الفصـــــــل الثاني

دوافع الرحلات الخيالية

أولاً : الدوافع الوجدانية
ثانياً : الدوافع الاجتماعية والسياسية
ثالثاً : الدوافع الفنية





دوافع الرحلات الخيالية


أوّلاً: الدوافع الوجدانية
* حلم الحريّة:
لقد أراد الإنسان منذ أن خلقه الله إيجاد أدوات تضمن له البقاء والاستمرار في هذه الحياة، لكنّ هذه الحاجة لم تدفعه يوماً إلى إهمال روحه إلاّ عندما ازدادت أدواته تعقيداً، فصار واضحاً لديه أنّ للحضارة تأثيراً ضاراً على حياته الفكريّة والروحيّة، لما تخلّفه هذه الحضارة من أسباب الصراع المادي الذي خلّف وراءه أمراضاً نفسية وعقداً كثيرة.
لهذه الأسباب حلم بعض الشعراء بالابتعاد عن الواقع والغور بعيداً في ذواتهم أو الهروب إلى عوالم بعيدة يحقّقون فيها ما تصبو إليه أرواحهم المثقلة بأعباء الحياة الراسفة في قيود الماديّة، ويوجّهون النقد لأبناء مجتمعاتهم الذين انحرفوا عن المهام الجليلة التي خلقوا لأجلها، وكلّهم أمل أن يحقّقوا صورة الإنسان النقي البريء.
وقد كانت الحريّة هاجس فوزي معلوف الذي انطلق على أداة من أدوات الحضارة (الطيّارة) يروم الخلاص من واقعه، وعندما صار في الجوّ خفّت روحه وتطلّعت إلى كسر أغلال المادة وتحطيم قيود الجسد الذي أذاقها مرارة الكآبة والعبودية، حتّى بات الشاعر عبداً لكلّ ما حوله في الحياة، فيقول:
بينَ رُوحِي وجِسمِي الأَسيرِ
كانَ بُعْدٌ
ذُقْتُ مُرَّهْ
أَنَا في الأرْضِ وَهْي فَوقَ الأثيرِ أنا عَبْدٌ
وهْي حُرَّهْ()
فهذا المقطع يعبّر عن ذروة المعاناة الإنسانية عندما يستحوذ حسّ العبوديّة على الشاعر، لذا كان مطلب الحريّة وسيلة للارتقاء فوق الآلام، فوق الأرض التي يغطّي الشقاء كلّ بطاحها.
ويتجلّى الحلم في سيرورة الوحدة العضويّة للقصيدة، وهي تعبّر عنه في أناشيدها الأربعة عشر. ففي النشيد الأول يحدّد الشاعر أدوات وجوده الروحيّ باستخدامه ظروف المكان المعبّرة عن الفوقيّة، فيقول:
في عُبابِ الفَضاءِ فَوقَ غُيومِهْ
فَوقَ نَسْرِهْ
ونَجْمَتِهْ

أنْزلَتْهُ فِيهِ عَروسُ قوافِيْـ
ـهِ بَعيداً عن الوُجُودِ وَظُلمِهْ()

ثمّ يصرّ على ما تلهج به نفسه من الانطلاق والحريّة، فيجعل النور موكباً له، ويتّخذ من الفضاء مسرحاً لسطوته وسلطانه، ثمّ إنّه يتردّد في بقيّة الأناشيد بين الأمل الطامح والواقع الثقيل، وربّما لجأ إلى الرمز مرّة وإلى التصريح مرّة أخرى، لكنّ مجموع الأناشيد يشكّل كلاً واحداً تمثّله الرغبة الطامحة إلى الانعتاق والحريّة، والروح الشاعرة وحدها القادرة على تحقيق هذه الغاية، فهي الروح الخلاّقة التي أرهفت سمعها لتصغي إلى أنغام الخلود العلويّة، فهي روح لا يقربها الإثم أو الشرّ، لذا يتوق الشاعر للوصول إليها عندما يجد نفسه يجوز الفضاء ويتخلّص من قيوده الأرضية، فيقول:
يا طُيورَ السَّماءِ في الرِّيحِ رُوحِيْ
بي جَرْياً
عَلى الجَلَدْ
وبِجِسمِي طِيرِيْ إلى حَيْثُ رُوحِي
فيهِ تَحْيَا
بِلا جَسَدْ()
لكنّ الحلم لا يأتي كما تشتهي النفس وتحبّ فلابدّ ممّا ينغّص عليه سعادته إنّها عقدة الذنب لكونه ابناً للحضارة الماديّة التي تلاحقه في كلّ منزل ينزل فيه وتحول دون تحقيق التوافق بينه وبين الطيور والنجوم والأرواح إلى أن تنبري روح الشاعر المتحرّرة من الجسد لتعانق هذا الشاعر الذي طالما اشتاقت للقائه، فيقول:

هِيَ رُوحي جَاءتْ تُخلْصْني مِنْ
غَضَبِ العَالَمِ الفَخُورِ بشَمْسِهْ

طَوَّقَتْنِي بِكلِّ عَطْفٍ وصَاحَتْ
أَخْواتِي: رِفْقاً بِهِ وببُؤسِهْ

إنَّ بينَّ السَّريرِ والنَّعشِ خُطوا
تٍ دَعَوْهَا الوُجُودَ وهْيَ بِعكْسِهْ()

وفي تلك اللحظات تشرق الروح وتتحقّق هواجس الشاعر وتختصر المسافات وتتضاءل المجرات، فتصير المادة ظلاً هزيلاً باهتاً لا قيمة له ينظر إليها الشاعر باحتقار وازدراء، فيقول:

ونَرَى الطَودَ في السُّهولِ كمَا تُبْـ
ـصِرُ فَوقَ التُّرابِ ظِلَّ حَصَاتِهْ

ونَرَى المَوجَ في الخِضَمِّ كمَا تَلْـ
ـمَحُ جَوّاً والسُّحبُ في مِرآتِهْ()

*
ويستحثّ حلم الحريّة الشاعر محمد حسن فقّي في قصيدته ((الكون والشاعر)) حيث يستنهض الشاعر عرائس الشعر لتعرج بروحه بعيداً عن الأرض التي ملأ الشرُّ أرجاءها بعد أن صال على الخير صولة غادرة تركته صريعاً، فيقول:

عَرَّجْتَ بالرُّوحِ إلى عالمٍ
أَنْكَرَ فِيهِ الرُّوحُ جُثْمَانَهُ

حَلَّقْ بِنَا فالأرضُ مَوْبُوءَةٌ
وطُفْ بنا الجوَّ وَسُكّانَهُ

تنَمّرَ الشَّرُّ بِها عَارِمَاً
فَجَنْدَلَ الخَيرَ وَأعْوَانَهُ()

وهو ينعى على الناس استحواذ الشرّ عليهم، وما على الشاعر إلاّ الفرار بروحه بعيداً لتخفّ في عالم الطهر والنقاء وتتخلّص من الأحقاد والضغائن. وفي الفضاء يلتقي الشاعر بعالم العجماوات من طيور وغيرها ثمّ ينطلق إلى عالم النجوم فالملائكة، وهناك يقارن بين هذه المخلوقات بفطرتها وبراءتها وبين الناس الذين يحكمهم قانون الصراع من أجل البقاء والتناحر والتنافر، فيقول:

الزَّيفُ في النَّاسِ وأَمّا هُنَا
فالطَيرُ لا يَخْدَعُ إِخوانَهُ()

