الغريب في اللغة

يظهر معنى الغرابة ولفظ الغريب في كثير من نصوص الحديث والأثر، وفي بعض الأمثال والخطب، وكذلك في عدد من أبيات الشعر، "ولا يخفى أن ما ورد في متون الحديث والأثر حول مفهوم الغرابة يعد من أسبق ما ورد في هذا الباب وأوثقه".[1]

من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء)[2] وفي رواية الخطابي: (قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: النزاع من القبائل)، ثم قال الخطابي: النزاع جمع نزيع، وهو الغريب الذي قد نزع من أهله وعشيرته...، ونرى - والله أعلم - أنه أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأوطانهم إلى الله عز وجل.[3]

وفي النهاية: أنَّه كان في أوّل أمْره كالغَرِيب الوحيد الذي لا أهل له عنده لِقَّلة المسلمين يومئذ وسَيَعود غريبا كما كان، أي: يَقِلُّ المسلمون في آخِر الزمان فيصيرون كالغُرَباء.[4]

ومن ذلك أيضاً ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان واقفًا معه في غزاة فأصابه سهم غَرْب) [5] وهو الذي لا يعرف راميه. [6]

ومنه أيضًا ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فيكم مغربين، قيل: وما المغربون؟ قال:
الذين تَشْرَك فيهم الجن). [7]
سموا مغربين؛ لأنه دخل فيهم عرق غريب، أو جاءوا من نسب بعيد. [8]
ومن ذلك حديث عمر ط: (هل مِن مُغَرَّبَة خبر)[9]، أي: هل من خبر جاء من بلد بعيد؟[10]

ومن شيوع هذه المعاني المتعلقة بالغرابة في الأحاديث والآثار التي تقدمت، يدل على أن هذه المفاهيم كانت معروفة قبل الإسلام.
ومن ذلك ما جاء في الشعر الجاهلي.
قال عبيد بن الأبرص: (مخلع البسيط) [11]
سَاعِدْ بأرضٍ إذا كنت بها ♦♦♦ ولا تَقُلْ إني غريب

وقال علقمة الفحل: (الطويل) [12]
فلا تَحْرِمَنِّي نَائلاً عن جَنَاَبَةٍ ♦♦♦ فإنِّي أقرؤٌ وَسْط القِبَاَب غَرِيب

وقال المتلمس الضبعي: (الخفيف) [13]
أيها السَّائِلي فإنّي غريبٌ ♦♦♦ نَازِحُ مَحلَّتي وصميمي

وقال النابغة: (الكامل) [14]
نبئت زُرْعَةَ والسفاهةُ كَاسْمِها ♦♦♦ يُهْدِي إِلَيَّ غَرَائِبَ الأشْعَارِ

ومثال ما جاء في الأمثال والخطب، ما ورد في المثل: ضربه ضرب غرائب الإبل.
وذلك أن الغريبة تزدحم على الحياض عند الورود، وصاحب الحوض يطردها ويضربها بسبب إبله. [15]

ومنه قول الحجاج في خطبته يهدد أهل العراق: والله لأضربنكم ضرب غرائب الإبل. [16] وقد سمت العرب الغراب بذلك الاسم؛ لأنه من البعد والاغتراب عن الأمصار. [17]
وقال الراغب: والغراب سمي لكونه مبعدا في الذهاب. [18] وسمي الدلو غربا؛ لتصور بعدها في البئر. [19]

إن أقرب المعاني لمادة (غ ر ب) هي البعد والاختفاء، وقد أورد أصحاب المعاجم عددًا من مشتقات هذه المادة التي تدور حول هذا المعنى ومن ذلك:
الغربة: البعد عن الوطن، يقال: غربت الدار، أي: بعدت، وغرب فلان عنا، أي: تنحى، والغربة: النوى البعيدة، وغاية مغربة، أي بعيدة الشَّأْو، وغربت الكلاب: أمعنت في طلب الصيد، قال ابن فارس: ومن هذا الباب غربت الشمس، كأنه بعدها عن وجه الأرض، ويقولون: هل من ُمَغِّربَة خَبَر، يريدون: خبر أتى من بعيد، قال ابن دريد: وأحسب أن اشتقاق الغريب من هذا والمصدر الغربة. يقول الجوهري: تقول من الغربة: تَغَرَّب واغْتَرَب بمعنى فهو غريب وغُرُب، والجمع: غرباء، والغرباء أيضاً الأباعد.

وقد ذكر ابن منظور هذه المعاني، وزاد: وقِدْحٌ غريبٌ ليس من الشجر التي سائرُ القِداحِ منها، ورجل غريبٌ ليس من القوم، والغَريبُ الغامِضُ من الكلام وكَلمة غَريبةٌ وقد غَرُبَتْ وهو من ذلك، واغْتَرَبَ الرجلُ نَكَح في الغَرائبِ وتَزَوَّجَ إِلى غير أَقاربه.[20]
وفي المعجم الوسيط: أغرب في كلامه: أتى بالغريب البعيد عن الفهم.[21]

يتبين من ذلك أن المشتقات المذكورة من مادة (غ ر ب) تدور حول البعد، وأن الغريب من الكلام: الغامض منه.
"ونخلص من هذا إلى أن الغريب من الكلام هو المرحلة الثانية من مراحل تطور معنى (الغرابة) التي كانت تدل على البعد مطلقًا، ثم استعملت في البعد عن الأهل، وأخيرًا في البعد عن الفهم".[22]

يقول الخطابي: الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم كالغريب من الناس، إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل،.. ثم إن الغريب من الكلام يقال على وجهين:
أحدهما: أن يراد به بعيد المعنى غامضه، لا يتناوله الفهم إلا عن بُعْد ومعاناة وفكر.
والوجه الآخر: أن يراد به كلام من بَعُدَت به الدار ونأى به المحل من شواذ قبائل العرب[23]

وقد عقد ابن فارس في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة) باباً في مراتب الكلام في وضوحه وإشكاله، قال فيه: " أما واضح الكلام، فالذي يفهمه كلّ سامع عرف ظاهرَ كلام العرب، وأما المشكل، فالذي يأتيه الإشكال من غَرابة لفظه، أَوْ أن تكون فِيهِ إشارة إِلَى خبر لَمْ يذكره قائلهُ عَلَى جهته، أَوْ أن يكون الكلام فِي شيء غير محدود، أَوْ يكون وَجيزاً فِي نفسه غير مَبْسوط، أَوْ تكون ألفاظه مُشتركةً. فأما المُشكلِ لغرابة لفظه فقول القائل: " يَمْلَخُ فِي الباطل مَلْخاً يَنْفضُ مِذْرَوَيه"[24] ومنه فِي كتاب الله جلُّ ثناؤه:﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ [البقرة: 232]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ [الحج: 11].

ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "على التِّيعَة[25] شاة، والتِّيمَة[26] لصاحبها وفي السُّيُوب[27] الخُمُس لا خِلَاط[28] ولا وِرَاط[29] ولا شِنَاق[30] ولا شِغَار[31] ومن أَجْبَى فقد أَرْبَى"[32] وهذا كتابه إلى الأفيال العباهلة.....[33]

فالغريب ضد الواضح، أي: ما لا يحيط به إلا عربي خالص يعرف لغته، ولِمَ وضعها؟ أو عالم ثبت متقن، ويطلق على هذا النمط من الكلام، الغريب، والنادر، والشارد.[34]

معنى غريب الحديث:
عرفه ابن الصلاح بأنه: "عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة من الفهم؛ لقلة استعمالها"[35]
أما عند مؤلفي غريب الحديث كأبي عبيد وابن قتيبة والحربي والسرقسطي والخطابي وغيرهم، فلا يقتصر على هذه الألفاظ، وإنما يتعداه إلى الغريب من جهة المعنى العام وإلى المعاني المجازية، والمعاني النحوية، والمعاني الاشتقاقية وغيرها.
وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن أسباب الغرابة في الحديث النبوي، فتابعونا.
[1] معاجم غريب الحديث والأثر والاستشهاد بالحديث في اللغة والنحو (ص9) د. السيد الشرقاوي - الخانجي. القاهرة ط: 1 - 1421هـ - 2001م.
[2] مسلم (كتاب الإيمان - باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا) (1/ 130)، والترمذي (كتاب الإيمان- باب أن الإسلام بدأ غريبا) (5/ 18) وغيرهما.
[3] غريب الخطابي (1/ 174) وما بعدها.
[4] النهاية (3/ 348).
[5] البخاري (كتاب الجهاد والسير - باب ممن أتاه سهم غرب فقتله) (3/ 1034)، والترمذي (كتاب تفسير القرآن- باب ومن سورة المؤمنون) (5/ 327).
[6] الغريبين للهروي (4/ 1363)، والنهاية (3/ 350).
[7] أبو داود (كتاب الأدب - باب ما جاء في الصبي فيؤذن في أذنه) (2/ 749).
[8] النهاية (3/ 349).
[9] الغريبين (4/ 1364).
[10] السابق نفسه، والنهاية (3/ 349)
[11] ديوان عبيد بن الأبرص (ص22) شرح/ أشرف أحمد عدرة. دار الكتاب العربي-بيروت. ط1-1414هـ-1994م. والمعنى: إذا حللت بأرض قوم؛ فساعدهم وأعنهم على أمورهم، ولا تهمل بحجة أنك غريب، وإلا أخرجوك من بينهم.
[12] شرح ديوان علقمة الفحل (ص19) بقلم/ السيد أحمد صقر. ط1. 1353هـ-1935م. المطبعة المحمودية بالقاهرة. وقائلاً: عطاء يريد به فك أسر أخيه شأس. وعن بمعنى بعد، والجنابة: الغرابة.
[13] ديوان شعر المتلمس الضبعي (ص73) عنى بتحقيقه/ حسن كامل الصيرفي. معهد المخطوطات العربية. جامعة الدول العربية. 1390هـ- 1970م.
[14] ديوان النابغة الذبياني (ص55) اعتنى به وشرحه: حمدو طماس. دار المعرفة. بيروت. لبنان ط:2- 1426هـ - 2005م. والسفاهة: الخفة والطيش والجهل. والمراد: أنه غير مشهور بالشعر ولا منسوب إليه، فالشعر غريب من قبله.
[15] مجمع الأمثال (1/ 419) لأبى الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري. دار المعرفة -بيروت. تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد. بدون تاريخ.
[16] النهاية (3/ 657).
[17] غريب الخطابي (1/ 528).
[18] المفردات (ص359).
[19] السابق نفسه.
[20] ينظر في هذه الاشتقاقات: الجمهرة (ب ر غ) (1/ 268) لابن دريد. حيدر أباد. 1345هـ، والمقاييس (غرب) (4/ 421)، والصحاح (غرب) (1/ 191)، واللسان (غرب) (6/ 588) وما بعدها.
[21] المعجم الوسيط (غرب) (3/ 647) مجمع اللغة العربية. القاهرة. أخرجه/ إبراهيم مصطفى وآخرون. المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع. بدون تاريخ.
[22] الغرابة في الحديث النبوي (ص9).
[23] غريب الخطابي (1/ 70، 71).
[24] يملخ في الباطل ملخًا، أي: يمر مرًا سريعًا سهلاً. النهاية (4/ 872)، واللسان (ملخ) (8/ 354)، والمذروان: أطراف الأليتين، وقولهم: جاء ينفض مذرويه، إذا جاء باغيًا يتهدد. اللسان (ذرا) (3/ 505).
[25] التيعة: الأربعون من الغنم. غريب أبي عبيد (1/ 269)، والنهاية (1/ 202).
[26] التيمة - بالكسر: الشاة الزائدة عن الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى، وقيل: هي الشاة تكون لصاحبها في منزل يحتلبها وليست بسائمة. النهاية (1/ 203).
[27] السيوب: الركاز. غريب أبي عبيد (1/ 270)، والنهاية (1/ 62).
[28] الخلاط: أن يخلط الرجل إبله بإبل غيره، أو بقره أو غنمه؛ ليمنع حق الله منها، ويبخس المُصَدِّق فيما يجب له. النهاية (2/ 141)، وينظر غريب أبي عبيد (1/ 270).
[29] الوارط: الخديعة الغش. غريب أبي عبيد (1/ 272).
[30] الشناق: ما بين الفريضتين، وهو ما زاد من الإبل على الخمس إلى العشر، وما زاد على العشر إلى خمس عشرة. النهاية (2/ 505).
[31] الشغار: نِكاحٌ معروفٌ في الجاهلية كان يقول الرجُل للرَّجُل: شاغِرْني: أي زَوِّجْني أخْتَك أو ابْنتَك أو مَن تَلِى أمْرَها حتى أزوِّجَك أخْتي أو بِنْتِي أو مَن أَلِى أمْرَها ولا يكونُ بينهما مهر ويكون بُضْعُ كل واحدةٍ منهما في مُقابَلة بضْع الأخرَى. النهاية (2/ 482).
[32] أجبى: الإجباء، بيع الحرث قبل أن يبدو صلاحه. غريب أبي عبيد (1/ 273)، وأربى: دخل في الربا. النهاية (2/ 192).
[33] الحديث في الفائق (1/ 14).
[34] الصاحبي (ص69) وما بعدها.
[35] علوم الحديث لابن الصلاح (ص159).