النتائج 1 إلى 3 من 3
الموضوع:

محاضرات الادب العربي الحديث\المرحلة الرابعة موضوع 4

الزوار من محركات البحث: 80 المشاهدات : 495 الردود: 2
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    صديق فعال
    المتنبي
    تاريخ التسجيل: January-2019
    الدولة: العراق
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 607 المواضيع: 196
    التقييم: 329
    مزاجي: متقلب
    المهنة: باحث في علوم اللغة العربية (أختصاص)
    موبايلي: IPhone x
    آخر نشاط: 18/February/2019
    الاتصال: إرسال رسالة عبر ICQ إلى شاعـر وَطــن ღ إرسال رسالة عبر AIM إلى شاعـر وَطــن ღ إرسال رسالة عبر MSN إلى شاعـر وَطــن ღ إرسال رسالة عبر Yahoo إلى شاعـر وَطــن ღ

    محاضرات الادب العربي الحديث\المرحلة الرابعة موضوع 4

    الفصل الثالث

    المصادر الثقافية للرحلات الخيالية

    أوّلاً : الثقافة الأسطورية
    ثانياً : الثقافة الدينية
    ثالثاً : الثقافة الفلسفية
    رابعاً : الثقافة العلمية
    خامساً : الثقافة الأدبية





    المصادر الثقافية للرحلات الخيالية

    أولاً- الثقافة الأسطورية:
    لم تكن الرحلة الخياليّة لتنبغ في مخيّلة شاعرها من فراغ، وإنّما استندت إلى مادة ثقافية يحصل عليها الأديب غالباً من قراءاته المتنوّعة، بحيث يلوّن الرحلة بلون خاص يعكس سماته المميزة عن غيره.
    * التأثر بالأساطير العربية القديمة:
    وقد أسهمت الأسطورة في بناء بعض الرحلات الخياليّة من خلال استخدامها موضوعاً أساسياً ومادة ثقافية رئيسية في الرحلة الخياليّة وتأتي مطوّلة ((عبقر)) في مقدمة الرحلات الخياليّة، حيث إنّ شفيق معلوف كان -على الأرجح- أوّل من دعا إلى استخدام الأسطورة في الشعر العربي الحديث. وكانت مقدمة الديوان -وهي بقلم والد الشاعر: عيسى إسكندر معلوف- في طليعة الدراسات العربية في هذا المجال.
    ((وقد تجلّت في عبقر كلّ سمات الأسطورة الأصلية وخصائصها، فهي قبل كلّ شيء عمل خيالي موغل في التصورات والأوهام، بعيد عن الحقيقة والواقع))() ومن الأساطير التي أغنت المطوّلة: أسطورة ((شيطان الشعر)) وهو الذي يوحي للشاعر سحر القول ويحمله فوق جناحيه إلى عالم الأحلام والرؤى، وأسطورة ((وادي عبقر)) الذي حمل اسم المطوّلة: وهو وادٍ للجنّ تأوي إليه الأحلام والرؤى، وينسب إليه كلّ جميل ودقيق. و((سرحوب الأعمى)) وهو شيخ ضرير يشقّ نهر الغيّ بعصاه، ويبصر في الظلام ما لا تبصره أعين البصراء، و((أبناء إبليس)) رموز الشرّ والخراب، و((الهوجل والهوبر)) شيطاناً الشعر الصالح والطالح، و((هراء)) الذي يوحي الأحلام المزعجة، و((كاهنا عبقر)) شقّ وسطيح، و((العنقاء وفرخاها)) وما يتعلق بهما من موت وبعث بعد التحوّل إلى رماد.... وغيرها من الأساطير، والشاعر لا يثقل الأسطورة بالرمز، إنّما يستخدمها بعفوية، فتجيء واضحة شفّافة، ومن ذلك استخدامه الفينيق، ليعبر من خلاله عن معنى الفداء والتضحية والانبعاث، ويجيء تعبيره واضحاً، وفيه يقول:

    وفَرخُ عنقاءٍ عَميدُ العُلَى
    فِينيقٌ كَمْ جرَّرَ ذَيلَ الفَخارْ

    مُكوّماً مِحرقةً شَادَها
    إِكليلَ غارٍ فوقَ إِكليلِ غارْ

    طيّنَها بالطّيبِ واحتلَّها
    فعبَّقَ النّدُّ بِها والبَهارْ

    حَتَّى إذا عَرّضها للضّحَى
    شَبَّتْ بها من جَذوةِ الشَّمسِ نَارْ

    فأَحرقتْهُ نارُهُ وانطَوَتْ
    أمجادُهُ في حَفنةٍ مِن غُبارْ

    كأَنَّ مَن لَم يلتَهِمْ نَفسَهُ
    بنفسِهِ كانَ على المَجدِ عَارْ

    تململَ الرَّمادُ واعصَوصَفَتْ
    زعَازِعُ الذّكرَى عَليهِ فَثارْ

    زَعازِعٌ بعدَ انقضاءِ المَدَى
    أَطَرْنَ مِن قَلبِ الرّمادِ الشَّرارْ

    نَشرنَهُ غِلالَةً من لَظَى
    لبِسَها الفَينيقُ ريشاً وطَارْ()

    وإرم مدينة بناها عاد بن شداد واختفت بطريقة غامضة فنسجت حولها أساطير كثيرة، وقد أخبر عنها القرآن بأنّها لا مثيل لها بين البلاد بقوله تعالى: (ألمْ ترَ كيفَ فعلَ رَبُّكَ بعاد، إرمَ ذاتِ العمادِ التي لمْ يخلُقْ مثلُهَا في البلادِ)() وقد جعل منها الشاعر نسيب عريضة رمزاً صوفياً ووسيلة كشف روحي توصله إلى منبع الإشراق الحقيقي، وهي شعلة المعرفة التي يقول عنها:

    تِلكَ نَارُ العَلَمْ
    أُوقِدتْ في إِرمْ

    قبلَ عَهدِ القِدَمْ
    مَالها مِن خُمودْ

    أو تَزولُ العُهودْ

    نَحوَ ذاكَ الوَميضْ
    سِرْ بنَا نَستعِيضْ

    عَن ظَلامِ الحَضيضْ
    وشَقاءِ الوُجُودْ

    بِسناءِ الوُعُودْ()

