسية في التخدير.
في مجال الإنعاش نرى المصادر الغربية ترد فضل استعمال المنفاخ (وهو الشكل البدائي لجهاز أمبو Ambo المستعمل حاليًّا في الإنعاش النفسي) إلى "جمعية إنعاش الأشخاص الغرقي" في أمستردام 1767 أولاً، ومن ثَمّ استُعمل في "الجمعية الإنسانية الملكية" في إنجلترا عام 1771، والبعض يذهب إلى أبعد من ذلك قليلاً ليرد الفضل في إدخال استعمال المنفاخ في الإنعاش التنفسي إلى باراسلسوس (Paracelsus 1493-1341)، إلا أنّ هنالك قرائن تشير إلى أنّ المسلمين في القرن الثالث عرفوا الإنعاش التنفسي باستعمال المنفاخ كوسيلة لإدخال الهواء إلى الرئتين، والواقعة المختصرة التالية مأخوذة من كتاب "ابن أبي أصيبعة" والنسخة الإنكليزية منه بعنوان (Classes of Physicians)، والعربية بعنوان "طبقات الأطباء" الذي كتب في القرن الثالث عشر، وهذا المؤلف طبيب مدرسي وأخصائي في أمراض العيون، عاش بصورة رئيسية في القاهرة ومات عام 1270 ميلادية.
يروي ابن أبي أصيبعة: "جاء في سيرة صالح بن بهلة أنّ الرشيد كان لا يأكل إلا بحضور جبرائيل بن بختيوشع، وقد قدمت يومًا الموائد بين يديه وجبرائيل غائب فبحث عنه فلم يعثر له على أثر، مما أثار غضب الرشيد، وبينما كان الأمر كذلك حضر وقال للرشيد معتذرًا بأنه كان يعالج ابن عمه إبراهيم وبه رمق ينقضي وقت صلاة العتمة، وهنا تدخل جعفر بن يحيى وقال: يا أمير المؤمنين إن صالح بن بهلة عالم بطريقة أهل الهند في الطب ويحسن إحضاره، فأمر الرشيد بإحضار صالح وتوجيهه والمسير به إليه .. ففعل ذلك جعفر.
وقد التمس صالح بن بهلة أن يقابل الرشيد بالذات ليخبره عن حال ابن عمه إبراهيم، فقال صالح للرشيد: أنا أشهدك يا أمير المؤمنين، وأشهد على نفسي من حضرك أنّ إبراهيم بن صالح إن تُوفِّي في هذه الليلة فإنّ كل دابة لي حبيس في سبيل الله، وكل مال لي صدقة على المساكين، ولم أقل ما قلت إلا بعلم.
ولما كان وقت صلاة العتمة جاء نعي إبراهيم ابن عم الرشيد، فأخذ يكيل اللوم لصالح بن بهلة، فلم يناطقه إلى أن سطعت روائح المجامر، فصاح عند ذلك صالح: الله الله يا أمير المؤمنين أن تدفن ابن عمك حيًّا، فو الله ما مات فأطلق لي الدخول عليه وحدي ثانية فأذن له بذلك، وأتى صالح بكندس ومنفخة من الخزانة ونفخ في أنف إبراهيم مقدار ثلث ساعة، واضطرب بعدها بدنه، وعطس وجلس أمام الرشيد، وعاش إبراهيم بعد ذلك دهرًا، تم تزوج العباسة بنت المهدي ووليَ مصر وفلسطين".
قصة الاسلام