اللغة العربية بين الدرس اللغوي والنقد الأدبي


إنصافًا للَّغةِ العربية الماتعةِ، ومُساهِمةً في إلقاء نُثَارِ الضَّوء على المشهدِ النَّقدي في حضوُرهِ المرتبط بكِيانِ اللغة - فكرًا ومضمونًا - آثرْتُ أن أطرحَ أهمية اللغةِ في الخطاب النَّقديِّ؛ لِما لِلُغتِنا العربيةِ من روائع الدُّررِ.

اللُّغةُ العربية التي هي لسانُ القرآنِ الكريم، ومعجزةُ الرَّسولِ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذيأُنزِلَ عليه القرآنُ: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195]، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2].

لقد اعتبر العربُ اللغةَ ظاهرةً كونيَّةً مقدَّسةً، وسمةَ انتماءٍ لعالَمِهم، بغرض تفسيرِ الظواهرِ الكونيَّة، وتأمُّلاتهم المعيشيةِ والحياتيةِ؛ لِمَا لها من جلالٍ، وإكبارٍ، وارتباطِها العضويِّ بالنص القرآنيِّ، صاحبِ القدسيَّةِ؛ لأنَّ اللغةَ مكونٌ جوهريٌّ من مكوناتِ الإنسان، ترتبط به ارتباطًا جَذْريًّا في الأصل والفرعِ، فالنظرة الفلسفيَّةُ الإسلاميَّةُ لتفسير مشكلاتِ الإنسان العربيِّ كانت تتبلور في الذِّهنيةِ العربية من خلالِ المنظورِ اللُّغويِّ، لمعرفة أسرارِها وكُنِهها وفكِّ شفراتِها، وربطِها بالنَّظرةِ الفلسفيَّةِ الكونيَّةِ، في الرُّؤيةِ والخِطاب العربيِّ، بدت المسألةُ اللُّغوية واضحةً في المُنجَزِ التراثيِّ العربيِّ الهائلِ؛ من كتاباتٍ تُعنَى باللُّغة وعلومِها المختلفة، لِمَا يميِّزُ العربيةَ من قدرةٍ لغويةٍ اتصاليةٍ بهذا التنوُّعِ والثَّراءِ والعبقريَّةِ السيكولوجية في تركيبِها وأدائِها.

تعريف اللغة:
عند العرب ملكةٌ يقتدِرُ بها الإنسانُ على النُّطقِ واللَّفظِ، تعبِّرُ بها كلُّ أمَّةٍ عن علومِها، ويبيِّنُ بها كلُّ شخصٍ عما يراود نفسَه, وعقَله.

مشتَّقة من الفعل "لغا" فيقال: لغا بالشيءِ أي: "لَهِجَ به"، لغوتُ أي: لفِظت أو أعربت عمَّا أردت بالكلام[1]، يقول ابن جني في كتابه "الخصائص"، باب القول على اللُّغة: "أما حدُّها فإنَّها أصواتٌ يعبِّرُ بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهم"[2]، وإذا كانت هذه هي معانيَ اللّغةِ منطوقةً, فاللُّغةُ المكتوبة هي الإعرابُ عن هذه المعاني وبنائِها برموز "علامات تدلُّ عليها"، (الحروف المتجمعة في كلماتٍ أو مفردَاتٍ ثم عباراتٍ وجمل)[3].

هذه التَّعريفاتُ التي قدَّمها العربُ تشيرُ إلى أكثرِ الدَّلالاتِ الحديثةِ أهميَّةً، وهي الذِّهنيةُ والاتصاليَّةُ والوظيفيَّةُ؛ نظرًا لارتباطِ اللُّغةِ بعلوم النَّفسِ والفلسفةِ وغيرِها من العلوم، واستقلَّ علمُ اللُّغةِ بقوانينَ علميَّةٍ خاصةٍ به، بظهور علماءَ لِسانيِّينَ، أمثالَ: "دي سوسير وبلومفيلد وسابير وتشومسكي"[4] وغيرِهم، ظهرت معهم اللِّسانياتُ الحديثة، خاصة الأدبيَّةَ منها، التي تبحث بالعَلاقاتِ القائمة بين اللِّسانيَّاتِ والأدبِ والنَّقدِ والسِّيميائيات؛ لتساهمَ في بناءِ صيغةٍ علميَّةٍ دقيقةٍ للنَّقدِ الأدبيِّ‏‏، باستخدام الأسلوبِ العِلميِّ، "التجريب والاستقراء".

وعرَّفت اللغوياتُ الحديثةُ اللغةَ: بوصفِها ظاهرةً إنسانية طبيعيَّة، فاللغةُ لا يُعاد إبداعُها في كلِّ جيلٍ، وإنما يعادُ التَّعبيرُ من خلالِها، فالطِّفلُ يتعلَّمُ لغةَ الأمِّ كجزءٍ من عملية الإدراكِ الطبيعيِّ، الغريزيِّ.

