TODAY - 01 September, 2010
الأبناء.. وما عودهم عليه الآباء
قدرة الرجل على التصرف بحكمة خلال الأزمات تعتمد على قوة علاقته بأبيه
اختلف البعض في تصوير الجو العام الذي في سياقه قال الشاعر في البيت المشهور:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وقال بعضهم إن البيت أتى في سياق الفخر بحال أبنائنا الذين عودناهم كآباء على الشجاعة والكرم وغيرهما من الخصال الحميدة. وقال آخرون إنه أتى في سياق العرض لحقيقة بشرية لا مجال فيها للفخر وتبعاته. وبالمراجعة للأبيات التي سبقت هذا البيت يتضح ربما صحة قول من تبنى أنه يعرض حقيقة بشرية عن تبرير الأبناء لتصرفاتهم وفق ما رأوا آباءهم يفعلون، ما يتطلب من الآباء أن يتنبهوا فيها إلى تصرفاتهم وسلوكياتهم مع وأمام أبنائهم. والبيتان السابقان لهذا البيت هما:
مشى الطاووس باختيال فقلد مشيته بنوه قال علام تختالون قالوا سبقت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وهذا بالضبط ما حاول الباحثون من جامعة ولاية كاليفورنيا التنبيه عليه في دراستهم الجديدة التي عرضوها في 12 أغسطس (آب) الحالي ضمن فعاليات اللقاء السنوي رقم 118 لرابطة الطب النفسي الأميركية، الذي عقد في سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأميركية.
وقال الباحثون إن قدرة الرجل على تحمل ضغوطات الحياة والتصرف بحكمة خلال الأزمات تعتمد في جانب مهم منها على قوة علاقته بأبيه وما رأوه يقوم به من تصرفات خلال ظروف مشابهة. وأوضحوا بأن كيفية وقدرة ونوعية تعامل وتعاطي الرجل مع أحداث الحياة اليومية التي تتسبب بالتوتر والإجهاد النفسي والبدني تعتمد في جزء كبير منها على نوعية وطبيعة وقوة المشاعر التي نشأت في نفس الإنسان حول أبيه. وإنه كلما كانت علاقة الأب بابنه قوية ومتلاحمة ومتواصلة وصحية، أعطت وغرست في الأبناء كمية كبيرة من وسائل الحماية وحسن التصرف حال التعرض للظروف الحياتية المتسببة بالتوتر والإجهاد.
وقالت الدكتورة ميلاني ماليرس، الباحثة الرئيسية في الدراسة والأستاذة المساعدة في علم النفس بجامعة ولاية كاليفورنيا إن غالبية الدراسات حول العلاقات الأسرية ركزت على التأثيرات المستقبلية للعلاقة بالأم، ولكن دراستنا هذه تظهر أن العلاقة بالأب تلعب دورا مهما وفريدا في الصحة النفسية والعقلية للأبناء في مراحل تالية من العمر عندما يكونون بالغين.
وأجرى الباحثون في دراستهم لقاءات مع 912 من الرجال والنساء، استمرت أكثر من 8 أيام، وتضمنت مراجعة تقييم حالتهم النفسية وتفاعلاتهم اليومية خلال تلك الفترة مع الأحداث التي يمرون بها سواء كانت أسرية أو وظيفية، والتي اتسم بعضها بالخلافات وتطلب المناقشة وتقديم الحجج وغيرها من التفاعلات العاطفية والنفسية والعقلية. وتراوحت أعمار المشمولين بالدراسة ما بين 25 و75 سنة. وتم رصد وتقييم ووصف نوعية العلاقة التي عايشوها في فترة الطفولة مع أمهاتهم وآبائهم، ودرجة الاهتمام التي تلقوها من كل منهما، وخاصة في الأوقات التي احتاجوا فيها للدعم منهما، إضافة إلى معرفة ما إذا كانوا على قيد الحياة.
وبالعموم، لاحظ الباحثون أن غالبية المشاركين ذكروا أنهم تمتعوا بعلاقة أقوى وأفضل مع أمهاتهم، بالمقارنة مع آبائهم، وذكر هذا على وجه الخصوص الرجال أكثر من النساء. كما لاحظوا أن المشاركين الذين ذكروا أنهم تمتعوا بعلاقة قوية مع أمهاتهم كانوا أقل بنسبة 3% لعرضة المعاناة من الاضطرابات النفسية، بالمقارنة مع من كانت علاقتهم بأمهاتهم ضعيفة. وعلقت الباحثة عليها بالقول: «لا أعتقد أن هذه النتائج مثيرة للدهشة لأن الكثير من الدراسات السابقة لاحظت الأمر نفسه. ولكن تملكتني الدهشة، على حد قولها، حينما حللنا المعلومات المتعلقة بالعلاقة مع الآباء وتأثيراتها على كيفية التعامل مع الأحداث اليومية التي تتسم بالتوتر والإجهاد العاطفي والنفسي». وأضافت أن الرجال الذين ذكروا بأنهم تمتعوا بعلاقة جيدة مع آبائهم خلال فترة الطفولة كانوا يتمتعون بفرصة أكبر للتحلي بالهدوء خلال التفاعل مع الأحداث اليومية المتسببة بالتوتر النفسي، مقارنة بغيرهم من الرجال. وإننا لم نلحظ هذا التأثير على النساء لنوعية علاقتهم بآبائهم. وإن الرجال الذين كانوا يتفاعلون بسلبية مع توترات وضغوط أحداث الحياة اليومية كانوا أقل تمتعا بعلاقة حميمة ودافئة مع آبائهم. ما دفعها إلى القول: «الآباء لديهم طراز فريد في كيفية التفاعل والتعامل مع أطفالهم، وخاصة الذكور منهم، ونحن بحاجة إلى مزيد من الدراسات الطبية للكشف عن المزيد حول تأثيرات الآباء والأمهات على أطفالهم الذكور والإناث».
والحقيقة أن ملاحظة الباحثين هذه ورغبتهم في إجراء المزيد من البحث فيها تتطلب من الآباء بالذات التنبه إلى ضرورة التواصل الصحي في علاقتهم بأطفالهم، وخاصة الذكور منهم. وتصبح تأثيرات نوعية هذه العلاقة الأبوية مهمة ومحورية في نوعية ومستوى نجاح تفاعلات الرجل مع الأحداث الصعبة التي قد يعايشها الرجل في مستقبل حياته. وما يغرسه الرجل في نفسية ولده يظهر بشكل جلي في مستقبله وفي كيفية تعامله مع الناس والأحداث خلال مراحل تالية من العمر. وكآباء فإننا نحن الذين نزرع في أبنائنا أن يمشوا بين الناس مشية الطاووس أو يمشوا بين الناس متواضعين ناجحين متفاعلين بإيجابية مع أحداث الحياة اليومية.