ويعزز الشاعر الفقي الرؤية التي لمسناها عند فوزي معلوف حين يرى أنّ الإنسان يرقى بصفاته ونقائه إلى ما لا تصل إليه نفس أيّ إنسان راسفة في أغلال اللحم ومطالب الجسد، كما يؤكّد خصوصيّة الشعر في تحقيق هذا الحلم الذي يرنو للوصول إليه، فيقول:

قَالَ مَلاكٌ إِيهِ يا شَاعِري
مَاخَانَكَ السَّعيُ ولا خَانَهُ

فإنَّما الفِردوسُ في عَالمٍ
تصوِّرُ الأحلامُ ضُحيانَهُ

سَوْاءٌ الأرضُ وهَذِي السَّما
إنْ لم يُنَقَّ الرُّوحُ أدرانَهُ()

ويعود الشاعر الجسد إلى الأرض ليعاني آلام العبوديّة من عبوديّة جسد وقوانين وحاجات ماديّة، ولتبقى الروح محلّقة في سماء الحريّة لا تعرف ذلاً أو هواناً، ويبقى الشاعر الفقّي أكثر تفاؤلاً من فوزي معلوف لأنّه يؤمن أنّ الخير سينتصر على الشرّ وأنّ الشعر سبيل إلى تحقيق حلم الحريّة والخلاص، فيقول:

تَبَاركَ اللّهُ فَكَمْ شَاعِر
يُطَاوِلُ المُلكَ وتيجانَهُ

لمْ يَعرِف الذّلَ ولا قَينَهُ
ولا وَعى المكرَ وأشْطَانَهُ

فعَاشَ لا يُرهِبُهُ دُهْرُهُ
إِسْرَارُهُ شَابََ إِعْلانَهُ()

*
وهكذا ظلّت الحريّة والخلاص من هموم الواقع هاجساً يحرّض الشعراء ويدفعهم حثيثاً للمضيّ قدماً في رحلاتهم الخيالية عسى أن يحققوا ما فقدوه في عالم الناس، غير أنّ هذا الحلم تلفّع بالسوداويّة والتشاؤم عند فوزي معلوف، في حين أخذ مسحة من التفاؤل الديني عند محمد حسن فقّي.
* الحيرة والقلق:
ويمثّل نسيب عريضة في رحلته ((على طريق إرم)) القلق وظاهرة الاغتراب الروحي التي تكشف عن توق الشاعر في رحلته الخيالية إلى التماس أدوات وجوده وحاجاته التي تحقق كنهه الإنساني الحرّ. ولعلّ المعرفة أرقى هذه الأدوات التي يبحث الشاعر عن شعلتها. ولكي يصنع الشاعر ذلك خلق عالماً غرائبياً خفيّاً وكوّن لذلك ركباً يحمل ظعنه، وما إن يبدأ بالمسير حتّى تستحوذ عليه الحيرة والتردّد فالطريق مليء بالعثرات والحيرة تنشر شباكها في كلّ مكان، فيقول:

أهيمُ في الدُّجَى مثلَ أعمَى
جَاعَ ولا يُحسِنُ السُّؤالْ

يَهُزُّنِي في الدُّجَى حَنينٌ
إلى الذي مَرَّ من وِصالْ

هَلْ مِنْ سبيل إلى رجوعٍ
هَلْ من طريق إلى وُصُولْ

تَهيمُ نَفسي ولسْتُ أَدْري
بحاصِلٍ أو بمُستحيلْ

يا صَاحِ قَد حِرتُ أينَ أمضي
والسُّبْلُ ضّلَّتْ عَن الضّلولْ()

ويظلّ الشاعر أسير الشكوك والحيرة وهما يغذّانِ من روحه حتّى يجعلا منها قفراً عظيماً تنوح فيه الأماني اليائسة والأوهام، فيلوذ الشاعر إلى الحلم والخيال وسيلة يرأب بهما الصدع الذي تركته الحيرة في نفسه، فيقول:

وَولْوَلتْ في الدُّجَى شُكُوكي
ورفْرفَتْ أَجنحُ الخَيالِ

واستأثَرَ الحُلمُ باختيارٍ
وطَارَ هَمّي بلا عِقالِ

فعُدْ بنا يا سَميرَ حُزنِي
نقنَعْ من الأرضِ بالخيالِ()

ويبلغ القلق مبلغه من الشاعر في بحثه عن وسيلة للخلاص من أوهام نفسه حتّى ليغلب الاستفهام على أسلوبه في التعبير عن رغبته في الوصول إلى نبع الإلهام، فيقول:

قَدْ سَريْنا فهلْ شُروقُ
أيّها الفَجرُ هَلْ تفيقُ

مَن يطيقُ الذي نُطيقُ
أينَ ذا تنتهي الطَريقُ

قَدْ بَرانا اللّغوبْ
واعتَرانَا الشُّحوبْ()

لقد كان القلق والحيرة دافعاً حدا بالشاعر إلى الرحيل بعيداً إلى عالم الخيال، ولكنّنا سرعان ما نرى القلق والشكّ سلاحاً قاضياً يلجأ إليه ركب الشاعر في رحلته للخلاص من قائد الركب ((العقل)) الذي سام الركب أمض العذاب فكان الشكّ لجاماً يحدّ من عجبه وتيهه ويسلّط عليه جيشاً عرمرماً من الظنون فيغادره صريعا فيقول:

أَجَابَهُ الشَّكُّ مَهلاً
كَفاكَ تَيهاً بِمَهْمَهْ

فأقْبَلَ العقلُ يَصْأَى
غَيظاً بوَجْهٍ مُشوّهْ

وقَال: مَهْ! فَأَتاهُ
رَجْعُ الصَّدى، قَائلاً: صَهْ

وأطلقَ الشَّكُّ جَيشاً
مِنْ الظْنونِ وَجهجَهْ

فَفَرَّ عقلي جَباناً
وجُنَّ خَوفاً وقَهقَهْ()

ويبقى الشاعر مصرّاً عى المضي قدماً في رحلته متوسلاً بشتّى الأدوات والمطايا متجاوزاً كلّ الأشواك والعقبات التي تساقط أمامها أفراد ركبه واحداً تلو الأخر حتّى مايبقى إلاّ روح الشعر المفعمة بالأسى تبكي أطلال الركب فيحاورها الشاعر بحوار تلقي عليه العاطفة الحزينة ظلالاً متسربلة بالتشاؤم، فيرى كلّ نفيس وثمين في حياته يعود لسراب وخواء، فلا مرشد له في رحلته إلى طريق النور إلاّ نفسه التي يلوذ إليها يستحثّها أن تستنهض عرائس الشعر لتصل به إلى الأمل المنشود، فيقول:

يا نَفسُ رِفقاً ومَهْلاً
فأنتِ ظعْنِي ورَحْلِي

طرْحْتُ كلَّ رِحالِي
إلاّك مازِلْتِ حِملِي

تعلِّلِي بِسُكُوتٍ
وعلَّليني بجَهلِي

فاصمِتْ وسِرْ في السِّكونِ
على طَريق الجُنونِ

لعلّهُ بعدَ حينٍ
يَبدُو لنا وَجهُ ربّي()

إذن فما ذلك المكان الذي يبدو للشاعر فيه وجه ربّه؟ إنّه- ولا شكّ- ذلك النور الذي تُشعّ به نار إرم، تلك النار التي اتقدت في روح الشاعر، فصهرت ما فيها من أوهام الحيرة والشكّ، فهي سبيل الخلاص والمعرفة، فيقول:

تِلكَ نَارُ الخُلودْ

ضَلَّ عَنها الأَنامْ
واستَحبُوا الظَّلامْ()

والسؤال الذي يُطرح هنا ما سبب اختيار الشاعر للنار رمزاً لشعلة المعرفة؟ ويذكّر هذا السؤال بقول لديمقراطيس ((إنّ الكون من عناصر أربعة: التراب والماء عنصران وضيعان، والهواء والنار عنصران شريفان))().
فللنار فضل على التراب، لأنّ الجسد مصيره إلى تراب أمّا الروح فتبقى حرّة كما هي حال النار توحي بالحيوية و((تعطي الانطباع بالقوِّة والطاقة والرشاقة والإشراق... وحين نستخدم النار رمزاً نصف التجربة الداخليّة المتميّزة بالعناصر نفسها التي نلاحظها في تجربة النار الحسية))() لهذا وصف نسيب عريضة نار إرم بأنها نار الخلود لأنّها شعلة الروح التي تمنحه قوّة وحيويّة ونشاطاً وإشراقاً يخلّصه من القلق والحيرة ويلازمه في حياته إلى أن تنطفئ جذوة هذه الروح في صدره ويصير تراباً، يقول:

إِيهِ ضَوئِي البَعيدْ
لُحْ ولُحْ ما تُريدْ

لَيسَ طَرفِي يَحيدْ
عَنكَ حتْى يَعُودْ

لتُرابٍ ودُود()

وقد دفعت الحيرة والشك أنيس المقدسي إلى الاندياح عميقاً في أغوار نفسه يجلو الصدأ المتراكم عن ذيّاك النور الذي حجبته غشاوة الحياة الماديّة، فألقت به في دياجير الوهم والشك والقلق.
ينظر الشاعر في الكون نظرة الباحث القلق المضطرب لعلّه يهتدي إلى شيء من نور الحقيقة فيكرر المطلع اللاهج بنبرة الاستجداء والبحث، فيقول:

أعيريني الضّياءَ مِنْ النّجُومِ
مُكوَّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَديمِ()

ويقوده التساؤل إلى الحيرة التي ساقت عريضة قبله للارتحال، ولكن ثمّة أسئلة تطرح نفسها عن أسرار الكون وما فيه من خلائق وموجودات فيقول:

مَنِ الإِنسانُ ما هَذي البَرايَا
ومَا في الكَونِ مِنْ سِرِّ بَهيمِ

ومَاذا في السَّماءِ وفي الدَّرارِي
فهلْ فِيهنَّ مِنْ عَقلٍ عَليمِ()

ويستعين الشاعر بعقله وقلبه للاهتداء إلى حقيقة الحياة فلا يسعفانه فيما يروم فيرتدي التشاؤم وشاحاً يغلّف رؤيته لهذا الوجود، فيقول:

وكَمْ بيني وبينَ الحقِّ سُترٌ
تَكَشّفُ عن ملايين الستورِ

سأحيا ما حَييتُ ولَيس نورٌ
لعينِ العقلِ في العُمرِ القصير

ومَا للقَلبِ من أملٍ فيرجو
ولا فجرٌ لذا اللّيل العَميمِ()

وفي هذه اللحظات من الضياع يجد الشاعر أنّه لا مناصّ من الرحيل عميقاً في أغوار النفس ليلتقي صديقاً قديماً كانت الأوهام والشكوك قد نهشت قلبه، وخلّدت معاناته من خلال فلسفة رسمت ملامح حياته حتّى اشتهر بها إنّه رهين المحبسين وفيلسوف المعرة أبو العلاء المعرّي. ولكنّه يلوح للشاعر أطلال شبح عرض لعابري طريق البحث والخلاص مبدياً أسفه عمّا أمضاه من عمره في وهم وسراب وشكوك لذا نذر نفسه هادياً يرشد كلّ من ضلّ السبيل.
عندها يتابع الشاعر سيره إلى حيث النور يتلألأ في الأعالي وينجلي ظلام الوهم والشكّ الذي أخرج الشاعر إلى دنيا الخيال، فيقول:

فَيا نُوراً تَلألأ في الأَعَالِي
بَعيداً عن يَقينِ ذَوي اليّقينِ

إليكَ أتيْتُ في ظُلُماتِ نَفسِي
لِتَهدِينِي إلى الحَقِّ المُبينِ

لَعلّي بالِغٌ بكَ في حياتي
مَقاماً ليسَ يُبلَغُ بالعُلومِ()

إذن فقد كانت الحيرة والقلق دوافع مشتركة دفعت ببعض شعراء الرحلات الخياليّة إلى الرحيل بعيداً عن واقعهم في محاولة البحث عن الخلاص ممّا أحاط بهم من واقع متردّ وهموم حملتها النفوس، وقد تمايزت الحلول، فنسيب عريضة وجد الخلاص في المعرفة والكشف الروحي، في حين وجدها أنيس المقدسي في تطهير النفس واستخلاص جوهرها السامي المتمثّل في الحبّ سبيلاً للسعادة البشرية المنشودة.
***
* الخوف والرهبة:
كثيرة هي المشكلات التي تواجه الإنسان فتحاصره، ويحاول جاهداً الخلاص منها والسيطرة عليها، ولعلّ الموت أخطر هذه المشكلات، فهو السيف المسلّط على عنقه لا يستطيع الفكاك منه، لذا سرعان ما صنع الإنسان لنفسه أساطير غامر فيها باقتحام العالم السفلي ليواجه الموت والصمت والوحشة والاهتراء واليباب والعفونة كما فعلت الربّة ((إنانا)) في الأسطورة السومريّة و((عشتار)) في الأسطورة الآكاديّة وجلجامش وأوزريوس وأوديسيوس وإينياس...
وقد أرّق هذا الخوف من الموت الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري فأقضّ مضجعه، ولذلك أحبّ الحياة وتشبّث بها، وهو في رحلته الخيالية يبعث صورة الحياة في أرجاء عالم الموت، تارة بصورة النور وأخرى بموسيقا الألحان وثالثة بصورة الثلوج، وكأنّه يريد أن يؤكّد لنفسه أنّه يرى الحياة ويسمعها ويحسّ بها، ويحاول الشاعر بالحبّ وسيلة أن يبدّد مخاوفه من الموت الذي ملأ قلبه رهبة وخوفاً حتّى يستغيث بالحبّ قائلاً:

أَيُّها الحُبُّ أَنْتَ للمَوتِ مَوتٌ
ذُو غِلابٍ عَلى البِلى مُستَخِفُّ

أنتَ صِنو الحَياةِ وَارِثِةِ المو
تِ ونُورٌ على الإِلهِ يَرفُّ()

إذاً فالقصيدة ((تجسّم لنا شعور الرغبة في الحياة والخوف من المجهول وهو شعور قديم حاول الإنسان منذ القديم أن يعبّر عنه فوضع من أجل ذلك الأساطير المختلفة))() وهذا ما عبّر عنه فرويد باسم غريزة الجنس في مواجهة الموت، ولهذا خرج الهمشري مرتحلاً على جناح الخيال ليصنع لنفسه عالماً خاصّاً بالموت يطهّر من خلاله نفسه ويتجاوز بوساطته محنته ومعاناته ومخاوفه. وقد تفنّن الشاعر في رسم صور كثيرة للموت تمثّلت مرّة في سفن الموت التي تحمل بقايا الأرواح إلى الشطّ وصورة قيثار الموت وقبر الليالي وبحر الوقت ليصل بهذه الصور إلى ذروة المعاناة، فيصيح بلهفة المفجوع:

رَبِّ أينَ المَفرُّ منها، وهَذا
شَبَحُ المَوتِ قَدْ أطَالَ حِرانَهْ

هِي هذِي السَّفينُ تمضِي عِجَالاً
مُسرعَاتٍ تَجري عَلى التّيَّارِ

تتلاشى في بعْضِها ثُمَّ تَحيَا
لتُعيدَ التّمثيلَ في الأَعمَارِ

وَا لِهذا الفَناءِ!.. وَالهِواهُ
وَا لِهذا القَضاءِ والأَقدارِ()

لقد مثّل الهمشري في رحلته الأسطوريّة تلك نمطاً مكرّراً للإنسان الذي دفعه لا وعيه الجمعي في هذه الرحلة ليجدّد فعل أسلافه الأسطوريين أمثال أوزوريس ابن الشمس وجلجامش وعشتار وإنانا وأوديسيوس وإينياس في البحث عن وسيلة لتطهير النفس من مخاوف الموت ورهبته.
***
* القهر الاجتماعي:
لعلّ عقدة أخرى لا تقلّ عن عقدة الموت هي الشعور بالقهر الاجتماعي الذي يمثّله قول طرفة بن العبد في معلقته:

وَظُلمُ ذَوي القُربى أشدُّ مَضاضةً
على المرء من وَقع الحُسام المُهنَّدِ()

ومحمد الفراتي شاعر عانى كثيراً في حياته من انتقاص الناس لقدره ومكانته، ولا سيما في بلده، فلم يحظ بكبير الاهتمام من الأوساط الأدبيّة، والاجتماعيّة الأمر الذي دفعه لاعتزال الناس قرابة ربع قرن، وقد كتب الفراتي ((الكوميديا السماوية)) في هذه الفترة، وربّما أراد منها أن يعوّض نفسه عمّا هضم الناس من حقّها، وأراد أن يبرز قدرته في قرض الشعر ومجاراة الأغراض الجديدة والمعاني المستحدثة، وقد تجلّى هذا الإحساس في قصيدته ((في حانة إبليس)) وفي قصيدته ((غرور الشباب)).
إنّ ما يسيطر على حسّ الفراتي في قصيدته ((في حانة إبليس)) هو محاولته بشكل خفر تارة، وبصورة واضحة تارة أخرى، إثبات علو كعبه في الشعر لا سيما أنه قد حاز صولجان الشعر من شيخ شياطين الشعر إبليس، فيقول:

أتدرِي فِيمَ جِئنا بِـ
ـكَ في ذَا اللّيلِ مِن أهلِكْ

فعندِي مِنحةٌ مَخبو
ءَةٌ في الغَيبِ مِن أجلِكْ

فَذا الطّاووُسُ قَد يُعطى
لمزهُوّين بالفَنِّ

فَدونَكَ صَولجَانُ الشّعـ
ـرِ خُذْهُ وِهبةً مِنّي()

وتدور قصيدة ((غرور الشباب)) حول الغاية ذاتها، فمحاولة إثبات الجدارة على نظم الجميل من الشعر والتفوّق على الأقران لم تفارق القصيدة منذ أن برز للشاعر هاتفه المتخيّل بقوله:

وإذَا هَاتفٌ ورائِي يُنادِي
ويْكَ دَعْنَا من هَذِهِ التُّرّهاتِ

لم تزَلْ من طِرازِ شِعرِكَ هذا
في نُزوعٍ إلى القَديمِ العَاتِي()

لكنّ الشاعر يطرح على ذلك الهاتف من جديد شعره الجميل، لا سيما أنّه قد جدّد في رحلته الخياليّة هذه شبابه وروحه، صوراً خلابة ينتزع بها إعجاب الهاتف فيصفه الأخير بشاعر الخلد والروض الباسم، وبلبل الشعر في حدائق الفكرة. غير أنّ حسّ القهر يطارد الشاعر فلا يتخلّص منه لأنّه يستيقظ على نهاية الحلم وكأنّ شيئاً لم يتغيّر في طباع الناس التي لا تعجب إلاّ بالسخيف من الفنّ، فيقول:

فتنبّهتُ من رُقادِي وَقد طِرْ
تُ لحُمقِي تَوّاً إلى مِرآتِي

فإذَا الشّيبُ لا يَزالُ بفودِي
ثُمّ كالقَوسِ لا تَزالُ قناتِي

وإذَا بي -كَذلِكَ الطّيفِ- أحيا
بينَ نَاسٍ تَهتزُّ للتُّرّهاتِ()

وهكذا بقي القهر الاجتماعي حافزاً لانطلاق الفراتي في رحلته بعيداً ليلجأ إلى عالم الأحلام تارة وإلى عالم الجنّ والشياطين تارة أخرى ويحدوه في ذلك أن يقول للناس: إنّني شاعر لا يشقّ له غبار وإن عشت بعيداً فإنّ انتقاص الناس من قدري لا يقلّل من شأني أبداً وقد حزت شاعريتي من أفحل شياطين الشعر إبليس.
***
* الثّورة والتّمرّد:
يظهر الدافع إلى الثورة في قصيدة العقّاد ((ترجمة شيطان)) فقد أراد الشاعر أن يحقّق التغيير المنشود لكنّ العقّاد لم يسفر عن تجربته بوضوح، فقد لجأ إلى الرمز متّخذاً من صورة الشيطان- بما عرف عنه من روح الثورة والتمرّد- يكشف بها عن كنه الروح الثائرة في أعماقه، ولكن على أيّ شيء تثور روح العقّاد؟ وما الذي دفعها إلى الثورة؟.
إنّها تثور على القيم الإنسانيّة التي عصفت برونقها رياح الحرب العالمية الأولى وجعلت بنيانها هشّاً في نفسه الشاعريّة، فكانت الحرب العالمية سبباً خفيّاً أولاً في تجربته ثم شخصيّة العقّاد وطابعها، ((فثمة مصدران هامّان وفاعلان يميّزان هذه الشخصيّة أوّلهما: التمرّد: وهو الانتصاف إلى الكيان الفردي، وكان ملمحاً من ملامح العقّاد في مواقفه ونظراته وأسلوب حياته، وهو يعتقد أنّه إذا لم يفعل ذلك، أي لم يتمرّد، فلن يكون نفسه بمعنى أنّه سيفقد ملامح وجهه وسيفقد إنسانيّته أو تقدّمه.... والثاني: الذاتية العارمة التي قد تصل به أحياناً إلى أن يجعل الأنا محكّاً للكون))().
إذاً فالعقّاد سئم الحياة وواقع الإنسان فأراد له التغيير ولكنّه لم يستطع أن يواجه الواقع مباشرة فاتخذ من الشيطان وسيلة للتعبير عن آرائه، فيقول:

سَخرَ الشَّيطانُ مِن قِسمته
ومن الأرضِ وما فَوقَ السَّماءْ

ومَضى يَهجِسُ في مِحنتِهِ
((ألِهذا تُستذَلُّ الكِبريَاءْ))()