اللسانيات الحديثة:
فقد عُنِيَت اللِّسانياتُ الحديثةُ[5] "البنيوية"[6] بتطبيقِ المنهجِ الوصفيِّ في دراسة اللُّغة, على أنَّها وِحداتٌ صوتيةٌ تتجمَّعُ لتكوِّنَ وحداتٍ لغويةً، عبارة عن تراكيبَ وجُمل، وما عُرِفَ بنظرية البِنيوية التَّحويلية والتوليدية عند تشومسكي، والنَّظرية السُّلوكيَّة في اللُّغة عند بلومفيلد، على فَهم اللغة أنها نظامٌ، ظاهرة اجتماعية تُعنى بالتَّواصلِ والتَّفاهم المتبادَل، وتقسيمها إلى:
لسانيات نظرية لغوية: تبحث عن الصَّوتياتِ "التركيب - القواعد - المعاني - بِنية الدلالة"، وهي ‏تتعلَّقُ بقدراتٍ خاصةٍ بالإنسان، كالنُّطقِ والتذكُّرِ والإبصار والتفكير، وتتوقَّفُ على العواملِ الفسيولوجيَّة.

لسانيات تطبيقية: تبحث عن وظيفةِ اللُّغة وعَلاقاتِها العِلميَّةِ والتربويةِ تتعلَّقُ بما يمارسُه الإنسانُ من أعمالٍ، وما يحيطُه من بيئةٍ، وتتوقَّفُ على العواملِ البيئيَّةِ.

لسانيَّات اجتماعيةٌ: تبحثُ في العَلاقةِ بين اللُّغةِ والمجتمع، وباحتياجاتِ الإنسانِ إلى التواصلِ مع من حوله, وبنوعِ ومستوى المعرفةِ المتاحِ، والسِّياق الذي تُستخدَم فيه، وتتوقَّفُ على العواملِ الاجتماعيَّةِ.

لسانيات الأنثروبولوجية: تبحث الصِّلةَ التي تربط اللغةَ بالإنسانِ، تتعلَّقُ بنوع المنطقِ الذي يحكُمُ العلاقاتِ بين مكونات اللُّغةِ، من أصواتٍ أو علامات مرقومةٍ مكتوبة، وبالمعاني المطلوبِ توصيلُها, ونوع ومستوى الثَّقافةِ السَّائدة في المجتمعِ، وهي عواملُ ثقافيَّة فكريَّة.

إضافة لمفهوم التَّرابُطِ في المنظومةِ اللُّغوية، ووحدة المنطقِ النَّحويِّ الذي يحكُمُ هذه اللغة، باعتبارِها أصواتًا منطوقةً، تعبِّرُ عن الغرضِ المراد، ولكونِ اللُّغةِ هي الوظيفةَ الرَّمزيةَ العقليَّةَ التي يستطيعُ بها الإنسانُ شرحَ أفكارِه، فمِنْ غيرِ الممكنِ تصوُّرُ عمليَّةِ التفكيرِ، في غياب هذه الرُّموزِ المكونة من مفردَاتٍ، وأنَّ الكلماتِ التي تقوم بوظيفةِ وحداتِ الفكرِ البشريِّ، هي الوسيطُ الذي نشرحُ به أفكارَنا وآراءَنا، ونطرَحُ رُؤَانا المختلفةَ، وخطابنا المَعرفِيّ بيننا وبين الآخَرِ، نؤثِّرُ، أو نتأثَّرُ بحُكْمِ أنَّنا مخلوقاتٌ اجتماعيةٌ، فاللُّغةُ عاملٌ من عواملِ الانطلاقِ الثَّقافيِّ التي فتَحت الطَّريقَ نحو عمليَّاتِ الإدراكِ منذ نشأتِها، والتحمَتْ بالخطابِ الثقافيِّ وتجلِّياتِه المتنوعةِ.

تظلُّ الإشاراتُ، كإشاراتِ الصُّمِّ والبُكْمِ، تعبيرات الوجه، إشارات المرورِ وغيرها، مما تُعَدُّ علاماتٍ لغويةً، تستخدم الإشارة لغرضِ نقلِ المعلوماتِ، لكنَّها تستلزمُ وجودَ وسيطٍ لها، تختلفُ عن اللُّغةِ التي هي نظامٌ من العلاماتِ، يُعنَى بارتباطِ اللفظِ بالمعنَى أو ارتباطِ الدَّالِّ بالمدلولِ، منتميًا لصورةٍ ذهنيَّةٍ في الواقعِ، مثل كلمة: كتاب؛ أي: "الكتاب" كصورةٍ ذهنيَّةٍ.

وإن كان علمُ اللِّسانيات النَّفسيُّ يدرِّسُ العملياتِ العقليةَ للفهمِ والإدراك بأدواتٍ مستقاةٍ من اللِّسانياتِ، أوضح أنَّ استخدامَ اللُّغةِ يتأثَّر بعملياتٍ عقليةٍ غيرِ مباشرة، تطرح أسئلةً، يحاول الإجابةَ عنها، من بينِها: كيف يكتسبُ الإنسانُ اللغةَ، ويُنتِجُها، كيف تتأسَّس وتتطوَّرُ، ويتمُّ فهمُها باستخدامِ الدَّلائلِ؟

فلقد اهتمَّ علمُ اللغةِ الحديث بتفكيكِ الكلمةِ لاستنباطِ المعنى، وعلى دراسةِ اللغةِ في ذاتِها من أجلِ ذاتِها، مهتمًّا بالتَّحليلِ والتَّركيب اللغويِّ، والتعريفِ بمستوياتِ اللُّغةِ، وأنظمتِها الصوتيَّةِ والصرفيَّةِ والنَّحْويةِ والدَّلاليَّةِ.

