في رحاب الإمام علي عليه السلام
قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ
صدق الله العظيم
الابن والحفيد
وورث فرع المجد من ال هاشم وجاء كريما من كرام اماثل
جلس الفتى مبهور الانفاس ، مشدود المشاعر ، وسط القوم الذين أحاطوا بوالده، وهو يحتضر
كان احتضار ابيه يشغله ويحزنه .
لكنه مع ذلك ، وربما فوق ذلك ، كان يشغله ويستغرق وعيه وفطنته ، ولعه الشديد بأن يرى : كيف يلتقي الاثنان وجها لوجه البطولة والموت ..!!
ألا إنها لفرصة فريدة للفتى المشغوف بالمعرفة، فإن ممثل البطولة في زمانه يتهيأ الان للرحيل ويقترب الموت منه في حفاوة صديق !
فلينتظر الفتى _ ما شاء _ كيف يواجه الأبطال الموت .
وتململ الشيخ المحتضر في فراشه ، و أشار الى الذين حوله لينهضوا قليلا ، حتى إذا أقاموا ظهره ورفعوا رأسه ، عانقتهم من عينيه نظرات حانيه ، امتدت واتسعت حتى وجدوا بردها في صدورهم !!
ثم راح يوجه إليهم كلمات ، أراد أن تكون آخر عهده بهم ، وبالدنيا!!
يا معشر قريش ...
أوصيكم بتعظيم هذا البيت _ الكعبة_ فإن فيه مرضاة الرب ، وقوام العيش ...
صلوا أرحامكم ، ولا تقطعوا ، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل ..
أتركوا البغى ، فقد أهلك القرون من قبلكم ....
يا معشر قريش ...
أجيبوا الداعي ، وأعطوا السائل ، فإن فيهما شرف الحياة وشرف الممات ...
وعليكم بصدق الحديث ، و أداء الامانة ..
ألا و أوصيكم بمحمد خيرا ، فإنه الأمين في قريش ، و الصادق في العرب ، وهو الجامع في كل ما أوصيكم به ...
و لقد جاءنا بأمر قبله الجنان، و أنكره اللسان ، مخافة الشنآن ...
و أيم الله لكأني أنظر الى صعاليك العرب ، و أهل الاطراف ، والمستضعفين من الناس ، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، و عظموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت ...
ولكأني به وقد محضته العرب ودادها ، وأعطته قيادها ...
والله ، لا يسلك أحد سبيله إلا رشد ، ولا يهتدي بهديه إلا سعد.
( ولو كان في العمر بقية ، لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي )
ثم وضع عينيه على أهله الأقربين من بني هاشم ، واختصهم بوصية أخرى
و أنتم يا معشر بني هاشم
( أجيبوا محمد وصدقوه، تفلحوا وترشدوا)
وأومأ إليهم، ليعيدوه الى ضجعته الأولى ، واستوى تحت غطائه ...
وعبرت لحظات ، وتغشته بعدها سكينة الموت !!
لقد أدى الراحل المسجى ، آخر الأمانات لديه...أمانة كان يحاذر أن تعجزه رهبة الموت عن أدائها!!
ومال رأسه المثقل بالخوف ، على صدره المثقل بالإشفاق..
ولكن ...الخوف ممن ؟
و الإشفاق على من..؟
الخوف من قريش .. والاشفاق على ابن اخيه الذي حشدت قريش له كل كيدها بأسها لأنه يهتف فيهم:
_ أن " لا إله إلا الله"
أعرفتم الآن عمن نتحدث..؟
أجل - إنه هو.. أبو طالب ، شيخ قريش، وسيد جيله...
و أما الفتى الذي كان يجلس مبهور الأنفاس ، مشدود المشاعر، فهو أبنه وفتاه :
علي بن أبي طالب !!
أنظروا ..
هاهو ذا ، يقبل جبيت أبيه ، ثم يسجيه ، ثم ينهض في ثبات ليدبر امره ...
إن غبطة ظاهرة تزاحم في نفسه كل مشاعر الحزن والفجيعة إذ رأى أبيه يموت _ حين يموت _ لا صامتا ولا مخذولا .... بل خطيبا ، يلخص في كلمات سواطع كل فضائل حياته التي عاشها فوق الارض وبين الناس ويواصل في إالحاح نبيل وقفته الى جانب تلك الفضائل ، والى جانب الممثل الجديد والمجيد لها .... الداعي الى الله بإذنه ...
" محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام "
أجل ... فبقدر ما أحزن الابن فقد والده، كانت غبطته إذ تلقى في لحظة الختام هذه أصدق عظات الحياة أروعها:
عظموا الكعبة ...
صلوا الرحم ....
اتركوا البغي ...
أجيبوا الداعي ...
كونوا صادقين ...
عيشوا أمناء ....
واولا واخيرا :
انصروا محمدا
فإنه الهادي الى سواء السبيل
من صلب هذا الوالد جاء
" علي "
يتبع ...
من كتاب : خلفاء الرسول
الكاتب : خالد محمد خالد