كما يظهر النزق الثوري الذي يطبع نفسيّة العقّاد حين يجعل الشيطان يأنف من إغواء البشر لأنّه في عصر ما عاد يميّز فيه الخير من الشرّ فيقول:

أنِفَ الشَّيطانُ من فِتنتِهِ
أُمَماً يأنَفُ من إهلاكِها

ورَأى الفَاجرَ من زُمرَتِهِ
كعفيفِ الذّيل من نُسّاكِها()

ولا يبارح هذا النزق روح الشيطان الذي أنزلته الرحمة الإلهيّة مكاناً عند مصبّ السلسبيل في جنّة النعيم، لأنَ النزق طبع وجبلّة فيه، وفي اعتراض على قدر الله وفي سخرية يقف الشيطان متحدّياً ربّه، فيقول:

هكذَا مُلكُكَ يَاربَّ القَضاءْ
دَوْلَةً تَحمي على الطَّرفِ النَّظرْ

حَظٌ مَن يَدنُو من السّترِ الشّقاءْ
وسَعيدٌ مَن لَها عَمّا استَتَرْ

فَاغْنِ بالرَّاضِينَ عن أقدارِهَا
إنّهم نِعمَ عِتادُ المَالِكينْ

واجعلِ الفِردَوسَ من أقطَارِهَا
حينَ يَرضُونَ ومَا هُم ساخِطينْ()

وتقود روح الثورة الشيطان إلى رفض الخلود والجنّة، ويؤثر عليهما أن يكون حجراً صلداً كي لا يخضع أو يطيع، يقول:

أَنا لا تَخطُرُ لي في أَمَلي
لا تَكُنْ تَوبَةُ نَفْسي أَمَلكْ

وادْعُ في خَلقِكَ يَسجُدْ مَن رَجا
خُلدَكَ الأَعلى فَما نَحنُ سُجودْ

لنكونَنَّ إِذا صَحَّ الحجَا
حَجَراً صَلْداً ولا هَذا الوُجودْ()

*
وقد دفعت روح الثورة الشاعر محمد حسن فقّي ليتحدّى قدره بكلّ ما لديه من عنجهيّة وكبرياء وتحدٍّ، حتّى إنّه لا يأبه بجحيم ولا تغني عن نفسه جنّة وحور عين، ليقول في مطلع قصيدته:

اسبقِينِي إلى الجَحيمِ فإِنّي
سَأوافِيكِ في غَدِي للجَحيمِ

واطلُبِي مِنْ سُراتِهِ أَنْ يكونُوا
عندَ أبوابِهِ قُبيلَ قُدومِي

أخْبريهمْ أنَّ الزّعيمَ سَيأتِيـ
ـكُمْ فهُبُوا إلى لقاءِ الزّعيمِ

قَد شَكَتْ ثُمَّ مِن مباذِلِهِ الأر
ضُ فماذا عَنْ هَواهُ الذّميمِ

ثمّ قَالَ شَيطانُهُ وهْو يُطريـ
ـهِ لأَنتَ الرَّجيمُ مَولى الرّجيمِ()

ثمّ تتحوّل هذه الروح الثوريّة إلى نقمة وتذمّر نحو النفس التي أغرت الشاعر وساقته إلى مهاوي الرذيلة ورسمت ملامح طريقه إلى الجحيم، فيقول:

إِيهِ لا تَغضَبِي فَما أنتِ إلاّ
صَخرةٌ حَطَّمَتْ حَديدَ القُرومِ

حيّةٌ تَنفُثُ السُّمومَ ولكنّي
م تجرَّعْتُ كلَّ هذي السُّمومِ

أَنَا لَولاكِ لَم أكُنْ عَارِمَ الصَّبـ
ـوةِ أعْنُوا لخَمرتِي ونَديمي()

غير أنّ الفقي سرعان ما يخفّف من حدّة الثوريّة لتنتهي قصيدته نهاية تفقدها شيئاً من الجمالية التي اكتسبتها في بدايتها، وقد وجد الشاعر في العقيدة الإسلامية ما يحقّق توازنه النفسي- رغم محاولة إبليس إغواءه- على الاستمرار بتمرّده وثوريته.
وهكذا تبدو الرغبة العارمة في التغيير والتمرّد على نوازع النفس وأهوائها هي الدوافع التي حدت بالعقّاد والفقّي إلى الرحيل بعيداً عن الواقع وإن بدت الجرأة في الثورة أقوى عند الفقّي في بداية قصيدته ((جحيم النفس)) منها عند العقّاد، وقد تمايزت الرحلتان في التعويض النفسي إذا تجلّى لدى العقّاد في الفنّ رمزاً للفتنة والحياة في حين وجدها الفقّي في العقيدة الدينيّة والإيمان الخالص بالله.
هذه أبرز الدوافع الوجدانية التي دفعت بهؤلاء الشعراء للرحيل عن واقعهم الإنساني، متجاوزين ما فيه ومستخفّين بقيوده الماديّة ومشبّثين بعالم الروح إلى حيث تتحقّق طموحاتهم وأحلامهم، وقد صدر بعض هؤلاء الشعراء في تجربته عن رؤية ووعي بأدوات هذه الرؤية وبعضهم الآخر عبّر عنه لا شعوره فباح بمكنون النفس وشواغل الفكر، فكان أن طغت على سطح الوعي أحلام الحريّة، واضطرابات القلق والحيرة والتمزّق التي تكدّر صفو الحياة، وقد دفع القهر والخوف ببعضهم إلى اقتحام لجّة الموت وبثّ فيه روح الأمل لمواجهة هذا الإحساس، وقد جعل بعضهم الرحلة إشباعاً نفسيّاً يعوّض فيه نفسه عمّا تلاقيه من اضطهاد وقهر.
وهكذا غدت الرحلة الخياليّة وسيلة هرب للشاعر من واقعه الإنساني المضني وملاذاً يعوّض ما فاته في دنيا الناس يستطيع من خلاله البوح بما لا يمكنه البوح به في الواقع وتحقيق ما لا يمكن تحقيقه أيضاً.

***
ثانياً- الدوافع الاجتماعيّة والسياسيّة
* تصوير الواقع الاجتماعي المتردّي:
لم يكن شعراء الرحلة الخياليّة بمنأى عن قضايا عصرهم وواقعهم، بل عاشوا خضمّها فدفعتهم ظروفهم السياسيّة والاجتماعيّة إلى التحليق بعيداً، يرومون النجوم بيارق أويتخذون ظهور الشياطين مطايا وأجنحة الخيال مراكب، ليدلي كلّ واحدٍ بدلوه وأفكاره بعيداً عن عين الرقيب الاجتماعي التي تطاله، وتحول بينه وبين ما يتطلّع إلى تحقيقه.
*
لقد دفعت الحياة الماديّة في العصر الحديث شفيقاً لكي يعكس في مطوّلة ((عبقر)) صورة مجتمعه الذي يعيش فيه، ويجلو رموزه من خلال الأساطير. فما صورة عبقر المشوّهة إلاّ وصف للمجتمع الإنساني الذي تمثله النفس البشرية يقول عنها:


قُمْ فَتَرى كَيفَ شَياطِينُها
تُطلُّ في عينيكَ مِن بَابِها

وكَيفَ مِن فيكَ ثَعابينُها
تَنسلُّ مِن فَوهَةِ سِردَابِها()

وقد أخذت الصورة الساخرة في رسم ملامح عبقر تعبر عن واقع الإنسان وما يعيشه من تناقضات يقول عنها:

فَيا لأَبراجٍ ضِخام البِنَا
مِلءَ الثَّرى مِلءَ السَّماواتِ

يَدرُجُ كالنَّملِ عَفارِيتُها
مِن قَلبِ مَهواةٍ لِمَهواةِ

أَقزامُ جِنِّ في سُفوحِ الرُّبا
جَيَّشَهُمْ طَاغيةٌ عَاتِ

إِنْ أَزمَعوا الزَّحفَ تَرَاهمْ عَلوا
أغْربَ أَصنافِ المطيّاتِ

فَمِن يَرابعٍ ومِن أَنعُمٍ
إلى دُيُوكٍ وعِظَاياتِ

مَراكبٌ للجِنِّ يَرمي بِها
فُرسَانُها صَدرَ المَفازاتِ

مِن كلِّ قِزْمٍ لا يَمسُّ الثَّرى
بِرجلِهِ الصُّغرَى المُدلاّةِ

نِشَابُهُ القُنفُذ مِزراقُهُ
وتِرسُهُ قَحفُ السُّلحفاةِ()

ويعدّ أبناء إبليس في عبقر صورة مصغّرة لمفاسد المجتمع المادي الذي يعيش الشاعر واقعه، إذ هو واقع قائم على الحروب والقتل والتدمير والكذب والشهوة وحبّ المال والمفاسد القائمة على النفاق والمراءاة والتلوّن وغيرها من النقائص والمثالب التي دفعت الشاعر إلى كتابة ((عبقر)) وكلّ نقيصة أو مثلبة يمثّلها اسم لشيطان من أبناء إبليس وهم: ثبر، وداسم، وزلنبور، ومسوط وأعور.
*
وربّما دفع تصوير الواقع الاجتماعي الفراتي في قصيدته ((في حانة إبليس)) إلى رحلته الخياليّة بعيداً عن مجتمعه ليصوّر هذا المجتمع بكلّ ما فيه من قيم وأفكار وعادات، فهو مجتمع بسيط لا يزال يعيش أحاديث الخيال والجنّ والسعلاة التي غالباً ما ترويها الجدّات حول المدفأة في أيام الشتاء الباردة. إضافة إلى عرضه لبعض رواسب العادات الجاهليّة مثل البكاء على الميّت وإقامة المناحات، فيقول:

غَداً يفقِدُني أهلِي
وتَبكِني غَداً أُمّي

وينعاني أَبِي المَحزو
نُ في الصُّبحِ إلى عَمّي

غَداً تُبنَى إِذا مَا غِبْـ
ـتُ في الدَّارِ مَناحاتٌ

غَداً تعلُو بِذاكَ البيـ
ـتِ للنّسوَانِ صَيحاتٌ()

وقد أراد الفراتي تصوير تخلف المجتمع الذي يعيش فيه فهو مجتمع تقوده فئات من الدجالين تحت أقنعة التقوى والورع والصوفيّة، يقول:

تقدَّمتُ إلى المِرآ
ةِ كَي أَنفُضَ مَا فيها

فَما أَبْصرتُ صُوفياً
ولا مَا يُشْبه الصّوفي

وألفيتُ سَراحينَ
بأَهدامٍ من الصّوفِ()

كما أنّ الناس في صورة هذا المجتمع قد انحرفوا عن دينهم الصحيح إلى عادات ضارة كالإيمان بتأثير رجال الله الصالحين في مصائر الناس، يقول:

وقُلْ تِهتُ بِذَا القَفرِ
وكَمْ قَد تَاهْ مَخبولُ

وقُلْ لولا رِجَالُ اللهِ
م لاغتَالَتِنَي الغُولُ()

ويشير الفقّي من طرف خفي إلى فراره من الواقع لما فيه من زيف، فيقول على لسان البلبل:

وَقَالَ: إن كُنتَ تُريدُ الهُدى
فَهاكَ مِنِ طَبعيَ بُرهَانَهُ

الزَّيفُ في الناَّسِ وأَمّا هُنا
فالطّيرُ لا يخدعُ إخوانَه()


ويؤكّد هذا الدافع الذي أخرجه عن أرضه في حواره مع الملك الذي تعجّب من، قدرة بشر يعيش على بطاح الأرض المتخمة بالشرور الوصول إلى المقام السامي الذي وصله الشاعر، وهو بعد لم يتخلّص من قيود الجسد التي تشده إليها فيجيبه الشاعر بقوله:

سَواءٌ الأَرضُ وهَذِي السَّما
إنْ لمَ يُنقَّ الرُّوحُ أَدْرَانَهُ()

وقد كتب القلعجي ((ملحمة القيامة)) ليصور أثر الواقع الاجتماعي المتردّي في الإنسان المعاصر بكلّ ما يحمله هذا الواقع المادي من نقائص وشرور تدفع بالإنسان قدماً إلى أجله المحتوم وصولاً إلى ساعة القيامة، ومن هذه النقائص والشرور بروز التناحر في العلاقات الاجتماعية وتضييع الأمانة وسيادة العُري والعهر والشهوات والحروب وغيرها، فيقول الشاعر:
عادَ الأشرارُ
خُصوماتٌ وحُروبٌ
وكما الحُمُرُ تَهارجُ
اهترَجَتْ أُممٌ وشُعوبُ
لمْ يَبقَ سوى الفُجّارِ
قبائلَ قابيلَ
تدكُّ رُخَامَ التَّاريخِ()
*
ولم يكن إبراهيم الهوني ليخرج في رحلته الخيالية إلا لضيقه بحال أهل الأرض، فقد غدا المجتمع الذي يعيش فيه خليطاً عجيباً من النقائص والمفاسد ولا حريّة للشاعر في النصح، وحتّى إن أتيح له فلقد سئم، لقوله:

لَقَدْ مَلَّ مَن يُبدي النّصائحَ جاهِداً
ومَلَّ الذي يَنهى ومَلَّ الذي يُملي

وقَدْ غَيرّوا مَا كُنتَ فيهِمْ عَرفتَهُ
مِن الجودِ والإِخلاصِ والصِّدقِ والبّذلِ

ومَا جِئتُكمْ حَتّى كَرِهْت مَعَيشتي
وشَاهدت كَيدَ الخلِّ في السّرِّ للخلِّ ()

وهكذا كان تصوير الواقع المتخلّف وكشف زيفه ومفاسده الشغل الشاغل لشعراء الرحلات الخياليّة الذين أرادوا الهروب بعيداً عنه ولكن ما عساهم يفعلون وهم أبناؤه سوى أن يكشفوا عنه أقنعته عسى أن يجدوا الرقية التي تساعدهم على تخليصه ممّا هو فيه من مفاسد، وقد تباينت هذه الصور فجاءت صوره ساخرة هازئة عند شفيق معلوف تنّم عن حدّة المرارة والأسى في حين كانت أكثر واقعية عند الفراتي ولكن الفقّي كان أكثر تفاؤلاً في تصويره اللاواعي للمجتمع في حين أخذت الصورة بعداً مأسوياً لدى القلعجي الذي حمّل المجتمع وزر نهاية العالم وسوقه إلى مصير مظلم. وكان الهوني أشد كراهية ومقتاً من الشعراء السابقين لهذا الواقع الذي أضناه فخرج يلتمس في عالم الخيال الراحة والهناء بعيداً عنه.
***
* إدانة الاستعمار:
ولم ينس فوزي معلوف وهو يحلّق في أجواز الفضاء أنَّهُ طريد الاستعمار الذي لا يعني له إلاّ الشّر الذي جوّع شعبه ودفع به للرحيل إلى المهجر ليعاني هناك المشقّة والغربة والبؤس، وهو إذ يوجّه الإدانة للاستعمار يختار صورة إيحائية جعلها المستعمر وسيلة قتل وتدمير حتّى لا يطابق وضعها إلاّ كلمة ((شيطان)) فيقول على لسان الطير التي مثلّت المعادل الموضوعي للشاعر:
قالَ نَسْرٌ لآخَر: أَيُّ طيرٍ
هُو هَذا
ومَنْ رِفاقُهْ
إنْ يكُنْ قَادِماً إِلينا لخَيرٍ
فَلمِاذا
عَلاَ زُعَاقُهْ