وقد سبق فقهُ اللغةِ في التراث العربيِّ اللِّسانياتِ الحديثةَ من حيث اهتمامُه بالمقارنةِ بين اللُّغاتِ المختلفةِ، وهو يعني: العلمَ بالشيءِ والفهمَ له، "الفقه" بمعنى الفهمِ، فهم الكلمةِ، اصطلاحيًّا، وهو يُعنى بدراسةِ القضايا اللُّغويةِ، من حيث الأصواتُ والمفرَداتُ في خصائصِها الصوتيَّةِ والدلاليةِ، فالكلمة في اللغةِ العربيَّةِ هي الوحدة اللُّغويةُ الصغرى القابلةُ للإعرابِ، من خلالها تتكوَّنُ الجُمل، وجميع الكلماتِ في العربية هي كلِّيَّاتٌ بذاتِها، لكلٍّ منها دلالاتٌ عديدةٌ، بحسَب السياقِ الذي توجد فيه، بعددٍ محدودٍ من الكلماتِ ينتِجُ ما لا حصرَ له من الجُملِ المفيدة، من خلال تقلُّباتِها وتشكيلاتِها المختلفةِ، بينما تكون الوحدة الأساسيةُ في الكلامِ منطوقًا أو مكتوبًا هي الجملةَ، بصفتِها قولاً مفيدًا.

فالعربيَّةُ تنطوي على مجموعةٍ من المفاهيمِ والمقولاتِ تمكِّنُنا من بنائِها، وَفْقًا لمنظومتِها اللُّغويةِ الفائقة، لتميِّزَها بانفتاحِها، وروحها متعدِّدة التَّأويلِ، منطقيَّة المعني، وتألُّفها على نحوٍ متباينٍ لوضعِ ما يناسِبُ المعنى المرادَ نقلُه للمخاطَبِ، من خلال الاستبدالِ والمغايرةِ والتَّشابُهِ والتَّرابطِ، "ما قبلَ وما بعدَ اللَّفظِ، وما يشتركُ فيه" وفقًا لأغراضِ المتحدِّث، وحيث بلاغة الكلام لا ترجعُ إلى اللَّفظِ، إنما إلى ما بين الألفاظِ من روابطَ.

لقد كان السَّبقُ الأَولِيُّ في ذلك إلى لغةِ القرآن الكريم، لتميُّزِها ببِنيةٍ لغويةٍ، غاية في العذوبةِ والجمال، على نحوٍ يفوقُ التصوُّرَ، بمفرداتٍ يصعُب، بل يستحيل تقليدُها، أو حتى الاقتراب من ذلك؛ لِمَا تحملُه من دليلٍ ودلالةٍ كونيَّةٍ وواقعيَّةٍ في ذات الوقتِ، وما تحملُه من قِيمةٍ ذهنيَّةٍ اتصاليَّةٍ ونفسية، تفوق قدرةَ الإنسانِ وخبرتَه، بلغةٍ فصيحة، "كلمة - عربي التي تعني الجليَّ الواضحَ"، يقول - تعالى - في محكَمِ آياته:
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 7].

لقد كان من أبرزِ علماء العربيَّة الذين وضعوا مصنَّفاتٍ في علوم اللغة: الخليل بن أحمد الفَرَاهيدي - سِيبَوَيْهِ - الأصمعي - ابنُ جِني - السيوطي - ابن فارس - وغيرهم، قاموا بالتَّعاملِ مع لهجاتِ القبائلِ الحضرميَّةِ والنَّجديةِ؛ للبحث عن جذورِ الكلمةِ ومواضعِها، وعلى ما أراد لها من وظيفةٍ بِنائيَّةٍ في الجملةِ، مع تقديم ملاحظاتٍ نوعيَّةٍ، ترقى لمصافِّ البحثِ العلميِّ المتخصِّص، وإنما ذُكِرت على أنها مفاهيمُ واردةٌ في كتب علماءِ العربيَّةِ من نحاةٍ وبلاغيِّين، دون أن تأخذَ حقَّها في الضبطِ العِلميِّ، رغم اتِّصالِها النقديِّ بالنُّصوصِ الفنِّية والأدبيَّةِ، وأهميَّتِها العلميَّة[7]، حيث تَتْبَعُ أهميَّةَ المنجَزِ الثقافيِّ العربيِّ.

اللِّسانيات العربية:
لقد عرف العربُ اللِّسانيات عبر مؤلَّفاتِهم في:
اللغة المكتوبة: النُّحاة أمثالُ الخليل بن أحمد وسِيبَوَيْهِ وابن سينا‏، وما قالَه "ابن جني": إنَّ العربيَّ قد أبدع كلماتِه: "سوقًا للحروفِ على سَمْتِ المعنى المقصودِ والغرضِ المرادِ"، بمعنى أنه: "كان يضعُ الحرفَ الأوَّلَ بما يضاهي بدايةَ الحديث، والحرفَ الوسَط بما يضاهي وسَطه، والأخيرَ بما يضاهي نهايتَه"، فكان العربيُّ بذلك يصوِّرُ الأحداثَ والأشياء والحالاتِ بأصواتِ حروفِه[8].

وقد انتبهَ نجيب محفوظ في بداية كتابتِه السَّردية إلى أنَّ اللغةَ مقوِّمٌ فنيٌّ أساسيٌّ من مقوِّماتِ الخِطاب الرِّوائي، وأنَّ الرِّواية إبداعٌ تخييليٌّ يتوسل باللغةِ؛ ولأنَّ خبرةَ محفوظ بالنَّثرية العربيةِ التي تمكِّنُه من أنساقِها اللِّسانيةِ كانت عميقةً، فقد أتاحت له هذه الخبرةُ القدرةَ على الاشتغالِ باللُّغةِ بمستوياتِها المتعدِّدةِ، فكانت هذه الخاصيَّةُ الأسلوبيةُ عند محفوظ السِّمةَ الفنيةَ التي لازمت التطوُّرَ السرديَّ عنده[9].