    * التأثر بالأساطير الشرقية القديمة:
    وقد أغنت الأساطير الشرقية القديمة الرحلات الخياليّة، سواء أتأثّر بها الشعراء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، فرحلة الهمشري ((على شاطئ الأعراف)) تأثّرت في روحها وسيرورتها الفنية بأسطورة أوزوريس في رحلة الصعود، فالأسطورة تروي حركة (رع) إله الشمس في النهار، وتبدأ رحلته عندما يطرق باب الحياة خارجاً من جوف أمّه (نوت) ليصعد بكلّ عظمة وأبهّة وفخار إلى صفحة السماء ليقله زورق خفيف وينازل الشرّ ويطرد الظلمات وفي هذا كلّه تقف إيزيس إلى جانبه، وفي السماء يكون أوزوريس الذي يحيي الليل ويمخر دياجيه بزورقه السماوي حتّى منتصف الليل بعد أن تهاجمه الشياطين ويزداد انزعاجاً إلى أن يأخذ في سيره الحثيث، فإذا أسفر الصبح عاد بانتصاره وجلاله في صورة رع(). وإذا كانت إيزيس قد وقفت في ولاء إلى جانب أوزوريس فإنّ ربّة الشعر وقفت بكلّ إخلاص وحبّ مع الشاعر في رحلته التي صاغها وهو يسبح في فلك الأسطورة القديمة بعد أن حمّلها روح التجربة الشعرية التي حملت نوازعه الاجتماعية والنفسية ومثّلته مطوّلة ((على شاطئ الأعراف)).
    ويبقى الانزياح الدلالي في بنية الأسطورة هو الذي يمنح تجربة الهمشري خصوصيتها التي تميّزها عن الأسطورة الأم. فإذا كانت الأسطورة تقضي صراع أوزوريس مع الشياطين وسقوطه في هاوية الظلام ليعود مرّة أخرى في صورة رع إله الشمس فإنّ ((على شاطئ الأعراف)) تخلق الحياة وتجدّد الروح الإنسانية القادرة على مواجهة الشرّ والقهر والاستمرار في النضال ضد الاستعمار حتّى تحقيق الحريّة والاستقلال، ولتنتصر في النهاية غريزة الحبّ والحياة على حسّ الموت والفناء، فيقول:

    أَيُّها الحبُّ أنتَ للموتِ موتٌ
    ذو غِلابٍ على البِلى مُسْتخفُّ

    أنتَ صُنوُ الحياةِ وارِثةِ المو
    تِ ونورٌ على الإلهِ يرفُّ

    سوفَ تبقى بعدَ الفناءِ سَبُوحاُ
    في فضاءٍ من الأثيرِ يشفُّ()

    وهكذا استطاع شعراء الرحلات الخياليّة أن يستفيدوا من تراثهم الأسطوري العربي خاصّة والشرقي عامة، وتوظيف هذا التراث في التجربة الشعرية، كما استطاع بعضهم اختراق الأنماط الأسطورية وخلق تجارب شعرية تحمل في ملامحها بعض سمات الفردي والجمعي.
    ***
    ثانياً- الثقافة الدينية:
    أثرت المعطيات الدينية الرحلات الخياليّة بالرؤى والأفكار التي حملت جزءاً من المعاناة الإنسانية التي تلونّت بالسمة الدينية، ولا سيما، فيما يرتبط بمواقف الشعراء من الموت والحياة والخير والشرّ والقيامة والبرزخ.
    وقد تعدّدت صور تأثّر الشعراء بالدين بدءاً من القرآن الكريم إلى الحديث النبوي الشريف إلى الفلسفة الإسلامية.
    * التأثر بالقرآن الكريم:
    فالشاعر عبد الفتاح القلعجي اقتبس كثيراً من الآيات القرآنية وبثّها في ثنايا رحلته الخياليّة ((ملحمة القيامة)) وقد استطاعت الآيات القرآنية أن تحمل في موقعها من النصوص الشعرية روح الشعر الوثّابة إضافة إلى مدلولها القرآني المعجز في الأصل، وبهذا المزج بين الأداءين القرآني والشعري تتشكّل صورة شعرية جديدة تختصر الزمان والمكان ممّا ((يؤدّي- بالضرورة- إلى تكثيف التجربة الفنية والتعبير بدقّة لغوية مركّزة عمّا كان الشاعر مضطراً إلى شرحه والإسهاب فيه))().
    يقول الشاعر:
    عادَ إلى رَحِمِ الصّلصَالِ
    على الشَّاطِئ هَمسةُ رُوحٍ في جَسدِ خَليَهْ
    ((هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدَّهر
    لمْ يكُنْ شَيئاً مَذكوراً))
    قَالتْ غَبرةُ إِنسانٍ
    ((أ إنِنّا لمبعوثُونْ))؟
    ((أَ وآباؤُنا الأَوَلونْ))
    سَأَلتْ ذَرّةُ عَظمٍ نَخِرهْ
    ((مَنْ يحيي العِظامَ وَهْي رَمِيمْ)).()
    ولم يكن التأثّر بالقرآن الكريم باقتباس الآيات فحسب وإنّما أفاد الشعراء من قصص القرآن الكريم وتصويره للجنّة والنار والأعراف والمحشر، ولو نظرنا إلى بعض الرحلات الخياليّة لرأينا الفراتي يسوق في ((الكوميديا السماوية)) حديثاً طويلاً في ردّه على رفائيل الذي استفسر عن حياة أهل الأرض، فيسرد عليه الشاعر تاريخ الأديان البشرية مكثّفاً، فيبدأ معه بقصة خلق آدم عليه السلام، ونشوء العداوة الفطرية بين آدم وإبليس وقصة ابني آدم اللذين اقتتلا، ثمّ إرسال الله الأنبياء واحداً تلو الآخر:
    فيقول:

    وأُمُّهمُو حَوَّاءُ أَغْوَتهُ بالّتي
    نَهى اللهُ أنْ يَجنِي جَنَاها ويَطْعَمُ

    فَقَال: اهبِطا منها وكانَتْ وزَوجُها
    بِجنّاتِ عَدنٍ قَبلَ ذَا تَتَنعّمُ

    أزَلَّهُما الشَّيطَانُ عَنها فَعُوقِبا
    بِمَا نَحنُ مِنهُ الدَّهرَ نَشقَى ونَألمُ

    عَصى آدمٌ أَمرَ الإلهِ وزَوجُهُ
    فَهلْ نَحنُ مِنْ جرَّاءِ ذلك نُظلَمُ()

    ونلحظ مثل هذا التأثر بقصة آدم وإبليس في قصيدة ((في حانة إبليس)) للفراتي أيضاً فهو يقول على لسان إبليس:

    أَبُوكُمْ آدَمٌ أَغْوَتـ
    ـهُ في الجنَّاتِ حَواءُ

    وأَنتُمْ بَعْدُ تَغويكُمْ
    بِها هِندٌ وأَسْماءُ

    عَصَيتُ الأَمرَ عَن خَطأٍ
    وعَنْ قَصدٍ عَصى الأمرَا

    فقرَّبَهُ وأبعدنِي
    فقُلْ لي كَيفَ لا أَضرَى()

    وفي هذا يقول الله تعالى( وعصَى آدمُ ربَّهُ فغوَى ثمَّ اجتباهُ ربُّهُ فتابَ عليهِ وهدَى، قالَ اهبِطَا منها جميعاً فإمَّا يأتينَّكُمْ منّي هدىً فمنْ اتبعَ هدايَ فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً ونحشرهُ يومَ القيامةِ أعمى)().
    ويقول تعالى في آية أخرى (فتلقّى آدمُ من ربِّهِ كلماتٍ فتابَ عليهِ إنَّهُ هو التّوابُ الرحيمُ)().
    وقد أفاد إبراهيم الهوني من قصّة خلق الله لآدم وما سبق هذا الخلق من استفسار الملائكة عن استخلاف هذا المخلوق الجديد، ووظّفه في حواره مع الملك الذي تعجّب من وصول الشاعر إلى هذا المقام فيقول:

    فَنحنُ عَبيدُ اللهِ مِن نورِ نُورِهِ
    خُلِقنا ومَا لله في الخَلْقِ منْ مِثْلِ

    عَبدناهُ حتَّى مَا تنامُ عُيونُنا
    وأَنتُمْ خُلِقتُمْ مِن تُرابٍ ومِن رَملِ

    فقُلْتُ أَلا زِلتُمْ تَقولونَ هكَذا
    وَقَد قُلتُمُ في آدَمَ القَولَ مِن قبلِ

    ولمَّا أرادَ اللهُ إسنادَ مُلكِهِ
    لآدَمَ قُلتُمْ يُفسِدُ الأَرضَ بالقَتلِ

    فَقَالَ: نَعمْ قُلْنَا بأَمرِ إِلهِنا
    وإِنّ الذي قُلْناهُ حُقّقَ بالفِعلِ()

    ويقول الله تعالى: (وإذْ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها مَن يُفسدُ فيها ويسفكُ الدّماءَ، ونحنُ نسبِّحُ بحمدكَ ونقدِّسُ لكَ قالَ إنِّي أعلمُ مالا تعلمونَ)().
    وقد أغنى وصف القرآن الكريم للجنّة والنار خيال شعراء الرحلات الذين استعانوا بأوصافه لرسم صورة الجنّة والنار وفق رؤاهم الفكرية والنفسية فقد فصّل الله تعالى في صورة النار بما فيها من أهوال وأنكال وعذاب. وفي دركاتها وأبوابها يقول تعالى: (كلاّ إنّها لظىً، نزّاعةٌ للشَوَى)() ويقول عزّ وجلّ:
    (وما أدراكَ ما سقرُ، لا تُبقِي ولا تَذرُ لوَاحةٌ للبشرِ، عليها تسعةَ عشرَ)() ويقول تعالى عنها: (وما أدراكَ ما الحطمةُ، نارُ اللهِ الموقدةُ التي تطّلعُ على الأفئدةِ إنَّها عليهمْ مؤصدةٌ في عمدِ ممددةٍ)().
    وقد التقط عبد الفتاح القلعجي الكثير من الصفات والتقسيمات والتصويرات الخاصّة بالنار في القرآن وبثّها في وصف نار ملحمته فتحدّث عن أبواب جهنّم السبعة وعن خطاب جهنم لورّادها، فيقول:
    صوتُ جهنَّمَ: يا وُرَّادي
    يا مَنْ كذَّبتُمْ بِلقاءِ اللّهِ /بجنَّتِهِ/ بوُجُودِي
    ماذَا قُلْتُمْ في العاجِلةِ/ الدّنيا؟
    المُحتَشِدون ((قُلْنا لولا أُنزِلَ علينا مَلائكةً
    أَو نَرى رَبَّنا))()
    وفي محلّ آخر يقول:
    صوتُ الحقِّ مُخَاطِباً جهنَّم ((هل امتلأْتِ))
    صوتُ جهنَّمَ: ((هلْ مِن مزيدْ؟))()
    وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الخطاب في قوله: (يومَ نقولُ لجهنَّمَ هلْ امتلأتِ وتقولُ هلْ مِن مزيدٍ)().
    وقد أفاد الزهاوي من أوصاف القرآن الكريم لجهنّم حين وصف النار التي نقله إليها الملكان، فوصف ما فيها من طعام الزقّوم وشراب اليحموم، وشهيق جهنّم وزفيرها فقال:

    إنّها في أعماقِهَا طَبقَاتٌ
    بَعضُهَا تَحتَ بَعضِهَا مَحفُورُ

    وأَشدُّ العذابِ ما كانَ في الها
    وِيةِ السُّفلى حَيثُ يَطغَى السَّعيرُ

    حَيثُ لا يَنصُرُ الهَضيمَ أَخوهُ
    حَيثُ لا يُنجِدُ العَشيرَ العَشيرُ

    الطّعامُ الزَّقومُ في كلِّ يومٍ
    والشَّرابُ اليَحمُومُ واليَحمُورُ

    ولَقَدْ يُسقَى الظّامِئُونَ عَصيراً
    هُو مِن حَنظَلٍ وسَاءَ العَصيرُ

    ولَها مِن بَعدِ الزَّفير شَهيقٌ
    ولَها مِن بَعدِ الشَّهيق الزَّفيرُ

    ولَهُمْ فيها كُلَّ يومٍ عّذابٌ
    ولَهُمْ فيها كُلَّ يومٍ ثَبُورُ()

    وفي نظرة لبعض الآيات نجد الزهاوي قد استقى معاني القرآن الكريم ومنها قوله تعالى: (إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفورُ، تكادُ تميّزُ من الغيظِ كلّما ألقِيَ فيها فوجٌ سألهمْ خزنتُها ألمْ يأتِكُمْ نذيرٌ..)() وفي محل آخر يقول تعالى: (إنّ شجرةَ الزقّومِ، طعامُ الأثيمِ، كالمهلِ يغلِي في البطونِ، كغلي الحميم)().
    ويبدو التأثّر واضحاً في رسم صورة الجنّة عند عبد الفتاح القلعجي، حيث يأخذ الصورة من المعتقد الديني ويتكئ كثيراً على القرآن الكريم في رسم ملامحها، وإن برزت خصوصيّة رؤيته في كثير من التفصيلات. فإنّ الخطوط العامّة للصورة استقيت من القرآن فأبوابها ومراتب المؤمنين فيها والنعيم الموعود وكثير من صوره يرسمها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، يقول تعالى في سورة الواقعة: (وأصحاب اليمين ما أصحابُ اليمينِ، في سدرٍ مخضودٍ، وطلحٍ منضودٍ، وظلٍّ ممدودٍ وماءٍ مسكوب، وفاكهةٍ كثيرة، لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ، وفرشٍ مرفوعةٍ، إنّا أنشأناهُنَّ إنشاءً، فجعلناهُنَّ أبكاراً، عرباً أتراباً، لأصحابِ اليمينِ...)().
    والشاعر يقول في المعنى نفسه:
    وأصْحَابُ اليمينِ
    اليومَ في شُغلٍ
    تراهُمْ فاكهينَ، ونُورُهُمْ يَعدُو أَمَامَهمُ
    لهُمْ ما يشتهُونَ: الماءُ والظّلُّ
    وفاكِهَةُ السَّماءِ
    وكلّما رُزِقُوا ثِمارَ الجَهْدِ والغُفرانِ قَالوا
    ((هَذا الذي رُزِقنَا مِن قَبلُ
    وأُوتُوا بهِ مُتشَابِها))()
    وربّما اقترب الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري كثيراً من معنى الأعراف في القرآن الكريم، فكما هي في القرآن الكريم منزلة بين منزلتين يمثّلها قوله تعالى: (بينهما حجابٌ وعلى الأعرافِ رجالٌ يعرفونَ كلاً بسيماهُمْ ونادوا أصحابَ الجنَّةِ أنْ سلامٌ عيكُمْ لم يدخلوها وهمْ يطعمونَ، وإذا صُرفتْ أبصارهُمْ تلقاءَ أصحابِ النَّارِ قالوا ربّنا لا تجعلْنا معَ القومِ الظالمينَ)() وهي عند الهمشري تمثّل مرحلة فاصلة لابدّ للروح من اجتيازها للوصول إلى السعادة، فيقول:
    الشَّاعرُ: إيهِ ربّاهُ مَا أَراهُ أَمَامي؟
    أيُّ نُورٍ في أيّما أَسدافِ؟
    الآلهةُ: هُو شَطُّ الأَعرافِ
    الشّاعرُ: أيّةُ شَطٍّ ذا المُسمّى بشَاطئ الأعرافِ
    الآلهةُ:

    هُو مَثوى الألحانِ بعدَ شَتَاتٍ
    ومَقرُّ الأَرواحِ بَعدَ طوافِ

    تَرْقُبُ المَوتَ والحياةَ تَسيرا
    نِ على الوقْتِ وهْو كالرَّجّافِ()

    وهكذا أسهم القرآن في إغناء الرحلات الخياليّة، ولا سيما فيما يتعلق بالموضوعات الدينية والرؤى الفكرية وقصص الأنبياء وأوصاف الجنّة والنار وَقد تنوّعت وجوه التأثّر من اقتباسات وتضمينات إلى تأثّر بمعانيه وبغيبياته التي أخبر عنها.
    * التأثر بالحديث النبوي الشريف:
    ويأتي الحديث النبوي الشريف بعد القرآن الكريم أهمية في إغناء مادة الرحلات الخياليّة سواء تمّ هذا الإغناء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة.
    وقد كان عبد الفتاح القلعجي أكثر الشعراء تأثّراً بأحاديث النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام فبنى الملحمة على أساس أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن علامات القيامة وما يكون بين يدي الساعة من أحاديث وأهوال وأسباب تهيّئ لقيامتها.
    ويمكن الوقوف بوضوح على هذا التأثّر في حديث الشفاعة الكبرى ومقارنته مع حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ((فعن أبي هريرة رضي الله عنه أُتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوماً بلحم فرفع إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهش منها نهشة، فقال: أنا سيّد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبونا أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح، أنت أوّل الرسل إلى الأرض، وسمّاك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربّنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم نوح: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله فضّلك الله برسالته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلّمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمّد صلى الله عليه وسلم، فيّأتون فيقولون يا محمّد: أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربّي، ثمّ يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثّناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد غيري من قبلي، ثمّ يقول: يا محمّد ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: يا ربّ أمّتي، فيقول: يا محمّد أدخل الجنّة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمّد بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى))().
    ويقول الشاعر:
    أينَ شفيعٌ مَنْ هَذا الطّينِ اللاّزِبْ
    نَادى صَوتُ الحقٍّ
    ((مَنْ يشفَعُ عِندهَ إلاّ بإذنِهْ))
    - (وفدٌ مَنْ المؤمنينَ يطرقَونَ أبوابَ الرّسلِ طالبينَ لإخوانهمْ الذينَ في النّارِ الشّفاعَةَ، يقفونَ أمامَ بابِ آدمَ ينادُون)
    الوفدُ: ((يا آدمُ:
    أنتَ أبو البَشَرِ
    خلقكَ الله بيدهِ، ونفخَ فيكَ من روِحِهِ، وأَمَرَ
    الملائكةَ فسجدُوا لكَ، / وأسكنَكَ الجنّة.
    ألا تشفعْ لنا إلى ربِّكَ؟ ألا ترى ما نحن فيهِ وما بلغنا؟
    آدمُ: إنَ ربّي غَضبَ اليومَ غضباً لم يغضبْ قبلَهُ مثلَهُ،
    ولا يغضبُ بعدَهُ مثلَهُ،
    إنّهُ نهاني عَن الشجرةِ... فَعصيتُ
    نفسي... نفسِي... نفسِي
    اذهبوا إلى غيري... اذهبوا إلى نوحٍ))()
    وهكذا يستمر الشاعر في اقتباس حديث الشفاعة حرفيّاً فيذكر ذهاب الوفد إلى نوح ومن بعد نوح إبراهيم ومن بعده موسى فعيسى ثم إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول عن شفاعته:
    صوتُ الحقِّ: ((يا محمّدُ
    ارفعْ رأسَكَ
    سلْ تعطَهْ... واشفعْ... تشفّعْ))
    محمّدٌ: -يرفعُ رأسَه- ((أمّتي يا ربُّ.. أمّتي يا ربُّ.. أمّتي يا ربُّ))
    أيّةُ سَجدةٍ؟
    كانَتْ للنّاسِ خَلاصاً
    أنهَتْ فَصلَ عذابِ المَطهَرْ.
    ((إنْ منكُمْ إلاّ واردُهَا))
    أيّة كلمةٍ
    قرّبتْ النّاسوتَ من اللاهوتْ
    فغدا الطّينُ شَفيعاً... مَشْفوعاً
    وتمجَّد اسمُ الماءِ الدّافِقْ:
    مِن بينِ الصُلبِ والتّرائِبْ
    محمّدٌ: يا ربُّ
    ائذنْ لي فيمَنْ قالَ لا إله إلاّ اللّه))...()
    وواضح اقتباس الشاعر حديث الشفاعة كاملاً وتحميله روحاً شعرياً ينقله في سياقه بين الأسطر إلى تجربة شعرية ذات روح شفّاف ولا يقتصر الأمر على حديث الشفاعة فهناك الكثير من الأحاديث كحديث ((آخر عناقيد الجنّة)) و((آخر الخارجين من النار)) وغيرها ممّا بثّه الشاعر في ثنايا ملحمته متساوقاً مع القرآن الكريم. ولم يقتصر التأثير في ملحمة القيامة وحسب بل يمكن أن نلمس آثار ذلك في رؤى بعض الرحلات الخياليّة الأخرى على نحو ما في مطوّلة عبقر حين يرى شفيق معلوف أن رأس الشرور الكذب وأن الشياطين لا تسير حتى يرفع شيطان الكذب رأيته، فيقول:

    أَبناءُ إبليسَ مَا
    جالُوا بميدَان

    ولا امتطَوا خَيلَهُمْ
    للعالِمِ الثّانِي

    إلاّ إذا ما ركِبْ
    مِسوَطُ قُّدامَهُمْ

    يرفعُ بندَ الكَذِبْ()

    والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول ((يطبع المؤمنين على الخلال كلّها إلاّ الخيانة والكذب))().
    * التأثّر بالإسراء والمعراج:
    ويتجلّى إثراء الحديث النبويّ الشريف للرحلات الخياليّة في وصف الجنّة والنّار وقد أسهمت أحاديث الإسراء والمعراج بالقسم الأعظم. وقد أخذ الزهاوي أكثر أوصافه منها في ثورته الجحيمية، ولا سيّما، في وصف الجنّة فيقول:

    جنَّةٌ عرضُها السَّماوات والأر
    ض بها مِن شَتَّى النَّعيمِ الكَثيرُ

    فَطَعامٌ للآكِلينَ لَذيذٌ
    وشَرابٌ للشّاربينَ طَهورُ

    سَمكٌ مَقليٌّ وطَيرٌ شَويُّ
    ولذيذٌ مِن الشّواءِ الطيورُ

    وبها بَعدَ ذَلكُمْ ثَمراتٌ
    وبهَا أكوابٌ وفيها خُمورُ

    وبها دوحَةٌ يُقالُ لها الطّو
    بى لها ظِلٌّ حَيثُ سِرتَ يَسيرُ

    تتدلّى غُصونُها فَوقَ أرضٍ
    عَرضُها مِن كلِّ النَواحِي شُهورُ

    وعَلى تِلكُمُ الأَسّرةِ حورٌ
    في حُلْيٍّ لها ونِعمَ الحُورُ

    ولقَدْ يُعطى المَرءُ سَبعينَ حَورا
    ءَ عليهُنّ سُندسٌ وحَريرُ

    يتهادَينَ كالجُمانِ حِساناً
    فوقَ صرحٍ كأَنَّهُ بَلُّورُ()

    وهذا غيض من فيض فقد استوفت أبيات الوصف هذه سبعة وسبعين بيتاً، ولعلّ نظرة إلى حديث الإسراء والمعراج تقرّب لنا مدى تأثّر الزهاوي به. يقول الحديث: ((فأتى على واد فوجد ريحاً طيّبة وريح مسك وسمع صوتاً فقال: يا جبريل ما هذه الريح الطيّبة الباردة، وما هذا المسك وما هذا الصوت؟. قال: هذا صوت الجنّة تقول: يا ربّ آتني بما وعدتني فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وصحافي وأباريقي وكؤوسي وعسلي ومائي ولبني وخمري فائتني بما وعدتني...))().
    وفي حديث آخر يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((ثمّ إنّي رفعت إلى الجنّة فاستقبلتني جارية، فقلت لمن أنت يا جارية؟ قالت لزيد بن حارثة، وإذا بأنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه وأنهار من خمر لذيذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى وإذا رمَانها كالدلاء عِظماً وإذا أنا بطيرها كأنّها يخنكم هذه))().
    وهكذا أغنت الثقافة الدينية الرحلات الخياليّة فأمدتها بالمادة الفكرية والثقافية التي حملت شيئاً من روح التجربة الشعرية.
    *
    ثالثاً- الثقافة الفلسفية:
    أمدت الفلسفة الرحلات الخياليّة بمادتها الفكرية وآرائها التي حملها الشعراء معهم في رحلاتهم وأرادوا التعبير عنها.
    * التأثّر بالفلسفة العربية:
    لقد كانت فلسفة أبي العلاء المعرّي، القائمة على التشاؤم ممّا في الحياة من شرور بالإضافة إلى الشكوك التي قضى حياته في غيهبها، أكثر هذه الفلسفات تأثّيراً في شعراء الرحلات الخياليّة.
    ولعلّ جميل صدقي الزهاوي أبرز شعراء الرحلات الذين تأثّروا بفلسفة المعرّي الشكوكيّة في مطوّلته ((ثورة في الجحيم)) فهو يظهر شكّه بقدرة الدين على صنع الحياة الأمثل للإنسان، ويجاهر بريبته في أسس المعتقد الديني كالبعث والجنّ والملائكة والصراط والله، ولا يدين إلاّ بدين العقل كما هو حال المعرّي، فيقول الزهاوي:

    غيرَ أنّي أرتَابُ في كلِّ ما قَدْ
    عَجَزَ العَقَلُ عنهُ والتّفكيرُ()

    وهو يردّد هنا قول المعري:

    كذبَ الظّنُّ لا إمامَ سِوى العقـ
    ـلِ مُشيراً في صُبحِهِ والمَساءِ()

    وقد أراد الزهاوي أن يعلي شأن فلسفة أبي العلاء المعرّي فجعله في مقدّمة الشعراء الملقين في جحيمه، فيقول:

    ثمَّ حيّانِي أحمدُ المُتنبّي
    والمعرّي الشّيخُ وهْو ضَريرُ

    وكِلا الشّاعِرينِ بحرٌ خِضمٌّ
    وكِلا الشّاعِرينِ فحلٌ كبيرُ()

    كما أنّ تقديم المعرّي كمحرّض على الثورة يؤكّد رؤية الزهاوي للدور الريادي الذي تقوم به الفلسفة في قيادة الثورة وصنع الحياة المثالية للإنسان، حيث لم يعد الدين- بنظره- قادراً على تحقيق الحياة الكريمة، لا سيما إذا تحوّل إلى وسيلة قمع وإرهاب وضغط.
    وقد أغنت روح المعرّي الفلسفية مطوّلة ((على بساط الريح)) إذ تتقارب الرؤيتان اللتان ينبثق عنهما المعرّي والمعلوف في نظرتهما إلى الإنسان والحياة وهي رؤية قائمة على السوداوية والتشاؤم، فيقول فوزي معلوف:
    قالَ رُوحٌ حَذارِ يا أَترابي
    واطردُوهُ
    عنِ السّماءْ
    هُو في الأرْضِ حَفنةٌ من ترابٍ
    فأبُوهُ
    طينٌ وماء

    هو مِن نفحةٍ كَفَتْ لتَجلّيـ
    ـهِ وتَكْفِي بذاتِها لاحتجاَبِهْ

    وكَما كَانَ أَصلُه مِن تُراب الـ
    أرضِ يَغدُو مَصيرُهُ لتُرابِهْ

    ليتَهُ عَادَ للثّرى مِثلما جَا
    ءَ نَقيّاً بنفسِهِ وإهابِهْ

    هُو يحيَا للشّرِّ فالشّرُّ يَحيا
    أَبَداً حَيثُ حَلّ شُؤمُ رِكابِهْ()

    فهو يرى الإنسان ابن التراب شريراً تفرّ منه كلّ أشكال الخير والبراءة من طيور ونجوم وأرواح في حين يرى المعرّي الحياة شقاء وتعباً لا جدوى من الإصرار على البقاء فيها لأنّها إلى فناء، فلو بلغ الإنسان منها ما بلغ فإنّ ساعة الموت ستنسيه كلّ السرور والفرح، فيقول:

    غيرُ مُجدٍ في مِلَتِي واعتقادي
    نوحُ باك ولا ترنُّمُ شَادِي

    وشبيهٌ صوتُ النعيِّ إذا قيـ
    ـسَ بصوتِ البَشيرِ في كلِّ نادي

    أبكَتْ تِلكُمُ الحمامَةُ أَمْ غَنَّـ
    م ـت على فَرِعِ غُصنِها الميَّادِ

    تَعبٌ كلُّها الحياة فَما أعـ
    ـجَبُ إلاّ مِن راغبٍ في ازديادِ

    إنَّ حُزناً في ساعَةِ الموتِ أضعا
    فُ سرورٍ في ساعَةِ الميلادِ()

    وتظلّ (على بساط الريح) (مجموعة قصائد عميقة المغزى مرتبطة بفكرة واحدة يغلب عليها التأمل والفلسفة، وهي نفثات شاعر يحسّ بأنّه مقيّد بجسمه إلى الأرض، لكنّ روحه تسرح في الفضاء الرحب بين الأرواح العلويّة الخالدة"().
    وقد اعتمد أنيس المقدسي في قصيدته (المعرّي يبصر) فلسفة المعرّي الشكوكية التي تستفسر عن الكون والموت والحياة والمخلوقات، حتّى إنّ الشاعر ليصرح ببناء مطوّلته على الفلسفة من عناوين الأناشيد فيقول: "قصيدة فلسفية في ثلاثة أناشيد: حيَر وشكوك، ظلام التشاؤم، تجلّي النور"(). ويصرّح بلقائه بالمعرّي الذي تحوّل من شاكّ إلى موقن يرشد الضالين بقوله:

    أنَا الأَعَمى الذي قَدْ كُنتُ قَبلاً
    حَليفَ البُؤسِ مثلَكَ والعَذابِ

    أهيمُ كَما تهيمُ شَقاً لأنّي
    ضَلَلْتُ عَن الطّريق المُستقيمِ

    بذا الوادِي شقيتُ وكَمْ نفوسٍ
    بهِ ذَاقَتْ مراراتِ الحَياةِ

    هجرْتُ المحبسينِ فصرْتُ حُرّاً
    أرى الدّنيا تَروقُ لناظِريّا().

    ونسيب عريضة من شعراء الرحلات الخيالية الذين أفادوا من الفلسفة العربية الإسلامية لا سيما تلك المتعلقة بالروح والنفس، إذ اقتربت رؤيته لها من نظرة ابن سينا للنفس فالأخير يرى أنّ النفس كانت تعيش في مكان عال وسامٍ تنعم بطمأنينة وهناءة لا مثيل لها، فعوقبت بالهبوط من ذلك المكان، لذا هي في شوق دائم إلى ذلك العالم الذي أهبطت منه (وهي فكرة اعتنقها أكثر شعراء الرابطة القلمية)(). لذا يقول الشاعر:

    أحنُّ شَوقاً إلى ديارٍ
    رَأيتُ فيها سَنىَ الجَمالِ

    أُهْبِطتُ منها إلى قَرارٍ
    أمْسَتْ بهِ الرُّوحُ في اعتقالِ()

    وقد كان حظّ محمد عبد المعطي الهمشري من الثقافة الفلسفية جيداً، لا سيما فلسفة المصريين القدماء حول قضايا الموت والحياة والخلود والروح.. وغيرها. وقد بثّ الهمشري كثيراً من أفكارها الفلسفية، حتّى إنّ محمد غنيمي هلال سمّى مطوّلته بـ: "الملحمة الفلسفية"().
    كما طغت الأفكار الفلسفية بطابعها العقلي الجاف على مطوّلة العقّاد "ترجمة شيطان" الأمر الذي دفع محمد مندور إلى وصفها بقوله: "فمنذ البداية تطالعنا طبيعة العقّاد الشعرية في جفافها العقلي وصياغتها النثرية وروحها التعليمية"() وقد اضطّر العقّاد بسبب هذه السيطرة الفلسفية والعقلية إلى شرح الكثير من الأفكار في الحواشي. فمثلاً يقول:

    عَلّمَ الأَقيالَ قِدماً سِرَّها
    فَأَقَامُوا ديِنَهُ في العَالمين()

    ويشرحها في الحاشية بقوله: "يريد كلف الملوك ببناء المعابد لتعزيز قوتهم بقوّة العقائد"() ويقول في موقع آخر:

    سنّةُ اللهِ وما أوسَعها
    رَحمةٌ مِنه بِجبَاري الأُمَمْ

    ويحهُمْ لو لم يكنْ أبدعَها
    كيفَ يدرونَ بأسرارِ النّقمْ()

    ويشرحها بقوله: "يقصد استجرار الملوك مخالفيهم للطعن بالدين وغيره ليقتلوهم به"().
    ونلمح آثار التفكير الفلسفي عند محمد حسن فقّي في قصيدته "الله والشاعر" و"الكون والشاعر" إذ عرض فيهما الشاعر فلسفته في الصراع بين الخير والشرّ والعفو والنقمة والرفعة والضعة.. إلخ، فيقول:

    وهلْ إذا الخيرُ أَتَاحَتْ لَهُ
    دُنيَاهُ مَا يكْفُلُ رجَحانَهْ

    يحاسِبُ الشّرّ على ما جَنتْ
    يَداهُ أمْ يمنحُ غُفرانَهْ

    كانَ مَديناً آدَهُ ديِنُه
    فما لَهُ يَرحمُ دَيّانَهْ

    أجنّ أم أشفقَ مِن ضَربةٍ
    تحطّمُ الكُفرَ وأَوثَانَهْ

    وكانَ يسْري خَائفاً في الدّجى
    يحاذرُ الشّرَّ ولُقيانَهْ

    لكنَّهُ الخيرُ حَلِيماً، فما
    أضلّهُ الحِلمُ ولا شانَهْ()

    * التأثّر بالفلسفة الغربية:
    لقد قرأ الزهاوي عن التركية كثيراً من آراء فلاسفة الغرب وعلمائه نحو مؤلفات (الدكتور ورتبات) في الفسلجة والتشريح، ثمّ كتاب "الكوميديا الإلهية" لدانته وديواني فيكتور هوغو الفلسفيين (الله) و(نهاية الشيطان) ثمّ قرأ بإعجاب ما كتبه الفيلسوف التركي (رضا توفيق) عن أدب (عبد الحقّ حامد) الفيلسوف التركي الشهير والمقارنة بين فلسفته وفلسفة هوغو(). وهذه الفلسفات من شأنها تمجيد العلم وتقديسه حتّى إنّها لا تدين بغير دين العقل، وقد ضمّن الزهاوي ثورته أسماء بعض هؤلاء الفلاسفة، حيث يقول:

    ثمّ إنّي سمعْتُ سقراطَ يُلقي
    خُطبةً في الجحيمِ وهْي تفورُ

    وإلى جنبهِ على النّار أفلا
    طونُ يُصغي كأنَّهُ مسرورُ

    وأرسطاليسُ الكبيرُ وقدْ أغـ
    رقَ منه المشاعرَ التّفكيرُ

    ثمّ كوبر نيكُ الذي كانَ قدْ أفـ
    همَنَا أنّ الأرضَ جُرم يَدورُ

    تتبعُ الشّمسَ أينَما هيَ سارَتْ
    وعليها مِثلَ الفراشِ تطورُ()

    ثمّ هِلكُ وبخترُ وجسندي
    ويليهمْ اسبنسرُ المشهورُ

    ثمّ توماسُ ثمّ فِخْتُ ومنهمُ
    اسبنُوزا وهلبَكُ وجيورُ()

    ونيوتونُ الحبرُ ثمّ رِنَانُ
    ثمّ روسو ومثلُهُ فولتيرُ

    والحكيمُ الكندي ثمّ ابنُ سينا
    وابنُ رُشدٍ وهو الحفيُّ الجَسورُ()

    وهكذا تبيّن بوضوح أثر الثّراء الفكري الفلسفي في إغناء الرحلات الخيالية ومدّها بالفكر والثقافة التي حملت في ثناياها هموم الأديب ورسمت موقفه من الحياة والفن والأدب كما أنّها قد تلوّنت بمشاعره العاطفية فكانت مرّة مشعّة بالتفاؤل والأمل وأخرى ملفّعة بالسوداوية والتشاؤم.
    رابعاً: الثقافة العلمية:
    وللثقافة بكلّ اتجاهاتها الفلكية والطبيعية والأدبية أثرها الواضح في الرحلات الخيالية فقد أمدّتها بمادتها الثقافية وأفكارها التي حملت روح التجربة الشعرية، فتحوّلت من مجرد أفكار عقلية تقريرية إلى رؤى تحمل المشاعر العاطفية وتتلوّن بالأحاسيس الإنسانية.
    وتأتي العلوم الفلكية في مقدمة هذه العلوم، فقد بنى الفراتي رحلته الخيالية "الكوميديا السماوية" على أساس هذه العلوم، وكان مطلعاً فيها، فقد ألّف تفسيراً للآيات الكونية في القرآن الكريم يتّفق مع أحدث النظريات العلمية في هذا الميدان، وله مؤلفات أخرى كلّها مخطوطة كان يخاف من نشرها لأنّه كان "يخشى أن يثير عليه علماء السوء في بلده فيحدث له أمور لا يرضى أن تثار بعد أن بلغ من العمر عتياً"().
    وبدا تأثّره في عناوين الأناشيد الفرعية، ومنها: حلم في المريخ، وما وراء الطبيعة، وكوكب العباقرة، وكوكب الزنادقة، وكوكب الشعراء، إضافة إلى أنّه يذكر أسماء ومقاييس ترتبط بهذه العلوم، فيقول:

    هَبطْنَا إلى المريخِ ليلاً فعاقَنَا
    عنِ السيّرِ في سِيسا الظّلامُ المُخَيّمُ

    و(سِيسا) بلحنِ القَومِ فيما عرفْتُهُ
    عُبابُ خِضمّ بالمخاطرِ مُفعَمُ()

    وفي موضع آخر يقول على لسان الرجل المريخي "رفائيل":

    عبدْنَا القُوى حيناً ومن جُملة الّذي
    عبدْنَا (سيا رابا) و(هيتا) و(مي سم)()

    و(سي رابا): معناها الأكبر أي ابن الشمس و(يريد به المشتري).
    و(هيتا): معناها الملوّن و(يريد به زحل).
    و(مي سم) معناها مي: الشديد، سم: البعد، أي شديد البعد
    و(يعني به نبتون).
    وفي استخدامه للقياسات الفلكية يقول عن تلسكوب صنع في كوكب هيدا:

    ويقربُ طُولُهُ مِن ألفِ (كادِ)
    بقطرٍ زادَ عنْ مِئتي (جَريم)

    وفي أنبوبهِ تَلقَى مِآتٍ
    من العَدساتِ كالدّر النّظم

    فمنْ موشُورةٍ لمحدّباتٍ
    إلى أُخرى بِسطْحٍ مُستقيمِ()

    الكاد: قياس يساوي متر ونصف المتر تقريباً.
    الجريم: دسيّ متر أي: عشرة سنتمترات.
    وشاعر آخر بنى رحلته الخيالية على فكرة فلكية مفادها توقّع وجود حياة عاقلة على كوكب المريخ، وقد أراد الشاعر رشيد أيوب أن يتأمّل بعين روحه هذا الكوكب ويعرف مدى صحة ظنون العلماء. فارتحل على جناح الخيال وأفرد لروحه العنان فحلّقت تطوف أرجاء ذلك الكوكب عسى أن يلقى الإجابة عن تساؤلاتها فيقول:

    يقُولونَ في المرّيخِ قَومٌ كشكلِنَا
    أناسٌ لَهُمْ عَقلٌ يُناجي كعقلِنَا

    فهلْ أصلُهُمْ نوعُ التُّرابِ كأصلِنَا
    وهَلْ يَجهلُونَ الكائِنَاتِ كجهلِنَا()

    ولكنّه في النهاية يؤكد وجود حياة روحية مثالية ليست كحياة الأرض، فيقول:

    كأنّي شاهدْتُ الجِنانَ وآلها
    وهَيهاتَ أنسى عزّها وجَمالَها

    هنالِكَ أشباحٌ تمنَيْتُ حالَها
    فسبحانَ مَن أهدى إليها جَمالَها

    مُسربَلةٌ بالحسنِ واللّطفُ واسِعُ()

    وثورة الزهاوي في الجحيم كانت ثورة للعلم والفلسفة ضد الميتافزيقيا الدينية. وقد تأثّر الزهاوي إجمالاً بمعطيات العلوم في عصره حتّى غلبت الروح العلمية على شعره(). فتأثّر بمطالعاته لمجلّة المقتطف المصرية التي أخذت تصل بغداد تباعاً فيجد فيها ضالته من الأبحاث العلمية والفلسفية زد على ذلك كلّه مطالعاته لكتابات الدكتور ورتبات في الفسلجة والتشريح، ولا يخفى على أحد تأثّره الواضح بتلك العلوم في ثورته الجحيمية، وثورته على العقل الغيبي بقوله:

    قلتُ لله في السَماوات والأَرْ
    ض وما بينهُنَّ خلقٌ كثيرُ

    غيرَ أنّي أرتابُ في كلّ ما قدْ
    عَجزَ العقلُ عنهُ والتّفكِيرُ()

    أو نحو قوله:

    ما لكلِّ الأكوانِ إلاّ إلهٌ
    واحدٌ لا يزالُ وهْوَ الأثيرُ

    ليسَ بينَ الأثيرِ واللهِ فرقٌ
    في سوى اللفظِ إنْ هداكَ الشّعورُ()

    فالأثير: مصطلح علمي فيزيائي يطلق على الهواء الذي يحمل الموجات الصوتية، ولولا معرفة الزهاوي بمثل هذه المصطلحات العلمية لما أطلقها هنا في قصيدته.
    ونلحظ في جحيمه معظم الشخصيات العلمية والفكرية والفلسفية في العالم على خلاف ما وضع دانته في جحيمه، إذا كان نزوع الأخير سياسياً دينياً، أمّا الزهاوي فنزوعه علمّي فلسفيّ. لذا وضع هذه النخبة من العلماء، فيقول:

    ثمّ كوبرنيكُ الذي كانَ قدْ أفـ
    همَنا أنّ الأرضَ جُرْمُ يدورُ

    تتبعُ الشّمسَ أينما هيَ سارتْ
    وعليها مِثْلُ الفِراشِ تطورُ

    ثمّ دروينُ وهْوَ مَنْ قَالَ إنّا
    نسلُ قردٍ قضتْ عليهِ الدّهورُ()