يَا لَهُ طَائِراً بصُورَةِ شَيْطَا
نٍ يَبثُّ اللَهيبَ بُركَانُ صَدْرِهْ()

وتطفو بعد ذلك على السطح في عفوية متناهية صورة ذلك المستعمر الجشع الذي يريد أن يستعمر العالم بأسره فما عادت الأرض تكفيه فحلّق يستعمر الفضاء يقول:

آدميٌّ هَذا أجَابَ أَخُوهُ
جَاءَ يَستَعمِرُ الأَثِيرَ بِأَسْرِهْ

كُرةُ الأَرضِ عن مَطامِعِهِ ضَا
قَتْ فحطّتْ هُنا مَطَامِحُ فِكرِهْ

نَحْنُ لَمْ نَهجُرِ البَسيطَةَ إِلاّ
هَرَباً مِنه واجتِناباً لِشرِّهْ()

ثم يعانق الشاعر ألم الطيور المهاجرة عن الأرض ليؤكّد إدانته للاستعمار الذي نكّل به وآذاه وغدر به، وهو لم يفرّ عن أرضه إلاّ فراراً منه يقول:

زَارَكَ اليَومَ مُتعَباً يَنْشُدُ الرَّا
حَةَ في هَدأَةِ السُّكونِ وَسِحرِهْ

فرَّ عن أَرضِهِ فِرارَك عَنها
مِن أذى أَهلِها وتَنكِيلِ دَهْرِهْ()

*
وهكذا دفع الإحساس بالظلم والقهر الذي سبّبه الاستعمار شعراء الرحلة الخياليّة للابتعاد عن واقعهم المأسوي إلى عالم لا يشعرون فيه بالظلم والاضطهاد، بل إنهم يلتفتون من عالمهم المخملي هذا ليوجهوا إلى الاستعمار أصابع الاتهام ويحمّلوه وزر مآسيهم التي يكابدونها.

***
* النقد السياسي:
وقد دفعت الحياة السياسية الشاعر الزهاوي للرحيل بعيداً عن واقعه السياسي الذي يقسّم المجتمع إلى فئتين: حاكمة متسلطة غنيّة تتجمّع في يديها الأموال والخيرات، وأخرى فقيرة بائسة ليس لها من حظّ إلاّ الشقاء والألم والحسرة، وقد دفع بهاتين الفئتين إلى التصادم ليصل إلى دافعه الذي أخرجه عن دنيا الواقع إلى عالم الخيال لإضرام ثورة البؤساء، ويبرز الدافع بوضوح في الشعار الذي ردّده المعرّي مراراً أثناء قيام الثورة. فيقول:

المعرّي: غَصَبُوا حقّكُمْ فَيا قَوْم ثُوُروُا
إِنَّ غَصبَ الحُقوقِ ظُلمٌ كَبيرُ

الجمهور: غَصَبوُا حقَّنَا ولمْ يُنصِفُونَا
إِنَّما نَحْنُ للحقُوقِ نَثُورُ

المعرّي: لَكُمُ الأَكواخُ المشيدةُ بالنّا
رِ وللبُلهِ في الجنانِ القُصورُ

الجمهور: غصَبُوا حقَّنا ولم ينصِفُونا
إنَّما نحنُ للحقُوقِ نَثُورُ

المعرّي: إنّ خَضعتُمْ فما لكُمْ مِن نصيب
في طِوال الدُّهورِ إلاّ السَّعيرُ()

وهكذا كانت الدوافع الاجتماعية سبباً غير مباشر لشعراء الرحلات الخياليّة في رحيلهم بعيداً عن واقعهم الاجتماعي ولكنّهم في خروجهم لم ينسوا أنّهم أبناؤه الذين يتوقون إلى صلاحه، وقد رسموا واقعه المتخلف مندّدين بمفاسده الخلقية كاشفين ما فيه من زيف، وربّما حمّل بعضهم الواقع الاجتماعي وزر الحياة البشرية وخرابها ووصولها إلى حتفها المؤكّد وصولاً إلى ساعة القيامة كما خرج بعض الشعراء للرحيل عن عالمهم ليشيروا بأصابع الاتهام إلى الاستعمار الذي أفسد البلاد والعباد فنسبوا إليه كلّ الشرور، ولقد امتازت هذه الدوافع بطابع رومانتيكي لم يستطع مواجهة السلبيات بروح واقعية ثوريّة فعّالة، فلجأ إلى الرحلة للتعويض عن عجزه في مواجهة الواقع.

ثالثاً- الدوافع الفنيّة والفكرية
* التجديد:
كانت الرغبة في مجاراة العلوم الحديثة وغيرها من مستّجدات العصر حافزاً لبعض شعراء الرحلات الخياليّة إلى كتابة هذه الرحلات.
فقد كتب رشيد أيوب قصيدته ((حلم في المريخ)) كمحاولة شعرية لطرق موضوعات جديدة كتلك التي أغنتها علوم الفضاء الحديثة عن إمكانية وجود حياة على كواكب أخرى، وعلى الأخص كوكب المريخ. فسار الشاعر في هذا التيار ولكنّه سير الشاعر الراغب في تجديد قوى الروح والنفس بإضافة اكتشافات جديدة، فيقول:

يَقُولون في المريخ قومٌ كَشكلِنَا
أناسٌ لهم عقْلٌ يُناجِي كَعقلِنَا

فهلْ أَصلُهم نَوعُ التَّرابِ كأَصلِنَا
وهَل يَجهلونَ الكَائِناتِ كَجهلِنَا

وَهَلْ يَعرِفُونَ الحقَّ أمْ هو ضَائِعُ()

عندئذ يستعين الشاعر بنفسه وينطلق في رحلته الخياليّة مولّداً صوراً مثاليّة لحياة متخيلة على هذا الكوكب.
وشاعر آخر كالفراتي دفعته رغبة عارمة في التجديد إلى الرحيل خياليّاً عبر عالم الحلم، لا سيما أنّه كان قد اعتزل الناس مدّة طويلة فأحسّ في عزلته الأدبيّة بفقدان رونق الشعر من قوافيه فما عادت هذه القوافي تهزّ القلوب كما تفعل أسطر السيّاب ونازك الملائكة والقروي وغيرهم، فليس أمام الشاعر إلاّ أن يلجأ إلى عالم الحلم الذي يفسح المجال للاشعور للتعبير عن الرغبات الكامنة تحت طبقة الوعي، وقد جدّد الشاعر في قصيدته ((غرور الشباب)) شبابه ونفض عن روحه أنّات الشيخوخة ومظاهر الموت التي ترتسم عليه، ولابدّ من تجديد القديم من نفحاته لذا يقول:

غيرَ أنّي مَازلتُ أَذكُرُ أنّي
عِشتُ دَهراً كَشَاعِرٍ في الفُراتِ

شَاعِراً كُنْتُ مُعْجَباً بِقَديميِ
لا أرى للجديدِ من حَسناتِ

عَصَفتْ نخوةُ الشّبابِ بِرأسِي
فأطارتْ ما فيهِ من نَعَراتِ

فاطّرحتُ القَديمَ من شِعريَ الغـ
م ـثِّ وحتَّى الغريبَ من ((نَفَحاتي))()

وكذلك يحاول الشاعر أن يثبت شاعريته وعزمه على التجديد في الشعر في ردّه على الهاتف الذي كان يطارده في قوله:

لَمْ تَزلْ مِن طِرازِ شِعركَ هَذا
في نُزوعٍ إلى القَديمِ العَاتِي()

وليس الهاتف الخيالي في النهاية إلاّ تلك الرغبة الخفيّة بالتجديد التي حاصرت الفراتي في عزلته الأدبيّة والاجتماعية، فيحاول الشاعر إرضاء هذه الرغبة من نبع شعره الفيّاض إلى أن يحوز رضاها واعترافها له بأنّه شاعر الخلود، فيقول:

وإِذا الهَاتِفُ الأَديبُ يُنادي
إِيهِ مرحَىَ لهذِه الآياتِ

أَنتَ في الحَقِّ شَاعِرٌ عَبْقري
لا تُجارَى وشَاعِرُ المُعْجِزاتِ

شِاعِرُ الحُبِّ والجَمالِ لعَمرِي
شَاعِرُ الفّنِّ شَاعِرُ النّفَثَاتِ

شاعِرٌ للخُلودِ أَنتَ وللخُلْـ
ـدِ أَغَانِي الفِتيانِ والفَتَياتِ()

إذن فغاية الشاعر الرغبة في التجديد وإبراز علو كعبه في فنّ الشعر والقريض، ولعلّ الرحلة الخياليّة كظاهرة أدبيّة هي شكل من أشكال التجديد في الشعر العربي المعاصر تحاول إلباسه ثوباً جديداً يرفع شأنه بين الفنون الإنسانيّة.
***
* محاكاة القدماء وإحياء التراث:
لم تخل بعض الرحلات الخياليّة من دوافع التقليدية والسير على نهج الأدباء القدماء سواء أكان الشاعر صرّح بهذا الدافع أم تجلّى بخفر في رحلته.
ولا تخلو ملحمة القيامة من هذا الدافع الذي يمكن أن يتجلّى خفراً في رغبة عبد الفتّاح القلعجي في نظم ملحمة شعريّة على نمط رسالة الغفران ليعرض فيها موقفه من الحياة والموت والحقّ والباطل والفساد والفضيلة والخير والشرّ، ولكن من وجهة دينيّة قوامها الرؤية الإسلاميّة الصحيحة.
ويعدّ بعث التراث العربي القديم طموحاً كبيراً سعى إليه كثير من الشعراء في مطلع هذا القرن.
ولعلّ شاعراً كشفيق معلوف قد جعل هذا الغرض أهم الحوافز التي دفعته إلى نظم مطوّلة عبقر، وذلك ليعيد فيها جمع تراث العرب الأسطوري في عمل أدبي يمنحه الحيويّة والنشاط وينفض عنه ركام الزمن الغابر فقال في مقدمة المطوّلة: ((فأساطيرنا العربيّة لم يصلنا منها غير القليل، وهو على قلّته مشوّه مبتور لكنّه لم يخل من مغاز غامضة، وجب علينا سبر أعماقها وإرجاعها إلى أصولها وشرح رموزها وهذا ما عملنا في شعر عبقر فالأساطير التي لا ترمز إلى فكرة خلقنا لها الفكرة التي نخالها صالحة لها، وما كان منها ذا رمز جلونا رموزه وتبسّطنا فيه تصوير مراميه...))().
فهذا النصّ يؤكّد رغبة شفيق معلوف في إحياء أساطير العرب وبعثها تراثاً حيًاً يمكن أن يحمل الفكرة والفائدة للمتلقّي.
وربّما تأخذ هذه الرغبة صورة أخرى يمكن فهمها من خلال دراسة الرحلة الخياليّة بشكل رمزي يربط بين الرحلة الخياليّة ونموذجها النمطي في الأساطير.
لتظهر الرحلة كأنّها تكرار ومحاكاة لأسطورة وطنيّة قديمة والشاعر صورة لذلك البطل الأسطوري.
فرحلة الهمشري على شاطئ الأعراف هي محاكاة للأسطورة المصرية التي تتحدّث عن رحلة ابن الشمس أوزوريس الذي يمثّل الحركة الدائبة للشروق والغروب في الشمس والحياة. وتقابلها في رحلة الهمشري فكرة ارتقاء الروح تدريجيّاً في مراحل الرحلة وفي ذلك يقول هلال: ((تقوم فكرة على شاطئ الأعراف على ارتقاء الروح تدريجياً وهذا ما تمثّله الأسطورة كفكرة محسوسة وهو تاريخ الشمس، فرع وآمون نهاراً وأوزوريس ليلاً))().
وهكذا بدت الدوافع الفنيّة والفكريّة رافداً أسهم في شحذ همم شعراء الرحلة الخياليّة للرحيل بعيداً عن عالمهم وصولاً إلى تحقيق ما تصبو إليه نفوسهم من رغبة التجديد في الشعر العربي المعاصر، وإحياء التراث العربي القديم وجعله مادة إنسانيّة فعّالة تعيد وضع العرب في مقدّمة ركب الحضارة الإنسانيّة كقوّة مؤثّرة في الثقافة لا متأثرة فحسب، وربّما أسهم اللاوعي الجمعي في دفع بعض الشعراء إلى تكرار الفعل النمطي الأسطوري لأسلافهم القدماء فأعيدت الأسطورة القديمة ولكن في ثوب جديد واسم جديد بعد أن صارت الفكرة المحسوسة رمزاً شفّافاً.
لقد تهيأت لشعراء الرحلات الخيالية دوافع مباشرة وأخرى غير مباشرة حدت بهم إلى الرحيل بعيداً عن عالمهم، فكانت الدوافع النفسيّة وفيها طغت أحلام الحريّة والرغبة في الخلاص من قيود الواقع الراسف في أوضار الماديّة، ودوافع الحيرة والشكّ والرهبة والخوف والتمرّد والثورة التي تدعو إلى التغيير كمعادل جديد يعيد للشاعر توازنه النفسي الذي فقده في ظلال الواقع الإنساني المتردي.
ثم كان للمجتمع دوره الخفي العظيم في حثّ هؤلاء الشعراء على التحليق بعيداً عن مهاويه ومفاسده وشروره ولكنّهم التفتوا إليه مشيرين بأصابع الاتهام إلى من كان وراء مصائبه وارتكاساته وإحباطاته كالاستعمار والفساد. التفتوا إليه يحدوهم الأمل في إحياء روح النضال الوطني والسياسي في نفوس أبنائه. ولا يخفى ما للدوافع الفنيّة والفكريّة من أثر في هذه الرحلات للتجديد في بناء الشعر العربي والإسهام في مشروع النهضة العربية الفكري والثقافي وإحياء تراثها القديم.