هل اللغة العربية حقاً في "مهب الريح"؟

أليست اللغة العربية تعيش أياماً سوداء من الظلم والاستبداد؟ وهل هي حقاً في "مهب الريح" كما يدّعي العديد؟ لن أتكلم في مقالي هذا عن الأهمية الواضحة للغة العربية (خاصةً الفصحى)، لأنني أعتقد أن معظمنا يعي تماماً ذلك؛ أو لعل من الأفضل القول أن هذا ما أريد لنفسي أن تصدقه، إذ أنني، وربما أغلبنا أيضاً، يرى تتدهوراً جلياً لوضع اللغة العربية الفصحى والوطن العربية على حدٍ سواء في شتّى المجالات.

على سبيل المثال لا الحصر، أُصاب بين الحين والآخر بصدمة آنية عندما يتبادر إلى ذهني أن الطب مثلاً لا يتم تدريسه باللغة العربية في أغلب البلدان العربية -عدا في دولتي سوريا والسودان- وكيف أنه عندما يأتي أي أجنبي إلى أحد الدول العربية (دول الخليج خاصةً، نظراً لاستقطابها العدد الأكبر من الأجانب) فإنه غير مطالب بإتقان أو حتى بتعلم اللغة العربية بجدية ولكن يكفيه اللغة الإنجليزية، حيث أن معظم شؤن البلاد تتم باللغة الإنجليزية مثل الطب وكتابة التقارير الطبية وغيرها!
على نقيض ذلك، من أجل العمل في أي مجال كان، في بلدٍ مثل فنلندا مثلاً -بلد أوربي يقع في الشمال- يُطلب من جميع الأجنبين تعلّم لغة البلد، اللغة الفنلندية والتي يتحدثها 5.5 مليون شخص فقط، وتعتبر الشرط الأساسي للعمل في حين يتراوح عدد الناطقين بالعربية بين حوالي 425 مليون نسمة حسب الإحصائيات.
أولاً، لا شك بأن اللغة العربية تتعرض للعديد من التهديدات ومستقبلها قد يكون -إذا صح التعبير- محفوف بالمخاطر لاسيما بسبب المشاكل والمصائب السياسية المتغلغلة في أغلب الأقطار العربية -هذا إذا ليس كلها- والتي بدورها تقف كحاجز متين أمام تقدم اللغة العربية وعودة هيبتها التي كانت سائدة طوال فترة تاريخها العريق.

لن أطيل التحدث عن هذا الموضوع المعقد والمتشابك بأمور سياسية وغيرها لأنني لست بخبير في هذا المجال ولا أنوي أصلاً الإسهاب في حديثي هذا لأن ذلك ليس الهدف المنشود وراء مقالي الذي أتطلع أن يكون خالياً من الأخطاء، كوني للأسف لم أكتب بلغتي العربية بشكلٍ كافٍ ولم أدرس بها إلا بضع سنين.
طبعاً لا أنوي أيضاً الدخول في دوامة اللهجات العربية المختلفة التي تختلف لحد كبير عن اللغة العربية الفصحى والتي أراها ربما أحد الحواجز الأساسية أمام الراغبين بتعلم اللغة العربية، لأنني -رغم عدم تشجيعي الزائد لما يُسمى باللهجات المحلية- أعتبرها أمر طبيعي لا مفر منه ولكن الطامة الكبرى قد تكمن في قضاء هذه اللهجات على قدرة متكلميها على التحدث أو الكتابة بلغتهم الفصحى بشكل سليم، مما يُنذر بكارثة حقيقية.

علاوةً على ذلك، فلن أتحدث مطوّلاً عن موضوع لا أعرف عنه الكثير مثل آفة الفقر والأمية المتفشية أو بعض المشاكل المستفحلة في العديد من الدول العربية والتي تؤثر على اللغة العربية بشكل كبير، مثل إعطاء اللغات الأجنبية (اللغة الفرنسية والإنجليزية وغيرها) أولوية التعليم والتدريس أيضاً واجتباءها على العربية في تحديد شؤن البلاد اقتصادياً، سياسياً، وعلمياً، وما إلى ذلك.

إن عيشي في الغربة ألهمني المشاركة في بعض المبادرات العربية، والتي كان أبرزها مشروع موسوعة ويكيبيديا العربية، الذي أصبحت متحمساً بشدة ومهووساً بل في بعض الأحيان مدمناً عليه رغم أنني لا أملك الوقت الكافي على الإطلاق للتفرغ لهكذا أمور. (لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الأمر بسيط جداً ولا يستحق التحدث عنه بإطناب ولكن هذا كان أول الأمور التي تبادرت إلى ذهني عند كتابتي لهذه المقالة).
بمناسبة التكلم عن موسوعة ويكيبيديا، فإن أحد أكثر الأسباب التي حثتني على أن أسهم في إنشاء وتحرير مقالات عربية فيها كان استخدامي المستمر والمتواصل لها ولكن بنسختها الإنجليزية والتي يربو عدد مقالتها على الخمس ملايين مقالة في حين يزيد عدد المقالات العربية في ويكيبديا على النصف مليون فقط!، فضلاً عن الفرق الشاسع بين كلا اللغتين في طول ونسبة التفاصيل الموجودة في مقالاتهما، وهذا ما جعل اللغة العربية تحتل المرتبة الـ20 من حيث عدد المقالات في ويكيبيديا لكل لغة.


هذا الترتيب المتراجع يثير التساؤلات حول سبب تفوق لغات أخرى مثل البرتغالية والبولندية وغيرها على اللغة العربية علماً أن اللغة العربية لغة مصنفة عالمياً كرابع أكثر لغة تحدثاً على مستوى العالم، أي أن عدد متحدثيها أكثر بكثير من اللغات الأخرى. طبعاً الإجابة على هذا السؤال تحتاج بعض الدراسات والأبحاث ولكن يمكننا بسهولة عزو بعض الأسباب الجوهرية لذلك التراجع إلى بعض العقبات المستفحلة التي يواجهها العالم العربي في يومنا هذا مثل المشاكل السياسية، عدم تعاون المؤسسات والجامعات العربية وغيرها من المراكز العلمية، عدم انتشار المبادرات أو المساهمات على نطاق واسع في الوطن العربي، نسبة الأمية، الفقر، أو حتى عدم وعي أو اكتراث نسبة لا بأس بها من الشعب العربي بأهمية اللغة العربية والتفاخر باستخدام لغات أجنبية أخرى وما إلى ذلك.
ولكن الجدير بالذكر أيضاً أن اللغة العربية تشغر المرتبة التاسعة من حيث عمق المقالات على ويكيبيديا، مما يبشر بالخير نظراً إلى أن المبادرات التطوعية الجماعية أو الفردية هي على الأغلب وحدها من يسهم في ذلك، بمعنى أن معظم المؤسسات الحكومية نائمة وغائبة شبه كلياً عن هذه المشاريع.


تقبلو أطيب تمنياتي أخوكم شاعر وطن (أحمد)