اللغة الشَّفوية "السَّمعية": علماء التجويدِ، أمثال: الشاطبيِّ، وعلماء الموسيقا، أمثال: الموصلي.

وقد عرف السَّرد الحديث هذه الطَّريقةَ في الأداءِ اللُّغويِّ عبر كتاباتٍ سرديَّةٍ، مثَّلت السَّردَ الشفويَّ التراثيَّ في أعمالِها الإبداعيَّةِ، نذكرُ منها الأعمالَ القصصيَّةَ ليحيى الطاهر عبدالله، وزكريا تامر، وطاهر لاشين، يقول الدكتور محمد عبيد (في قصص يحيى الطاهر) (حكايات للأمير) تُبدِعُ طريقتُها الخاصة عبر الاتِّكاءِ العميقِ على تِقنيَّاتِ السردِ الشَّفويِّ وأساليبِ الحكايةِ الشَّعبيةِ الشَّفويةِ، وهي تعيدُنا إلى نمطٍ بارزٍ من أنماط السَّردِ العربيِّ، يتمثَّلُ في أنه نشأ شفويًّا واكتسب معظمَ خصائصِه المبكِّرةِ)[10].

تراكيب اللُّغة العربية: أمثال: الخليل بن أحمد وسِيبَوَيْهِ والكسائي، ولقد أشار "شكري عياد" إلى أنَّ الكاتبَ لن يكون أصيلاً - أي: ذاتيًّا في تعبيرِه - إذا لَم يعرفْ مداخلَ هذه اللغةِ ومخارجَها، ولطائفَها، ودقائقَها، ولن يستطيعَ تحقيقَ ذلك إلا إذا كان له حظٌّ من كِتاب العربيَّةِ الأوَّلِ "القرآن الكريم"، وحظٌّ من نصوصِ جهابذتِها الأوائلِ حفظًا ومعاشرةً، فما كان لغةً أشتاتًا يوحِّدُه القرآنُ الكريم في معجمٍ تركيبيٍّ مبدعٍ؛ لأنَّ اللغةَ مفرداتٌ أوجدها القرآنُ تراكيبَ خالدةً، وأنَّ لهذه اللغةِ معاجمَ كثيرةً تجمعُ مفرداتِها وأبنيتَها، ولكن ليس لها معجمٌ تركيبيٌّ غير القرآنِ، وإنما سمَّيْناه "معجمًا تركيبيًّا"؛ لأنَّه أصلُ فنونِ البلاغةِ كلِّها[11].

دلالات اللغة ومعانيها: معاني اللغةِ وعلوم فقهِ اللُّغةِ العربيةِ ودلالاتها في إطار البلاغةِ، أمثال: الجُرجاني والقزويني، فيُعَدُّ شرحُ وتفسير النُّصوصِ الأدبيَّةِ وفهمُ مفرداتِها، يندرج تحت مصطلحِ فقهِ اللُّغةِ باعتبارِها - اللغة - وسيلةً تصبو إلى غايةٍ، بما تشتملُ عليه إجمالاً من آدابٍ مختلفةٍ، وهو يدرس الأدبَ من خلال هذه المقارنةِ، وبالعودةِ لكتاب "فقه اللغة وأسرار العربية" للثعالبي، لفهمِ المفرداتِ والفروقِ الدَّقيقةِ في دَلالاتِها وإيحاءاتِها في كتابه الممتعِ "فقه اللغة وأسرار العربية"، يقولُ في "تقسيم خروج الماء وسيلانه من أماكنه" من السحابِ سحَّ - من الينبوع نبع - من الحجرِ انبجس - من النهر فاض - من السقف وكف - من القِربة سرب - من الإناء رشح - من العين انسكب - من المذاكير نطف - من الجرح ثع[12].

إنَّ تعدُّد التأويلِ بتعدُّدِ المعاني يقودنا إلى سبلِ تأويلٍ دلاليةٍ متنوِّعةٍ، تمتاز بها أغلبُ النُّصوصِ العربية، قديمًا وحديثًا.

ارتباط اللُّغة بالإنسان والمجتمع: تظهر عند الجاحظِ في مؤلَّفاتِه، خاصة "البيان والتبيين" و"الحيوان"، وبعض الشُّعراءِ أمثال: أبي العلاء المعرِّي في "رسالة الغفران"، وقد تمثَّل هذا البعدُ في رواية "عرس الزين" للرِّوائيِّ السُّوداني الطيِّب صالح[13]، الذي استطاع أن يطرَح عالَم القريةِ في جزئيَّاتِه وتفاصيلها الثريَّة، يتداخل فيها "الواقعيُّ" واقعُ القريةِ السُّودانية مع "التراثيِّ" من خلال العديدِ من العناصر الدَّالَّةِ في شخصيَّةِ "الزين" بطل الرواية، يتمثَّل في اتصالِها بالواقعِ، وبالحياة الشَّعبيةِ في أعمقِ تجلِّياتِها، وصورِها التي تصِلُها بالتاريخِ وبالإنسانِ العربيِّ في انتمائِه الثقافيِّ والحضاريِّ.