    أما الذي استفاد من العلوم والتقنية في تجربته الشعريّة فائدة تناسقت مع روحه الشاعرية، وحملت التجربة الشعورية بصدق انفعالاتها فهو عبد الفتاح روّاس القلعجي في ملحمته الشعرية القيامة. فالشّاعر يوجّه من اللحظة الأولى اتهامه إلى النزعة المادية التي دفعت بالعالم إلى نهايته الحتمية، لذا كثرت في ثنايا ملحمته المصطلحات العلمية والتقنية فيقول:
    وتشقّقتِ الأرضُ، تصاعدَ منها نارٌ ودُخانٌ
    ومصانعُ نوويهْ
    تنفثُ في الأجواءِ سَحاب الموتِ().
    وفي محل آخر يقول:
    خُيّلَ للإنسانِ السّامريّ
    أنْ قدْ عرفَ السّرَ الأسمَى في التركيب الذّري الخلوي
    ومعادلةَ الروحِ
    وفعلَ الخلق
    وصبغيّات الخلدِ()
    وليس أدلُّ على ذلك ممّا سيعرض في هذا المقطع الذي يوحي بمدى اتساع المادة العلمية التي أغنت ملحمة الشاعر، وأراد من خلالها أن يوّضح مدى قدرته على استيعابها وتحويرها بطريقة شعرية إلى رموز فعّالة يشير بها إلى الحياة المادية العمياء بالتهمة في إفساد سعادة الإنسان فيقول:
    الشّيطانُ الآلةُ: إنّي الرّبُّ
    اسجُدوا عند أقدامِي
    فأَنَا الرّبُّ الفولاذيْ
    الشّيطانُ الآلةُ: لي أعوانٌ
    آلهةٌ أجزاءٌ منّي
    الأرقامُ /النترونُ/ الإشعاعُ الذّرّيْ
    السّرعةُ والكتلةُ والزّمنُ النّسبيّ
    النبذُ /الجذبُ/ الحدثُ النّجميْ
    ... /.../ الكمُّ الكليْ
    همُ آلهةُ العقلِ الإنسانِي الأعلى()
    خامساً: الثقافة الأدبية:
    كما أفاد الشعراء من الثقافة الأدبية والتراثية في بناء بعض الرحلات الخيالية، "فحلم الهراء" في مطوّلة عبقر بناه شفيق معلوف على قصة رواها صاحب الأغاني عن نبوّة أميّة بن أبي الصّلت. وبمقارنة بسيطة بين القصتين نلمس التأثّر الواضح بينهما. وملخّص القصة عند شفيق أنّ الشاعر ينام لينشق السقف عن طائرين يجثمان بالقرب منه، فيقترب أحدهم ويبضع صدره ليخرج قلبه فيجده قد جبل على الشرّ والرياء والحسد وقد بات مأوّى للنقائص، فيعيده ويستيقظ الشاعر ليجد الخواء في روحه، فيقول:

    ومالَ مَغلوباً على أَمرِهِ
    أميّةُ وغَلّ في مضجَعِهِ

    فكشَفَ الطّائِرُ عَن صَدرِهِ
    وأَرجَعَ القَلبَ إلى موضعِهِ

    حتّى إذا أميّة أضحَى
    ألوى بكفيهِ على جنبهِ

    فلمْ يجدْ دَماً ولا جُرحاً
    لكن أحسَّ الجرحَ من قلبهِ()

    أمّا رواية الأغاني فتقول: "دخل يوماً أميّة بن أبي الصّلت على أخته وهي تهيّئ أدماً لها فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت قال: فانشقّ جانب من سقف البيت وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه، فشقّ الواقع صدره فأخرج قلبه فشقّه، فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره: أوعى؟ قال: وعى. قال: أقبل؟ قال: أبى. قال: فردّ قلبه في موضعه فنهض فأتبعهما أميّة طرفه فقال:

    لبيكما لبيكما
    هأنذا لديكما

    لا برئ فأعتذر ولا ذو عشيرة فأنتصر، فرجع الطائر على صدره فشقّه ثمّ أخرج قلبه فشقَه، فقال الطائر الأعلى: أوعى قال: وعى، قال: أقبل؟ قال: أبى، ونهض، فأتبعهما بصره، وقال:

    لبيكما لبيكما
    هأنذا لديكما

    لا مال يغنيني ولا عشيرة تحميني، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقّه ثمّ أخرج قلبه فشقّه، فقال الطائر الأعلى: أوعى؟ قال: وعى. قال: أقبل؟ قال: أبى، ونهض فأتبعهما نظره، وقال:

    لبيكما لبيكما
    هأنذا لديكما

    إن تغفرِ اللّهمّ تغفرْ جمّا
    وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألمّا

    قالت أخته: ثمّ انطبق السقف وجلس أميّة يمسح صدره. فقلت يا أخي: هل تجد شيئاً؟ قال: لا، ولكنّي أجد حرّاً في صدري فأنشأ يقول:

    ليتني كُنْتُ قَبلَ ما قَد بدا لي
    في قنانِ الجبالِ أرعَى الوُعُولا

    اجعلِ الموتَ نُصبَ عينيكَ واحذَرْ
    غَولةَ الدَّهرِ إنّ للدّهرِ غُولا()

    ويبدو أنّ الأصفهاني قد ترك الرواية مفتوحة للاحتمالات في حين أنّ شفيقاً تصرّف بالرواية وأنهاها نهاية فقيرة إلى الإيحاء الشعري كما افتقرت إلى الحوار بين الشاعر والطائرين ممّا يقرّبها من التقريرية.
    وقد أفاد الفراتي من ثقافته الفارسية في "الكوميديا السماوية" حين وضع بعض الأبيات الشعرية على لسان رفائيل وهي:
    "آرشما بندي جمين موزاد مورردي بارمئي صان دندو ما سمى دوصاند داجنداد جنار" وترجمتها: يا نجوم السماء من شموس وسيّارات وأقمار ليت شعري ما الذي أعجبكن فاجتذبتن إليكن روح الراحل الكريم قبل أن يميط عنكن اللثام"(). وقد أثرت هذه الثقافة الفارسية الكوميديا بأسماء الشخصيات والكواكب وغيرها.
    وهكذا أسهمت الثقافة العلمية والفلسفية والأدبية واللغوية في مدّ الرحلات الخيالية والمادة الفكرية التي حملت روح التجربة الشعرية تارة، وبدت جافة تقريرية في أحداث أخرى.

  2. #2
    من المشرفين القدامى
    تاريخ التسجيل: January-2017
    الدولة: لا وطن
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 9,197 المواضيع: 893
    التقييم: 1450
    مزاجي: احبكم كلمة متفارك لساني
    المهنة: معماري
    أكلتي المفضلة: .....
    موبايلي: Galaxy S5
    شكرا على هالطرح
    عاشت ايدك

  3. #3
    من أهل الدار
    تاريخ التسجيل: December-2018
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 5,089 المواضيع: 643
    صوتيات: 0 سوالف عراقية: 5
    التقييم: 5850
    مزاجي: مرح
    أكلتي المفضلة: طائر البط البري
    موبايلي: هواوي بي ٣٠
    آخر نشاط: 28/April/2024
    مقالات المدونة: 24
    عاشت الايادي

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال