النساء اللاتي مارسن صناعة الطب
كان تعلُّم الطبِّ ومعاناة التطبيب مكفولين لأيٍّ كان ذكرًا أو أنثى، مبصرًا أو مكفوفًا، كانت زينب طبيبة بني أَوْد من الماهرات في صناعة الكحالة، عالمة بصناعة الطب والمداواة، ولها خبرةٌ جيِّدةٌ بمداواة آلام العين والجراحات، مشهورةٌ بين العرب بذلك، ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني: "قال رجلٌ من الأعراب: أتيت امرأةً من بني أَود لتكحلني من رمدٍ كان أصابني، فكحلتني ثم قالت: أضطجع قليلًا حتى يدور الدواء في عينيك. فاضطجعتُ، ثم تمثَّلتُ قول الشاعر:
أَمُخْتَرِمِي رَيْبَ الْمَنُونِ وَلَمْ أَزُرْ *** طَبِيبَ بَنِي أَوْدٍ عَلَى النَّأْيِ زَيْنَبَا
فضَحِكَتْ، ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا. قالت: فيَّ والله قيل، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري من الشاعر؟ قلت: لا. قالت: عمُّك أبو سمَّاك الأزدي".
ورفيدة الأسلمية اتَّخذت خيمةً في مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكانت تُداوي الجرحى، وكانت أخت الحفيد أبي بكر ابن زهر الحفيد وبنتها عالمتين بصناعة الطبِّ، ولها خبرةٌ جيِّدةٌ فيما يتعلَّق بمداواة النساء، وكانت أمُّ الحسن بنت القاضي أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم أبي جعفر الطنجالي من أهل لوشة -بلدة بالأندلس- تُجوِّد القرآن، وتُشارك في فنونٍ من الطب، وأفراد مسائل الطب، وتنظم الشعر.
الأطباء المكفوفون
كان أبو الحسن علي بن إبراهيم بن بكس طبيبًا مكفوفًا، وكان فاضلًا عاملًا بصناعة الطبِّ متقنًا لها غاية الإتقان، وكان يُدرِّس الطب في البيمارستان العضدي ويُفيد الطالبين، وكان إذا أراد معرفة سجنات الوجود وحال بول المرضى عوَّل على من يكون معه من تلاميذه في وصفه ذلك.
وأبو الحسن ابن مكين البغدادي الضرير قاد الحكمة بزمامها، وكان مكفوفًا يقوده تلميذه إلى ديار المرضى، وكان أبو الخير يُهجِّنه في كتاب امتحان الأطباء، وقال: من قاد أعمى شهرًا -يعني ذلك الطبيب- تطبَّب وعالج وأهلك الناس.
وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحنَّاط المكفوف الشاعر الضرير القرطبي، كان أوسع الناس علمًا بعلوم الجاهليَّة والإسلام، بصيرًا بالآثار العلوية، حاذقًا بالطبِّ والفلسفة، ماهرًا في العربيَّة والآداب الإسلاميَّة، وُلِد أعشى ضعيف البصر، متوقِّد الخاطر، فقيرًا كثيرًا في حال عشاه، ثم طُفِئ نور عينه بالكلِّيَّة فازداد براعة، ونظر في الطبِّ بعد ذلك فأنجح علاجًا، وكان ابنه يصف له مياه الناس المـُستفتين عنده فيهتدي منها إلى ما يهتدي إليه البصير، ولا يُخطئ الصواب في فتواه لسرعة الاستنباط، وتطبَّب عنده الأعيان والملوك فاعترفوا له بمنافع جسيمة.
التقسيم الفني لنظام البيمارستان
لم تكن البيمارستانات تسير اتِّفاقًا بغير نظامٍ ولا ترتيب؛ بل كانت على نظامٍ تامٍّ، وترتيبٍ محمودٍ، تسير أعمالهما على وتيرةٍ منتظمة، وكانت البيمارستانات منقسمة إلى قسمين منفصلين بعضها عن بعض؛ قسمٌ للذكور وقسمٌ للإناث، وكلُّ قسمٍ مجهَّزٍ بما يحتاجه من آلةٍ وعدَّةٍ وخدمٍ وفرَّاشين من الرجال والنساء وقوام ومشرفين، وفي كلِّ قسمٍ من هذين القسمين عدَّة قاعات لمختلف الأمراض؛ فقَاعَةٌ للأمراض الباطنة، وقاعةٌ للجراحة، وقاعةٌ للكحالة، وقاعةٌ للتجبير.
وكانت قاعة الأمراض الباطنة منقسمة إلى أقسامٍ أخرى: قسمٌ للمحمومين وهم المصابون بالحمَّى، وقسمٌ للممرورين وهو لمن بهم المرض المسمَّى مانيا وهو الجنون السبعي، وقسمٌ للمبرودين؛ أي المتخومين، ولمن به إسهالٌ قاعة ... الخ.
وكانت قاعات البيمارستان فسيحة حسنة البناء وكان الماء فيها جاريًا، وللبيمارستان صيدليَّة تُسمَّى شرابخاناه، ولها رئيسٌ يُسمَّى "شيخ صيدليي البيمارستان"، وللبيمارستان رئيسٌ يُسمَّى ساعور البيمارستان، ولكلِّ قسمٍ من أقسامه رئيس، فكان فيه رئيسٌ للأمراض الباطنة، ورئيسٌ للجرائحيَّة والمجبِّرين، ورئيس للكحالين، وللبيمارستان الفرَّاشون من الرجال والنساء والمشارفون، والقوام للخدمة -أيضًا- ولهم المعاليم الوافية والجامكيَّة الوافرة.
خزانة الشراب
هي الصيدليَّة في البيمارستان، قال أبو العباس القلقشندي: هذه الخزانة هي المعبَّر عنها في زماننا -أي زمن القلقشندي المتوفَّى سنة (821هـ=1418م)- بالشرابخاناه، وهي الحواصل المعبَّر عنها بالبيوت؛ ذلك أنَّهم يُضيفون كلَّ واحدٍ منها إلى لفظ خاناه؛ كالشراب خاناه، والطشت خاناه، والطبل خاناه، ونحوها. وخاناه لفظٌ فارسيٌّ معناه البيت، فتأويلها بيت الشراب ... إلخ، إلَّا أنَّهم يُؤخِّرون المضاف عن المضاف إليه على عادة الفرس في ذلك، وكان فيها من أنواع الأشربة، والمعاجين النفيسة، والمربيات الفاخرة، وأصناف الأدوية، والعطريَّات الفائقة التي لا توجد إلَّا فيها، وفيها من الآلات النفيسة، والآنية الصيني من الزبادي والبراني والأزبار ما لا يقدر عليه غير الملوك.
وقد كان لكلِّ مارستان خزانة للشراب كاملة كما في وقفيَّة المارستان المنصوري قلاوون وغيره، ولكلِّ شراب خاناه مهتار يُعرف بمهتار الشرابخاناه، ومهتار بالفارسيَّة بمعنى رئيس متسلِّم لحواصلها، له مكانةٌ عالية، وتحت يده غلمانٌ عنده برسم الخدمة، يُطلق على كلِّ واحدٍ منهم شراب دار.
وفي الشرابخاناه الخاصَّة بالسلطان وظيفة الشادِّ، بها تكون لأميرٍ من أكابر أمراء المئين الخاصكيَّة المؤتمنين، ولها مهتار يُعرف بمهتار الشرابخاناه متسلِّمٌ لحواصلها، ووظيفة الشادِّ موضوعها التحدُّث في أمر الشرابخاناه السلطانية، وما عُمِل إليها من السكَّر والمشروب والفواكه وغير ذلك، وتارةً يكون مقدمًا، وتارةً يكون طبلخاناه.
نظام المعالجة في البيمارستان
كان في البيمارستان طريقان للعلاج: علاج خارجي؛ أي أنَّ المريض يتناول الدواء من البيمارستان ثم ينصرف ليتعاطاه في منزله، وعلاج داخلي: يُقيم المريض في أثنائه في البيمارستان في القسم الخاصِّ والقاعة الخاصَّة بمرضه حتى يشفى.
ففي الطريقة الأولى كان الطبيب يجلس على دكَّةٍ ويكتب لمن يَرِدُ عليه من المرضى للعلاج أوراقًا يعتمدون عليها، ويأخذون بها من البيمارستان الأشربة والأدوية التي يصفها الطبيب.
وأمَّا العلاج الداخلي -أي في داخل البيمارستان- فكان المرضى يُوزَّعون على القاعات بحسب أمراضهم، وكان لكلِّ قسمٍ من أقسام البيمارستان طبيبٌ أو اثنان أو ثلاثة أطباء بحسب الساعة وكثرة المرضى، وكان إذا دعا الحال يُدعى طبيبٌ من قسمٍ آخر غير القسم الذي فيه المريض للاستشارة.
وكان الأطبَّاء يشتغلون في البيمارستان بالنوبة؛ فجبريل بن بختيشوع كانت نوبته في الأسبوع يومين وليلتين.
أرزاق الأطباء
في البيمارستان وفي الخدمة الخاصَّة كان للأطباء على وجه العموم من لدن الخلفاء والملوك والأمراء- الإحسانُ الكبير، والأفضالُ الغزيرة، والجامكيَّة الوافرة، والصلات المتواترة، وكانت تُطلق للأطبَّاء مع الجامكيَّة الجرايةُ وعلوفةٌ للدابَّة التي يركبونها.
أمَّا المرتَّبات الشهرية فكانت كما يأتي:
أطباء الخاص؛ أي المنقطعون للخليفة أو السلطان، وكانا اثنين، لكلٍّ منهما في الشهر خمسون دينارًا، ولمن دونهما من الأطباء وهم نحو ثلاثة أو أربعة المقيمين بالقصر، لكلِّ واحدٍ منهم عشرة دنانير، ولكل طبيبٍ بالمارستان ما يقوم بكفايته.
فكان للأطباء بالمارستان على العموم جامكية خمسة عشر دينارًا، وكان لبعضهم رزقان؛ أي ثلاثون دينارًا في كلِّ شهرٍ لعملين مختلفين، كرضيِّ الدين الرحبي؛ فقد أطلق له صلاح الدين يوسف بن أيُّوب في كلِّ شهرٍ ثلاثين دينارًا، ويكون ملازمًا للقلعة والبيمارستان، وبعد وفاة صلاح الدين أُطلق له الملك المعظَّم عيسى بن الملك العادل خمسة عشر دينارًا، ويكون متردِّدًا إلى البيمارستان.
وكان لبعضهم كجبرائيل الكحَّال ألف درهم في كلِّ شهر، وكان لماسويه جامكية من الفضل في كلِّ شهرٍ ستمائة درهم وعلوفة دابته، ثم تزيد إلى ألفي درهم ومعونة في السنة عشرة آلاف درهم وعلوفة ونزل، وممَّن كان يأخذ رزقين جبريل بن عبد الله بن بختيشوع؛ فكان يأخذ برسم الخاصِّ ثلاثمائة درهم شجاعيَّة، وبرسم البيمارستان ثلاثمائة درهم شجاعيَّة سوى الجراية، وكان لعزِّ الدين بن السويدي جامكيَّة في أربع جهات في البيمارستان النوري، وفي بيمارستان باب البريد في دمشق، وللتردُّد على قلعة دمشق ولتدريسه في مدرسة الدخوارية.
وكان من أطباء الأمير سيف الدولة بن حمدان من يأخذ رزقين لتعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة أرزاق لتعاطيه ثلاثة علوم، وكان في جملتهم عيسى النفيس الطبيب؛ فكان يأخذ ثلاثة أرزاق: رزقًا للنقل من السرياني إلى العربي، ورزقين آخرين بسبب علمين آخرين.
ولم يكن حسن موقع الأطباء لدى الخلفاء والملوك وإطلاق الجامكيَّة الوافرة لهم بمانعٍ من أن يشتغل بعضهم في البيمارستان احتسابًا؛ فقد كان كمال الدين الحمصي يتردَّد على البيمارستان الكبير النوري يُعالج المرضى فيه احتسابًا.
وقد بلغ بعض الأطباء من حسن الحال ورغد العيش إلى درجةٍ عظيمة؛ فقد بلغ بختيشوع في زمان الخليفة المتوكِّل في الجلالة والرفق أعظم المنزلة، وحسن الحال، وكثرة المال، وكمال المروءة، ومباراة الخليفة في اللِّباس والزيِّ والطيب والفرش والضيافات والتفسُّح في النفقات مبلغًا يفوق حدَّ الوصف.
______________
المصدر: أحمد عيسى بك: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، الناشر: دار الرائد العربي - بيروت، الطبعة: الثانية، 1401هـ= 1981م.