أصل اللغة: ابن جِني في كتاب "الخصائص"، وابن فارس في "المُجمَل" و"المقاييس"، وغيرهم من علماءِ العربيَّة، الذين أثرَوُا الذِّهنيةَ العربيَّةَ بالمتنوِّعِ من الدِّراساتِ اللُّغويةِ.

هذه أمثلةٌ بسيطة لاهتمامِ العلماءِ العرَبِ بمباحثِ اللُّغةِ وعلومِها، وارتباط النص الفني بها.

حياة النص والنقد:
اللغةُ: نظامٌ، لها منطقُها الخاصُّ بها، (المنظومة الداخلية للغة)، ويُفهَمُ من ارتباط منطقِ اللُّغة - بصفتِها تعطي المعنى بين اللَّفظِ والعقل - ارتباطُها الوثيقُ بواقعِها، بحكمِ اقترانِه بالخطابِ الاجتماعيِّ، بروابطَ ضروريَّةٍ، تجعلُ منها نسَقًا مفتوحًا على مناطقَ عديدةٍ من احتمالاتِ الفهمِ والتَّأويلِ، فاللغةُ إدراكٌ عقليٌّ، منطقيٌّ، بين التَّحليلِ والتَّركيبِ، والثابت والمتغيِّر، وهما جوهرُ المنطقِ اللُّغوي "النحو العربي"، ويأتي القرآنُ الكريم مثبتًا لهذه القيمةِ؛ يقول - سبحانه وتعالى - في محكَمِ آياتِهِ: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ [الأحزاب: 4]، قال: "لرجلٍ"، ولم يقُلْ: "لبَشَرٍ"!

فجميع البشرِ لا يملِكون إلا قلبًا واحدًا، سواءٌ أكانوا رجالاً أم نساءً، لكنَّ المرأةَ قد تحملُ قلبينِ بجوفِها، حين حملها، يصبح بجوفها قلبُها، وقلبُ الطِّفل الذي يدق في رحِمِها، هذا هو تفسيرُ ظاهر الكلام، أمَّا جانبُ التَّفسيراتِ التشريعيةِ التي آلَتْ إليها هذه الآيةُ الكريمةُ من أهل التأويلِ والشَّريعة، فكثيرةٌ، وعلى الوجهِ الصَّحيحِ منها، وإنما المراد أنَّ العربيةَ تحملُ قيمةً فكريَّةً وفنيةً بديعةً في أدائِها اللُّغويِّ، ومنطقيَّةً في الأداءِ الفكريِّ المرتبطِ بالواقعِ، مع قدرتِها الفائقةِ على التخيُّلِ وتوليد الدَّلالةِ، باعتبارِها لغةً خلاَّقةً، تتكوَّنُ من عناصرَّ محدَّدة، تنتجُ تركيباتٍ وجُملاً لا نهايةَ لها، من احتمالاتِ التأويل؛ نظرًا لطبيعتِها الخاصَّةِ المشترَكة بين اللَّفظ والمعنى؛ ولأنَّها تنبع من مستوياتِ التَّحليلِ اللُّغويِّ، البنائي، "تحليل الأصوات، التركيب، الألفاظ".

فاللغة مجموعةٌ من العَلاقاتِ اللُّغويةِ، تنبع أهميَّتُها من إنتاجِ المعنى، وإعادةِ إنتاجِه، مركَّبةٌ من دالٍّ ومدلولٍ، تعنَى بالكلِّيات، وقد ارتبط ذلك بالعمليَّةِ النَّقديةِ اللُّغويةِ بصفة النَّقد يعمل بالمفاهيم الكليَّةِ، فكلٌّ من اللُّغةِ والنَّقدِ تحيل كلٌّ منهما للآخَرِ، وتُعَدُّ لازمةً لها، فمعرفةُ الفَرق بين الصِّفةِ والحال تبدو واضحةً في "جاء الرَّجلُ السَّعيد، جاء الرَّجلُ سعيدًا".

يقول أبو العتاهيةِ[14]:
قَاتِلْ هَوَاكَ إِذَا دَعَاكَ لِفِتْنَةٍ
قَاتِلْ هَوَاكَ هُنَاكَ كُلَّ قِتَالِ

وَإِذَا عَقَلْتَ هَوَاكَ عَنْ هَفَوَاتِهِ
أَطْلَقْتَهُ مِنْ شَيْنِ كُلِّ عِقَالِ

هذه الصُّورةُ المنطقيَّةُ في الأداءِ اللُّغويِّ تحملُ سِمةَ الشِّعريةِ المجسِّدةَ لموقفِها الواعي بما تحملُه من عناصرَ تخيليَّةٍ، بكونِها النَّفسيِّ، ودلالتِها النَّوعيةِ بضرورةِ محاربةِ الهوى وعدم اتِّباعِه.

إنَّ التَّقنيةَ اللُّغوية الفنية، "طريقةُ أداء اللُّغة داخل بِنْية النَّص"، وتعدّد مستويات السَّرد فيه، مع حرفيَّةِ الكاتبِ فى التعاملِ مع هذه المستوياتِ اللُّغوية، بأداءٍ شيقٍ، نابعٍ من جمالِ اللُّغةِ فى التَّوصيفِ والتجسيدِ، بالعنايةِ بمستوى التَّراكيب اللُّغويةِ وتنويعاتِها وتشكيلاتِها المميزة، حيث يتركَّزُ حولها الخطابُ النَّصيُّ في جملته التعبيريَّةِ التي تنتج مفهومها في الأداءِ، مرتبطًا بالبِنيةِ الاجتماعية؛ أي: إنَّه ابنُ بيئتِه الواقعةِ موضوعيًّا فى النصِّ، كما يطمح الكاتبُ، غير أنه أحيانًا ما يُولَعُ بلغةِ الواقع المُغري، بمفرداتٍ لا تَرقى لحقيقةِ النَّص، باستخدام لغةٍ غيرِ منصفةٍ لحقيقةِ الخطابِ وأهميَّته؛ ذلك أنَّ نقْلَ نصِّ الواقعِ دون تبديلٍ فنيٍّ، ومغايرةٍ مبدعةٍ لمزجِ عدَّةِ عناصرَ معًا، يصبِحُ صُوَرًا فونغرافية أو كربونية، دون تعليقٍ وجدانيٍّ، شعوريٍّ، لن يضيفَ بالضرورةِ جديدًا للنصِّ الفنيِّ بأنواعِه المتعدِّدة.

فاللُّغةُ جزءٌ رئيس من ثقافةِ الواقع، وهي موسوعةٌ لهذه الثَّقافة, وأكثرُ رموزِها أهميَّةً، باعتبارِها مفهومًا متكاملاً، تتجمع عندها خبرةُ النصوص، وهذا يؤدِّي بنا لنتيجةٍ أخرى هي واقعيةُ اللغة, المقصود بها الواقعيةُ النَّفسيةُ العاطفية، التي تتميَّزُ بالحيوية والتحوُّلاتِ السَّردية.

إننا نخاطب مجموعًا أكبرَ بلغةٍ تتميَّزُ بالشُّموليةِ والتَّركيز موحيةٍ ودالَّةٍ، قريبةٍ من الواقعِ، لكنَّها ليست الواقعَ، وطرح المفهومِ من اللغةِ هو حقيقةُ النَّص، فاللغةُ المميزة هي التي تخاطِبُ وجدانَ الإنسانِ وعقْلَه من خلال النصِّ الأدبيِّ المتفرِّد، القادرِ على ملامسة دواخلِ التلقِّي بأداءٍ مكثَّف، تطمح فيه اللغةُ إلى الارتقاءِ حيث أفقُ سموِّها، وعالمها الفريد، تحمل تركيبات ترتكزُ على التخيُّلِ والتَّوليد، والتعاطي مع طاقتِها البِنائية وتفجيرها لصالح النَّص؛ لتقيمَ نوعًا من التوازنِ بين الواقعِ والمتخيَّل، تمنحنُا شعورًا قويًّا بوجودِها داخل البِنية، بقدرة النصِّ الفنيِّ على نقلِ الوقائعِ المثيرة، محدثًا فارقًا فى الأداء، يقبِضُ على زمامِ اللَّحظاتِ الثريَّة فى الكتابة، فالنِّظامُ اللُّغويُّ في العمل الفنيِّ نظامٌ دلاليٌّ يضيءُ النَّصَّ الأدبيَّ، ويُعَدُّ تفهُّمًا مستمرًّا مع عوالِمِه، المعنويَّةِ الرَّمزيةِ والجماليَّةِ الإبداعيَّةِ؛ لكون اللُّغةِ بدورها أساسَ الجمالِ في الكتابةِ الأدبية، وتُعَدُّ بهذا المفهومِ كائنًا حيًّا ينمو ويتنامي داخل النص، يسري بين الأجزاءِ في رباطٍ يضمُّها في وحدةٍ واحدة، يقدِّمُ الشَّكلَ النهائيَّ للعملِ الفنيِّ في أبهى صورةٍ له، وإطاره الذي يراه القارئُ، وإذ كانت اللغةُ في مفهوم البلاغة القديمةِ، هو إيصال الخبرِ وتوضيح المعنى، من حيث اختيارُ المفرَدات وصياغةِ التَّراكيبِ وسلامةِ الكلمةِ، فهي تُعَدُّ اللَّبِنَةَ الأساسيَّةَ في النص، ومِحورَه الذي يقدِّمُ شكلَ تجلِّيه في الكتابةِ؛ لمخاطبةِ الوجدانِ والتَّفكيرِ عن طريق التخيُّلِ وأثرِه في دلالةِ الألفاظ، وما يشير إليه الأسلوبُ اللغويُّ ونظامُه البِنائيُّ، وما يتَّصلُ بعلمِ البيانِ[15] من معطيَاتٍ، ومطابقة الكلامِ لمقتضى الحالِ، ما يتصل بعلمِ المعاني[16]، وما قد تعرِضُه اللُّغةُ من مرونةٍ في التَّعبيرِ ودقَّةٍ في المعنى، وبما تقدِّمُه من أنساقٍ لغويةٍ، تُبرهِنُ على المقدرةِ في توظيفِ الأنساقِ البِنائية، لصالح النَّصِّ في موقفِه الدلاليِّ، وهو أهمُّ ما يسعى ويطمحُ إليه الخِطابُ، بما أنَّ اللغةَ هي حاضنةُ النَّص في كلِّ الأحوالِ، كي يتَّسمَ التعاملُ النَّقديُ مع هذا الأداءِ بالموضوعيَّةِ والنَّزاهةِ التَّقويمية، معتمِدًا على تداخلِ مجموعةٍ هائلةٍ من الأدواتِ النَّقدية، يرتكز فيها على تحديدِ القِيمة الحقيقيَّةِ للنصِّ، وطموحه الفني ومكوِّناته البِنائية، بقراءةٍ واعِيةٍ لتحليلِ الخِطاب، ورفد الدلالةِ التي تستكشف هذا العالَمَ النَّصيَّ الرَّحْبَ، معتمدةً على قراءةٍ منهجيَّةٍ دقيقةٍ، تظهر فيها آفاق اللِّسانيَّاتِ وشفرة المعنى[17]، مرتبطة برُؤيا الكاتبِ للعالَمِ، تشتركُ في طرح قضايا الواقعِ، وتعملُ عليها، حيث تمثِّلُ المرجعيَّاتُ اللُّغويةُ مرتكزًا أساسيًّا للخطابِ الثقافيِّ المنتج لأثرِه، يدعم بدوره مفهومَ الرُّؤيا داخل البِنيةِ اللُّغويةِ، ويستطيع الخطاب بهذا الأداءِ سبرَ أغوارِ هذا التماثلِ والتوازي مع الواقعِ، من خلال هذه اللُّغةِ المنتقاةِ.

"إنَّ النظرَ إلى اللغةِ بوصفِها أداةَ تعبيرٍ, أو وسيلةَ تصويرٍ, تبسيطٌ سطحيٌّ ساذَجٌ, يتجاوز الإجابةَ عن ماهيَّتِها ووظائفيَّتِها المعقَّدة والمتشابكةِ، فاللُّغة صورةُ الفكرِ وأداتُه في آنٍ معًا, وهي في الرِّواية لا تصوِّرُ وحسب, بل هي نفسُها موضوعُ تصويرٍ كلميٍّ أيضًا، أي أنها تنتقل من كونِها أداةً إلى كونها موضوعًا، وهنا تُبْرِزُ أولى وظائفِها في تصويرِ التَّمايزات والنَّبراتِ اللَّهجية والمِهنية والإثنية, بعيدًا عن نظامِ اللُّغة المعياريَّةِ الموحد[18].

فقِراءةُ النَّص نقديًّا لا تتوقَّفُ على البحثِ اللُّغويِّ الصِّرف، فهو يعمل على مستوياتٍ عديدةٍ، من بينها "اللفظ - التركيب - الدلالة - الأسلوب - النظم - الأداء - الإنشاء" وغيرها، بينما يكونُ النَّظرُ إلى مسألةِ تشكيل البِنية اللُّغوية هو المرتكزَ الأساسيَّ، كالتعاملِ مع موقف اللُّغةِ ممَّا هو إنسانيٌّ وكونيٌّ، "علم اللغة الكوني"[19] ليظلَّ المنهجُ النقديُّ في موقفِه النَّاقدِ للنَّص، يبحث عن مستوياتٍ عديدةٍ للخطابِ؛ لكونِه ضمن منظومةٍ لُغويةٍ بِنائية، يهتمُّ فيها بمستوياتِ وطبقاتِ اللُّغة اللَّفظية والمعنوية والتَّأويلية، وما يُنتجه من معطيَاتٍ وآليَّات، بل لإنتاجِ منظومةٍ فكرية أيدلوجيَّةٍ تجسِّدُ مشهديَّةَ الخِطاب؛ إذ ينطوي الأدبُ والنَّقد دومًا على إعادةِ تشكيلِ الخِطاب، ضمن المنظومةِ النَّقدية التي لا بدَّ لها من التعرُّف بداهةً -حين تعرضها للنَّقد - على المنهجِ الذي بُنِيَ عليه النَّص، والرُّؤية التي يعبِّرُ عنها، بالكشفِ عن علاقاتِه الدَّاخلية، واتِّساقِه مع علاقاتِ الواقعِ ومنطقِه، مستندًا إلى منهجٍ ورؤيةٍ نقديَّةٍ واضحةٍ، تتجاوز الذَّاتية إلى موضوعيَّةٍ حقيقيَّة، مرتبطة بالأداءِ اللُّغويِّ.

وليس المقصودُ بالنقدِ اللُّغويِّ فقط ما تعارف عليه من لفظٍ ومعنًى؛ كما تبنَّاه النقدُ القديمُ[20]، فاللُّغةُ الأدبيَّة تتميَّز بارتباطها بأسلوبٍ تعبيريٍّ، وطاقةٍ أسلوبيَّةٍ مغايرةٍ، مختلفةٍ عن أسلوبِ التَّعبير اليوميّ؛ لأنَّ اللغةَ اليومية تلقائية، عادية تشكِّلُ معظمَ نشاطِ الإنسانِ، أمَّا الكتابةُ الأدبيَّةُ فهي لغةٌ متفرِّدة؛ لكونِها تحمل دومًا القصديةَ والتعمُّدَ في التعبير، باعتبارِه تعبيرًا عن نشاطٍ إنسانيٍّ خاصٍّ، تصدر عن اختيارٍ واعٍ لطريقةِ أدائها، وقد استهدفت نظريةُ الأسلوبية[21] هذه الأساليبَ التَّعبيرية لدراساتِها النَّقديةِ، من خلال الطاقةِ الكامنة في اللغة الأدبيَّةِ، التي ميَّزتها عن غيرِها من أنماطِ وسياقات التَّعبيرِ الأخرى.

فالأدب علاقةٌ متناميةٌ بين النَّص والمجتمع؛ أي: صلةٌ أساسيَّةٌ تربِط بين الذَّات والواقع، تعمل الرُّؤيةُ النَّقدية على فهم موقفِ النَّصِّ من العالَم، بتلك اللُّغةِ الرَّاغبةِ على نحوٍ كبيرٍ أدهشنا كأحد طموحاتِ النَّص، عبر توجُّهِه المعرفيِّ وخِطابِها اللُّغويِّ، من خلال تشكيلاتٍ متنوِّعةٍ لهذه اللُّغة، تستطيع التغلُّبَ على الأبعادِ الزمكانية، والرُّؤى المتعدِّدة داخل البناءِ، ببهجةِ وصفاءِ الأداءِ والظِّلال الذي يحيط بعالَمِها الثريِّ، حين يجسِّدُ النَّصُّ لغةً عميقةً بديعةً، تكوَّنت عبر بِنيَةٍ فنِّيةٍ لغوية مجيدة، تحمل تجاربَ ثريَّةً كاملةَ البهاء.


[1]- (اللسان, المحيط, الوسيط,).
[2]- ابن جني في كتابه “الخصائص"، "باب القول على اللغة ".
[3] - (دائرة معارف القرن العشرين).
[4] - (ريديناند دي سوسير) 1857- 1913)م عالم لغويات سويسري مؤسس مدرسة البنيوية:
ليونارد بلومفيلد .عالم لغويات أمريكي 1887-1914م.
سابير ادوارد عالم لغويات أمريكي (1884-1939)م متخصص في (الأنثروبولوجيا) وعلم اللغة.
تشومسكي صاحب نظرية النحو التوليدي.

[5] - اللسانيات: دراسة علمية للغات البشرية من خلال الألسنة الخاصة بكل قومٍ، تشمل: الأصوات اللغوية، التراكيب النَّحْوية - الدلالات والمعاني اللغوية - علاقة اللغات البشرية بالعالَم الفيزيائي الذي يحيط بالإنسان.
[6] - البنيوية: منهج فكري وأداة للتحليل، تقوم على فكرة المجموع المنتظم، اهتمَّت بنواحي المعرفة الإنسانية، في علم اللغة والنقد الأدبي، خاصة مفهوم اللغة صوت ومعنى، وعلى النظرية اللغوية أن ترصدَ المبادئ والقواعد التي تُعنى بالرَّبط بين الأصوات والمعاني.
[7] - مثل كتاب سيبويه في النحو العربي، وما له من أهميَّة علمية، وكثير من المعاجم والمؤلفات في الألفاظ والمعاني العربية، وفقه اللغة، وعلم المعاني وغيرها من علوم العربية.
كتب النحو والتجويد والبلاغة وتفسير القرآن ودواوين الشعراء - الموسوعات المعرفية المختلفة وكتب التاريخ التي كتبها عظماء الكتاب العرب، أمثال ابن حزم الأندلسي، ابن فارس، والأصمعي، و الطبري وغيرهم، من علماء العربية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:
الفراهيدي: الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي (100- 173 / هـ مؤسِّس النحو العربي).
سيبويه: أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر البصري، (140 / -180 هـ إمام العربية وشيخ النحاة).
ابن سينا: الشيخ الرئيس ابن سينا (428هـ/ 1037م) لعدة قرون المرجع الرئيس في علم الطب.
الجرجاني: أبو بكر بن عبد القاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة، كتاب (أسرار البلاغة).
الشاطبي: هو إبراهيم بن موسى بن محمد، أبو إسحاق الغرناطي الشهير بالشاطبي.
الموصلي: كتاب الأغاني، أبو فرج الأصفهاني، المجلد الخامس بيروت: دار الثقافة 1987 ص 229.
الكسائي: إمام الكوفيين في اللغة والنحو، وأحد القراء السبعة، مؤسس مدرسة النحو الكوفي.
ابن جني: أبو الفتح عثمان بن جني المشهور، عالم نحوي كبير، كتابه الهام الخصائص.
الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكنانيش البصري (159- 255 هـ) أديب عربي كان من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، من مؤلفاته الشهيرة (البيان والتبيين).

[8] - كتاب (الخصائص لابن جني ج2-ص162-163).
[9] - الرواية العربية والنثرية العربية د. محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم أستاذ النقد وتحليل الخطاب، (بحث مؤتمر الأدباء، الندوة المخصصة لنجيب محفوظ - القاهرة 2007).
[10] - سؤال التراث في القصة القصيرة (تتريث السرد) د. محمد عبيد الله بحث مقدم ضمن أعمال الملتقى الدولي للقصة القصيرة العربية (نوفمبر) 2009.
[11] - شكري عياد: الرؤيا المقيدة. دراسات في التفسير الحضاري للأدب. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978.
[12] - كتاب فقه اللغة وأسرار العربية وهو عبد الملك بن محمد بن إسماعيل، أبو منصور الثعالبي ( 430-350) هـ .
[13] - الطيب صالح له رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) وغيرها روائي سوداني شهير (1929 - 2009.
[14] - أبو العتاهية: (إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني)؛ الموسوعة الشعرية.
[15] - علم البديع: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه؛ (الإيضاح للقزويني).
[16] - علم المعاني: هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال؛ (الإيضاح للقزويني).
[17] - شفرة المعني: المقصود محاولة فك شفرة الرموز التي تحملها اللغة وعدم الاكتفاء بالمعنى العادي.
[18] - ميخائيل بختين: الكلمة في الرواية, ترجمة يوسف حلاق, وزارة الثقافة, دمشق, 1988.
[19] - علم اللغة الكوني: يتناول اللغات بالبحث ويقارن بينها لمعرفة شباب اللغة وكهولتها, وحياتها أو موتها.
[20] - كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي.
[21] - الأسلوبية: د / أحمد درويش. دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث.