الفصـــــل الأول


أشـــكال الرحلات الخيالية

أولاً: رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة
ثانياً: رحلات إلى العالم العلوي.
ثالثاً: رحلات إلى عالم الموت والآخرة.







الفصل الأول
أشكال الرحلات الخياليّة

أولاً - رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة:
يرتبط هذا الشكل من الرحلات الخياليّة بأماكن الجنّ والعفاريت والشياطين تلك الكائنات الغريبة التي اختارها بعض الشعراء ملاذاً له يبثّها مواقفه من الحياة والفنّ والفكر وتشمل ((رحلة عبقر))، لشفيق معلوف، و((في حانة إبليس)) لمحمد الفراتي، و((ترجمة شيطان))، لعباس محمود العقّاد.
أمّا المدن المسحورة فهي تلك المدن التي عرفت في زمن ما واختفت بصورة غامضة، وارتبطت بشكل ما بالغرابة والعجائبيّة نحو ((إرم ذات العماد)). التي استوحى منها نسيب عريضة مطولته ((على طريق إرم)).
وأول هذه الرحلات الخياليّة إلى تلك العوالم الغريبة هي:
رحلة ((عبقر))، لشفيق معلوف1905.
مطوّلةعبقر من أهم الرحلات الخياليّة في الشعر العربي الحديث وقد نظمها الشاعر شفيق معلوف مستمداً مادتها من الأساطير العربية القديمة. وقد صدرت بعض أناشيدها أوّل مرّة في صحافة المهجر البرازيلية عام 1929، إلى أن صدرت عن مجلة الشرق البرازيلية عام 1936، وقد تضمنّت ستة أناشيد هي ((في طريق عبقر، الإله الناقص، حسرة الروح، حكمة الكهّان، ثورة البغايا، العبقريّون)). إضافة إلى مقدّمة عن أساطير العرب وشياطين الشعر بقلم والده عيسى إسكندر معلوف. وقد لقيت اهتماماً كبيراً في الأوساط الأدبيّة والفنيّة يومذاك، الأمر الذي حفّز شفيقاً إلى إصدارها سنة 1949 في 343 صفحة بعد أن تضاعفت أناشيدها وبلغت اثني عشر نشيداً، فكانت الأناشيد المضافة: ((نهر الغي، وادي سجين، الهوجل والهوبر، حلم هراء، العنقاء، أحاديث خرافة))()، وقد نظمت المطوّلة على البحر السريع المنوّع القوافي.
قدّم شفيق المعلوف مطوّلة عبقر على أساس فكرة شيطان الشعر الذي يحلّق بالشاعر بعيداً عن عالم الواقع إلى عالم الجنّ والشياطين في وادي عبقر. ذلك الوادي الذي تؤوب إليه كلّ الأساطير والخرافات.
وقد جاءت ((عبقر)) فريدة بين مطوّلات الشعر العربي ومن بين موضوعات الرحلات الخياليّة لما في موضوعها من خصوصيّة، إذ تتناول أساطير العرب وخرافاتهم وعباداتهم ومعتقداتهم في الجاهليّة. وقد حملت أناشيدها العناوين التالية:

النشيد الأوّل: طريق عبقر النشيد السابع: حلم هراء.
النشيد الثاني: الإله الناقص النشيد الثامن: حكمة الكهّان.
النشيد الثالث: حسرة الروح النشيد التاسع: ثورة البغايا.
النشيد الرابع: نهر الغي النشيد العاشر: العنقاء.
النشيد الخامس: وادي سجين. النشيد الحادي عشر: أحاديث خرافة.
النشيد السادس: الهوجل والهوبر النشيد الثاني عشر: العبقريّون.
في النشيد الأوّل ينبري شيطان الشاعر مستظلاً بغيمة، وقد بانت سُحنته البشعة، فيحيّي الشاعر بتحيّة الصباح، ثمّ يعرض عليه أن ينطلق به إلى عالم السحر والخرافة حيث تأوي الجنّ والشياطين في وادي عبقر فيوافق الشاعر على ذلك ويمتطي ظهره، يقول:

حتَّى تَهاوَى بي إلى موضعٍ
مَا راقَني مِنْ قَبلهِ مَوضعُ

غَمائمٌ زرقٌ على مَتْنِها
مَنازِلٌ جُدرانُها تَسْطَعُ

فَقالَ هذي عَبْقَرٌ ما ترَى
وَضَجَّةٌ الجِنِّ التي تَسْمعُ()

وفي النشيد الثاني يقف علىأبواب عرّافة عبقر، وهي عجوز دردبيس تخال جهنّم في عينيها، ولكنّها دوّت سخطاً ودعت ويلاً عندما شاهدت هذا الإنسيّ الذي اقتحم عليها عالمها حاملاً شرّه بين جنبيه، وراحت تقذفه بعبارات التقريع والتذّمر قائلةً:

يَا آَكَلَ الأمواتِ
ورَامِقَ النّيراتِ

بالأعْينِ الوَالِههْ
لا تَمْضِ في عُجْبِكْ

فإنَّما الآلِههْ
لَيْسَتْ على دَرْبِكْ

مادَامَ حبُّ الذَّاتِ
يَنْخَرُ في قَلْبِكْ()

ويبتعد الشاعر في -النشيد الثالث- مع شيطانه عن عرّافة عبقر مستاءً ممّا سمع، غير أنّ الشيطان يحثّه على المُضي قُدماً في متابعة الرحلة، ثمّ يسمع صوتاً شجيّاً يعتصر الأسى نبراته، هو صوت أميرة الجنّ،بدت وقد أصابها طائف من الإنس فذاقت لذّة الجسد واحترقت بنار الشهوة، فما تلبث تعانق الأرواح دونما نفع، فلا شيء يشبع فيها النهم غير الجسد، لذا تراها تبيع الخلود بالكفن، فتقول:

ياحَامِلَ الجسم ألا أعطنيهْ
وخُذْ إذا شِئْتَ خُلودِي ثَمَنْ

وِشَاحِي الناريُّ مَنْ يَشْتَرِيهْ
فإنّني أَبِيْعُهُ بالكَفَنْ()

وفي الرابع من أناشيد عبقر يثب الشيطان بالشاعر وثبة عظيمة تقذفهما إلى نهر الغي، حيث يلتقي مارداً اسمه سرحوب، ما يفتأ يضرب النهر بعكّازه، فينفرج عن لجّة دهماء ظلماء كثيرة الشعاب يمشي فيها هذا المارد الأعمى كالبصير في النور، ويقدّم للشاعر عدداً من النصائح الخلقية التي تقوّم المجتمع في مواجهة الفساد الماديّ، يقول على لسان سرحوب:

يا أيُّها الهانِئونْ
برُؤيَةِ الأسحارِ

والمَالِئونَ العُيونْ
بِبَهجَةِ الأَنْوارِ

ماكُنتم تخبطونْ
في لُجّةِ الآثامِ

لَوْ أنّكُمُ تُبْصِرُونْ
مِثْلِيَ في الظّلامْ()

ثمّ في النشيد الخامس يقفزبه شيطانه إلى وادي سجين، فيرى إبليس قد استراح على عرشه بعد أن قلّد أبناءه الخمسة مقاليد الغواية والضلال.
الأوّل: ((ثُبَرّ)) شيطان الحروب والدمار ومثير الفتن والأهوال، بدا وقد أطلق ضحكات الهزء والسخرية من بني البشر بعد أن نزع القيود من أرجل العبيد ليتوّج بها رؤوس الغزاة، ثمّ يظهر أخوه ((داسم)) مزّيّن النقائص والدسائس، ومعلّم الناس أساليب الرياء والخداع، ثمّ يبدو ((أعور)) إبليس الشهوة، يقول لبني البشر:

وَلْيَعْلَمِ العَاشِقُونْ
أنَّ اصطِفَاقَ الجُفُونْ

في لذةٍ غَائِمهْ
مَاهُو إلاّ مِرانْ

يُهَيّئُ الأجْفَانْ
للنَّومَةِ الدَّائِمَهْ()

ثمّ يخرج ((زلنبور)) شيطان المال، معبود أهل الذهب ومفضّض الأغلال، غير أنّ الجميع يسيرون في النهاية تحت راية ((مِسْوَطٍ)) شيطان الكذب.
وفي النشيد السادس يتحدث المعلوف عن الهوجل والهوبر شيطاني الشعر، والهوجل يوحي الشعر الجيد ويعمل لأجل الحياة وبثّها في كلّ مكان، في حين يقوم الثاني على الإتلاف والتخريب وقد تمثّل ذلك في صورة إيحائيّة تصوّر الهوبر يأكل البسر ويرمي بالنواة على الأرض ليلتقطها الهوجل فيغرسها في الأرض.
وفي النشيد السابع يتحدّث عن رؤيا أميّة بن أبي الصّلت وخلاصتها: إنّ الشاعر الجاهلي كان يهيّئ نفسه للنبوّة لما شاع في زمنه عن نبي يرسل في العرب، وفي ليلة ماينام أميّة فيأتيه هُراء في المنام بهيئة طير جثمت بقربه فشقّت أضلاعه واستخرجت قلبه المجبول على الشرّ والحسدوالرياء فعرضت على ذلك القلب نور النبوّة فأباها، لأنّ النبوّة مقام سامٍ لا يصل إليه إلاّ من صفا قلبه وخلصت سريرته، فيقول:

أَذَاكَ قَلْبِيْ أَنَاْ
تَاللهِ قُلْ يا هُراءْ

إذَا قُلوبُ الوَرَى
كَانَتْ وَقلْبِي سَوَاءْ

وَكَانَ مَا بِي بِهِمْ
لا كُنْتُ في الأَنبِياءْ()

أمّا في النشيد الثامن فيقابل المعلوف حكيمي عبقر، وهما: شقٌّ وسَطيح، فالأوّل كان نصف إنسان بعين ورجل ونصف لسان، والثاني قد سُلّت من جسده العظام فصار يُطوى كطيّ السجل. ويعرض الكاهنان على الشاعر عدداً من النصائح بما أوتيا من الحكمة. ويركز شفيق في هذا النشيد على الجوهر الأساسي في الحياة، وهو الروح. لأنّ الجسد مجرّد وعاء لا يضرّ النقصان فيه كمال الروح -ولاسيما- إذا تقوّت الروح ومُلئِتْ حكمة.
وفي نشيد ثورة البغايا، وهو النشيد التاسع يصوّر البغايا اللواتي ثرن في الجحيم على الله، واعترضن على قدره فيهن حتّى ضجّ منهنّ أهل النار، فزجّ بهن الله في وادي عبقر، يقول شفيق على لسانهنّ:

ُثرْنَا عَلَيْهِ حِينَما سَامَنَا
عَسْفَاً فَلَمْ نَصْبِر على عَسْفِهِ

قَدْ حَشَدَ اللّذَّاتِ قُدَّامَنا
وجَيَّشَ العَذَابَ مِنْ خَلْفِهِ

أَفْتَى بأنْ نَقُومَ في رِبْقِنا
بِجِزيَةِ العَبْدِ إلى رَبِّهِ()

وفي النشيد العاشر يميل الشيطان بالشاعر إلى ناحية من عبقر يضيق بها الأفق، ويملأ جنباتها طائر خرافي هوالعنقاء ومن خلفها فرخاها الرُّخ والفينيق، ويصوّر المعلوف حال هذه الطيوروضخامتها وأوكارها مقارناً بين عظمة أجسامها وعظمة عقول بني البشر التي أسكنها أهلها جماجمهم الضيّقة فحدّوا من إبداعها وانطلاقها، يقول:

مَا عَجَبِي لِفينقِ مُوْقِدِ
لِنَفْسِهِ النّارَ على المِحْرَقَةْ

بَلْ لِطُيُورٍ مِثْلِها ضَخْمَةٍ
أَوْكَارُها الجَمَاجِمُ الضيّقَةْ()

وفي أحاديث خرافة وهي النشيد الحادي عشر يروي الشاعر أسطورة خرافة وأحاديثه التي يرويها، وهي نسور لقمان، وأسطورة نصر بن دهمان، وحديث من البادية. ففي حديث نصر بن دهمان يتحدث خرافة عن نصر بن دهمان شيخ غطفان الذي عاد شاباً بعد أن أحنت ظهره السنون حتّى بدا كنابش قبره بيده، ولكنّ جنيّة تسلّلت ليلاً إلى مخدعه لتعيد إليه الشباب من دمعها وكحلها وحرقة أنفاسها.
وفي مقطوعة أناهيد يروي أسطورةً تتحدث عن امرأة من الأعراب اسمها أناهيد باعت نفسها للهوى، وجعلتْ من نفسها مستراحاً للركبان، فتثير غضب الآلهة عليها فتحوّلها إلى نجمة تهدي الركبان في الليالي التائهة في قلب الصحراء.
أما النشيد الثاني عشر، فهو آخر محطات الرحلة حيث همس الجماجم، ولغة الفناء تشدّ إليها الرائي المتعظ، ويبقى الخلود للروح وتبقى الأجسام قشوراً لا تفتأ تتيبّس ليتفتّق اللبّ عن خلق جديد، ويظل الحبّ هدفاً تسعى إليه الشاعريّة ووسيلة لخلاص الإنسانيّة من آلامها، فيقول:

والحُبُّ في الجَنَّةِ مَا شأْنُهُ
وَلا أَذَىً فيهَا ولا بُغْضُ

أَلْقُوهُ للنارِ وَإنْ أَرمَضَتْ
أَقْدَامَهُ المَوَاطِئُ الرُّمضُ

ولَيَتَلّقَّفَهُ شُواظُ اللَّظَى
وَلْيَتَلَهَّمْ بَعْضَهُ البَعْضُ

فَالأرضُ إنْ كانتَ جَحيماً لَهُ
وَكانَ فيها تَهْنأ الأَرْضُ()

لقد تمثّل الشاعر في عبقر الحياة الإنسانيّة المعاصرة، التي تقوم على الصراع بين المادّية الطاغية والروح الإنسانيّة الطاهرة، فبدت عبقر كأنّها صورة ممسوخة لهذا المجتمع بكلّ ما فيه من تناقضات، وقد أراد الشاعر فيها أن يرسم موقفه من الإنسان، الذي بدا شريراً بطبعه، والحياة الاجتماعيّة المتردية التي رسفت في قيود الرذيلة، وغلبة الشهوات، وقد ألبس شفيق مادته الأسطورية في هذه الرحلة رؤية إنسانيّة شفافة بعثتها بثوب جديد يتساوق والهدف الذي صرّح به شفيق في مقدّمة عبقر وهو بعث التراث الأسطوري العربي والتجديد في الشعر العربي المعاصر.
*
في حانة إبليس محمد الفراتي 1890-1978.
قصّة شعريّة نشرها الشاعر في ديوانه النفحات في حوالي 1956-1957 وهي مؤلّفة من خمسة وستين ومائة بيت على بحر الهزج منوّع القوافي.
وتدور أحداث القصّة في طفولة الشاعر عندما يلتقي جنيّة تغريه بالحلوى لتسوقه خلفها نحوعالم إبليس حيث يلتقي هناك أبا مرّة ويدور بينهما حوار طويل ينتهي الحوار إلى هدّية يقدّمها إبليس لهذا الطفل الناشئ، هي موهبة الشعر على أن يحتفظ الطفل بالسّر إلى أن يكبر وإلاّ فسيصاب بالخبل انتقاماً تقوم به الشياطين والجنيّة لذلك.
يقصّ علينا الشاعر، وهو شيخ طاعن في السنّ ماكان في طفولته من لقائه جنيّة أخذت تناديه وتغريه بالحلوى لتستجرّه وراءها بعيداً عن الدور، ثمّ لتأخذه إلى أعماق الأرض حيث تقطع به مسافة طويلة ليقف أمام ظلمة داجية وتصيح بكلمة سحريّة تشقُّ دياجي الظلمة، لتضيء تحتها دور وبساتين لا نكاد نلمح فيها شيئاً يتميّز عن عالمنا الأرضي يقول:

إِذْا بِالأَرْضِ قَدْ ضَاءَتْ
وَبَانَتْ تحْتَها دُوْرٌ

وَقَدْ حَفَّتْ بِتِلْكَ الدُّو
رِ أَنْهَارٌ وَجَنَّاتٌ

وَعَنْ بُعْدٍ تَرَاءَتِ لِي
صَحْرَاءٌ وَوَاحاتٌ()

ثمّ يصوّر قصر إبليس فيتكئ في تصويره على خيالات وصور مستمدّة من عالم ألف ليلة وليلة، فهو قصر مشيد من درّ وماس، وأبوابه من الجواهر والذهب، وبناء القصر يغلبُ عليه الطابع الإسلامي ففي وسطه قبّة عظيمة وبهو كبير، ودعائمه من الذهب وتحفُّ بإيوانه ولجّته أشباح ومخلوقات عجيبة من الجنّ يقول:

إذا قَصْرٌ مَشِيْدٌ مَا
لَهُ شِبْهٌ لَدَى النّاسِ

بِأْعَلَى رَبْوَةٍ قَدْ شِيْـ
ـدَ مِنْ دُرٍّ وَمِنْ مَاسِ

وَفَوْقَ العَرْشِ إِبْلِيسٌ
لَهُ عِزٌّ وَسُلْطَانُ()

ثمّ ينتقل الفراتي إلى وصف إبليس ومالديه من زينة وأدوات إغواء، حتّى إذا اقترب منه ناداه أبومرّة مستعطفاً إيّاه ومستغلاً سذاجته ليريه في مرآته أعاجيب عن الناس، ماكانت تخطر له ببال. فيرى الناس يتقاتلون على الدنيا كالوحوش الضارية ويرى تهافت الناس على الشهوات وغيرها من مهاوي الأخلاق، وكأنّه يؤكّد سطوة الشهوات والغرائز في رسم مصائر كثير من البشر، لأنّ كل الناس في رأي إبليس صريع الجنس والشهوة بدءاً بأبي البشر آدم. ويظهر إبليس تظلمه أمام الشاعر، فالله عزّ وجلّ، على حدّ زعمه، قد ظلمه أكبر الظلم حين تاب على آدم ولعنه إلى يوم القيامة، رغم أنّ آدم قد ركّبت فيه كلّ طباع السوء، فيقول:

وآدَمَكُمْ طِبَاعُ السُّو
ءِ أجْمَعُ رُكِّبَتْ فيهِ()

وبعد هذه الحوارية يلتفت إبليس إلى الشاعر ليقدّم له هدية ثمينة، ألا وهي صولجان الشعر، فيقول:

أتدْري فيمَ جِئْنَا بِـ
ـكَ في ذَا اللّيلِ مِنْ أهْلِكْ

فَعِنْدِي مِنْحةٌ مَخْبُو
ءَةٌ في الغَيبِ مِنْ أجلِكْ

فذا الطّاوُوسُ قَد يُعطى
لمزهُوّين بالفنِّ

فدُونَكَ صولجانَ الشِّعـ
ـرِ خذْهُ وِهْبَةً مِنّي()

ثمّ تعود السعلاة بالشاعر الفراتي بعد أن يأخذ منه إبليس المواثِيق بألاّ يخبر أحداً بما جرى حتى يغدو شيخاً طاعناً في السنِّ. ثمّ يعرض الفراتي لبعض العادات الشرقية السائدة في بلده، ولاسيما، المتعلقة بالأحزان ويشيد بالتآزر الذي يلقاه الإنسان المنكوب بمصيبة ما من أقاربه وذويه، فيقول:

فَأَلْفيتُ أبي المحزُو
نَ طولَ اللّيلِ سَهَرانا

وَأَلفيتُ عَجُوزَ الخيــ
ـرِ أمّي وَهْي مُحتارَهْ

تنوحُ وحَولَها العمّا
تُ والخَالاتُ والجارَهْ()

وينقلب حال أهل الشاعر سروراً بعد حزن عندما يتلقونه ويخبرهم
بما جرى له حسبما أوصته السعلاة أن يفعل ويطوي سرّ الحادثة إلى أن
يرويها في هذه القصيدة.
وهكذا انتهت رحلة الشاعر الفراتي بعد أن حلّق بخياله في عالم الجنّ والشياطين ذلك العالم الغريب، لا للتسلية والترفيه، وإنّما ليرسم ملامح موقفه من الحياة الاجتماعيّة التي صوّر كثيراً من جوانبها وماكان ليرتحل إلاّ ليعرّض ببعض الجوانب الفاسدة، والتهافت وراء الشهوات والانخداع ببعض الفئات المدّعية التديّن، كما استطاع أن يرسم لوحة صادقة لمجتمع إنساني لا يزال يعيش أحاديث الجنّ وأساطير خرّافية. ولا يخفى تأثّر الفراتي في رحلته الخياليّة هذه بأسطورة شيطان الشعر الذي يلهم الشاعر أجمل القصائد.
*
ترجمة شيطان عباس محمودالعقّاد (1889-1964).
جاءت قصيدة ((ترجمة شيطان)) في ديوانه ((أشباح الأصيل)) مؤلفة من (220) مائتين وعشرين بيتاً على بحر الرمل. موزّعة على شكل ثنائيات متّحدة القافية شغلت الصفحات من 272 إلى 289.()
وتروي القصيدة سيرة شيطان ناشئ من ولد إبليس سئم الحياة التي خُلق لها فيتمرّد على هذه الخلقة والمهمّة التي تقتصر على الإغواء، ويتوب إلى الله عزّ وجلّ عن الشرّ فيجازيه الله عن توبته بالجنّة مسكناً ومآباً، ولكنّ روح الثورة لاتفارق هذا المخلوق فيرى أنّ أيّ منزلة دون الكمال الإلهي نقص وعيب فيطلب إلى الله في تحدّ صارخ أحد أمرين: إمّا الخلود الإلهي المطلق، وإمّا التحوّل حجراً صلداً تُخلّد فيه روعة الفنّ الجميل. يطالعنا العقّاد منذ البداية بمقدّمة فلسفية قوامها فكرة بسيطة هي أنّ الله خلق هذا الشيطان محنة للعالمين ووسيلة لتعليم الحكّام والملوك كيف يرمون من شاؤوا التخلّص منه بتهمة المروق والعصيان. يقول:

صَاغَهُ الرَّحمنُ ذُو الفَضْلِ العَمِيمْ
غَسَقَ الظَّلمَاءِ في قَاعِ سَقَرْ

ورَمَى الأرضَ بِهِ رَمْي الرَّجيمْ
عِبرةً فاسْمَعْ أعاجيب العِبَرْ()

ثمّ يقذف به من السماء إلى أرض الزنوج ((أولاد حام)) فهم بجهلِهم وتخلّفهم أرضٌ خصبةٌ للإغواء، ولكنّه لا يبقى طويلاً حتى يُرمى به في سواحل أوربّة، يقول:

لَمْحَةٌ جَازَتْ بهِ مَشْرِقَها
ثُمَّ رَدَّتْهُ حِيالَ المَغْرِبِ

وَيِشاءُ اللّهُ أَنْ يُوبِقَها
فَاشْتَهَاهَا شهْوَةَ المُغْتَصِبِ

وارتضى فِيها مقَاماً رَغَداً
حَوْلَ بَحْرِ الرّومِ أوبَحْرِ العَجَمْ()

فيلبس عليهم الشيطان الحقّ ويخنس على القلوب، فإذا هي صراعات مرة مع الرغبات والشهوات والعادات والقوانين، غير أنّ كلّ هذا يكون بأسلوب تقريري لا أثر بالغ للتصوير الشعري فيه.
ثمّ يسأم الشيطان من دوره في الإغواء ويكفر بالشرّ العقيم، لأنّ الناس قد تساوت لديه في الهدى والضلالة، فينوب إلى الله ويتوب عن الإغواء، ومُحال أن يردّه الله، فيفتح له أبواب جنّته يختار منها المقام الذي يشاء عند مصبّ السلسبيل في زمرة من الملائك والحور والولدان المخلّدين يقول:

يَكْفُرُ الشَّيطانُ بالشّرِّ العُقامْ
فَتَعُدُّ الكُفْرَ مِنْهُ نَدَما

وَتُنَجِّيهِ إلى دَارِ السَّلامِ
وَقَدِيْمَاً قُلْتَ لا يَغْشَى الحِمَى

فَضْلُكَ اللّهُمَّ مِنْ غَيْرِ حِسَابْ
وَكَذا اللّهُمَّ آلاءُ العَلِيمْ

نَزَلَ الشَّيطانُ مِنْ جَنَّتِهِ
مَنْزِلاً يَرْضَى بِهِ الفَنُّ الجميلْ()

إلاّ أنّ الشيطان سرعان ما يسأم حياة النعيم لأنّه لم يصل إلى مقام الخلود المطلق، مقام الربوبيّة الذي لا يدانيه نقص، إذاً لابدَّ من الثورة والتمرّد، وهنا تصل روعة التصوير الشعري عند العقّاد ذروتها، حيث يقول:

وَبَدَا الشَّيْطانُ مَعْرُوفاً تَرَى
كِبْرِيَاءَ الكُفْرِ في وِقْفَتِهِ

عَالَي الجَبْهَةِ يَأْبَى القَهْقَرَى
وَتَوُجُّ النَّارُ مِنْ نَظْرَتِهِ()

ويحسد الشيطان الله على مقام الربوبيّة ويظنّ أن الله ظلمه لأنّه خلق فيه روح التمرّد والعصيان، فهو أسير إرادته، ولو أنه عصى الله بإرادته لوجبت لعنته لمخالفته أمر الله، ويعترض الشيطان علىالله الذي يهب الجنّة لعباده من السذّج الذين لا يطمحون بالنظر إلى الخلود المطلق ولا يفكّرون به مجرّد التفكير في حين يشقى هو بعقله لأنه ينظر إلى البعيد ويطمح إلى الخلود.
وتصل ذروة التمرّد لدى الشيطان حين يتحدّى ربّه بأنّه لن يسأله الرحمة والشفقة أبداً، وأن يجعله حجراً صلداً وفتنة تجذب إليها النفوس والعقول فيقول:

وادْعُ في خلقِكَ يَسْجُدْ مَنْ رَجا
خُلْدَكَ الأعلى فما نحنُ سُجودْ

لنكوْنَنَّ إذا صحَّ الحَجَا
حَجَراً صَلْداً ولاهذا الوجودْ()

ويتخلّى إبليس عن ذلك الشيطان الناشئ، ويسخر منه، ويرفض أن يسلكه سبيل شهداء الشياطين، فيقول:

قالَ: فلْتسلكْهُ فيمَنْ سَلكُوا
أيُّها المَولى سبيلَ الشّهداءْ

وتَقَضَّتْ بينهُمْ سيرتُهُ
وَمضَى كالطّيفِ أو رَجْعِ الصَّدى

باءَ بالسّخْطِ فلا شيعتُهُ
رَضِيَت عنه ولا أرضَى العِدا()

وتبدو (ترجمة شيطان) للعقّاد رحلة خالصة للخيال، وتكاد لا تحمل شيئاً من الارتباط للواقع، وكأنّ العقّاد اتخذ من الموضوع مادة للإبداع والتجديد، فكانت القصيدة بذلك مخلصة لموضوعها، لم تحمّله أبعاداً خارجة عنه.
وهي من غير شكّ تكشف عن تجذّر الفساد في نفس الشيطان، وكأنّها تريد توكيد ثبات الشرّ في النفس الشريرة.
*
على طريق إرم نسيب عريضة (1887-1946)؟
وتعدّ (على طريق إرم) رحلة إلى عالم عجائبي، بحثاً عن الراحة والطمأنينة وقد استغرقت من ديوانه (الأرواح الشريرة) قرابة تسع عشرة صفحة بلغت أبياتها 247 بيتاً موزعة على ستة أناشيد هي:
1 ـ أوّل الطريق.
2 ـ القلوب علىالدروب.
3 ـ الطلل الأخير.
4 ـ في القفر الأعظم.
5 ـ القيروان.
6 ـ نار إرم()
وهي منوّعة الأبحر والقوافي وفيها مخمّسات في النشيد الأخير، أمّا الأبحر العروضية فهي: مخلّع البسيط في النشيد الأول، ومجزوء المتدارك في الثاني، ومجزوء الوافر في الثالث، والمجتث في الرابع والخامس أيضاً، وفي النشيد الأخير مجزوء المتدارك.
لقد دفعت كثرة التفكير الشاعر إلى أن يتخيّل عالماً نقيّاً صافياً ترى فيه النفس استقراراً وهناءة عند تحقيق ذاتها فكانت ((على طريق إرم)) محاولة لتحقيق هذه الراحة بخوض غمار المغامرة وحضّ أدوات النفس على الصمود في مواجهة القلق الناجم عن سطوة الحياة المادّية ويظل في كفاح وجهاد، ومدّ وجزر إلى أن يصل إلى نار إرم التي ينشدها ويرى فيها خلاصه المؤمّل.
(( جاء في أساطير العرب أنّ (إرم ذات العماد) مدينة عجيبة بناها شدّاد بن عاد من حجارة الذهب واللؤلؤ والجواهر فكانت فتنة باهرة للعيون لا يقدر القادم إليها من بعيد أن ينظر إليها إذا واجهها في ضوء النهار، ثمّ أقفرت هذه المدينة العجيبة واختفت في الصحراء، فهي في مكان محجوب عامرة بقصورها السحريّة وكنوزها المباحة، ولكن لا وصول إليها، وقد طلبها كثيرون فهلكوا أو ضلّوا وعادوا قانعين من الغنيمة بالإياب. هذه إرم الأساطير. أمّا إرم الشاعر التي يتحدث عنها الناظم في ملحمته فهي (إرم) الروحيّة......))().
إذن فللشاعر إرم أخرى غير المقصودة بالأسطورة، إنّها وليدة التفكير العميق بالنفس والحياة والخلود والموت، هذا التفكير الذي رسمت ملامحه حمأة الحياة المادّية، التي طغت على كلّ شيء في هذا العصر، لذا وجدنا أنّ الشعراء ارتدّوا إلى ذواتهم يصنعون لأنفسهم عالماً من الخيال يلوذون به فراراً من هذه الحياة المتعبة، يحلمون فيه بالدعة والطمأنينة ولو لحظات، ليعودوا بعدها إلى عالم الواقع، وقد حملوا معهم نشوة الحلم ليسيل المداد به.
وفي لحظة الإبداع ينفلت الخيال من صفد الواقع، يسعى الشاعر إلى الروح المشرقة فيتخذ لنفسه سميراً-قد لا يكون سوى شعره- ليجدّ في السير نحو الطريق التي أشرقت بروقها في روعه، وارتسمت معالم الطريق إليها فأصيبت روحه منها بمسّ لطيف يكاد لا يفارقها. وهنا يكون النشيد الأول هو بعنوان ((أول الطريق)): فقد هامت روحه هُيام الأعمى الذي لا يحسن السؤال، ولا يعرف الطريق إلى هذا الروح الذي طاف به من عالم الخيال، وقد سارت إليه القوافل تباعاً ليس لها هادٍ إلاّ الروح لأنها المطيّة الوحيدة إلى منبع الإشراق الحقيقي.
يهيّئ الشاعر لنفسه المطايا ليكوّن الركب العجيب الذي سيقلّه إلى إرم الروحيّة، لذا تراه يسوّد القلب على ركبه ويجعله هادياً لهم ومرشداً إلى الحلم.
أمّا النشيد الثاني وهو بعنوان ((القلوب على الدّروب)) فإنّ الشاعر والركب يمتحنان القلب بعد أن سوّداه على ركبهم ليمحّصا قدرته على قيادة الركب والوصول به إلى الغاية المرجوّة، لكنّه قائد يذوب من الحبّ ولا يصبر على ليل الأسى الذي يمتحن مطايا القلوب ويرميها بوابل من الشوق فيهيج طرف الشاعر بالدموع وتجتمع إلى صدره الهموم، حتّى يكاد ييأس من طلوع الفجر. فهل يستطيع القلب أن يكون مرشداً ودليلاً إلى منبع الإشراق؟ وهاهي ذي الأجراس ترنّ بأسماع الشاعر، وليس رنينها إلاّ صدّىً لأنين الروح الملهبة بسياط الشوق والهيام، فيخشى الشاعر على ركبه من الشتات فيصيح:

يَا قُلوباً غَدتْ نياقا
سَامَها الوَقْدُ أَنْ تُساقَا

قَدْ سَرَى قَبْلَكِ الجَمالُ
مَعَهُ النُّورُ والكَمالُ

فأسْرِعِي يَا قُلوبْ
واهْتدِي بالطُّيوب()

وفي النشيد الثالث ((الطلل الأخير)) يجرّد الشاعر من نفسه واحة صوفيّة فيناجي ذلك الطلل مناجاة لهفة وحنين، غير أنّ الحيرة تملأ قلبه بالضياع والأسى، إذ يحاول أن يصل إلى راحة الروح التي طالما حلم بها، ولكنّه لا يصل إلى ذلك الصفاء رغم كلّ أحلامه في الوصول.
وفي النشيد الرابع ينحر الشاعر ناقة الوجد في القفر الأعظم ويقدّم قربان الجسد على مذبح الأسى والوفاء لعلّه يتخفّف من أوضاره المادّية المثقلة للروح، لتخفّ الروح إلى العُلى حيث السمّو والعلاء، غير أن الجسد يضيع في صحراء التيه فلا شيء يهدي هذه الروح إلاّ مزايا البذل والتضحية والفداء، لذا يحثّ النفس عليها لأنّها لن تصل إلىمنبع الإشراق إلاّ بهذه السجايا، عندئذٍ لا تهمّ المسالك، وأيّاً كانت سالكة أم غير سالكة فكلّها تؤدّي إلى الخلود في الحياة التي يأكل الفناء رواءها وإشراقها يقول:

يا نَفْسُ لا فرقَ عِندي
في سَلْكِ أيّ الدّروبِ

تَقَدِّمي وَسيري
إلى مَكانٍ بَعِيدِ

كلُّ الدّروبِ تُؤَدِّي
إلى سَبيلِ جَديدِ

إنَّا وإِيَّاكِ رَكْبٌ
عَلَى طريقِ الخلودِ()

ثمّ تدور مناجاة بين الشاعر ونفسه، يستحث الشاعر نفسه على أن تهديه بصفاتها ونقائها إلى الطريق الصحيح، فيصيح بأذن نفسه ليسمع صوت الفجر يهديه إلى حقيقة لا مفرّ من إدراكها، إنّها حقيقة انقضاء الحياة في عبث لا طائل منه، فالعمر يمضي مابين ليل وفجر، فيستغيث الشاعر نفسه أن تكفَّ عن تذكيره بأوزاره التي يحملها على ظهره، مرهقاً بأوجاعها. ورغم مايلوّح به الشاعر من روح الأمل فإنّ نزعة التشاؤم تسيطر على الأبيات.
وفي النشيد الخامس: وهو بعنوان ((القيروان))، وربّما أراد الشاعر بهذه التسمية الإشارة إلى مدينة القيروان التي كانت منبعاً للعلم والمعرفة في إفريقيّة بعد الفتح الإسلامي.
المفيد في الأمر أنّ الشاعر راح يتفقّد الركب ويجمع أشتاته فيقول:

قَدْ كانَ في الرَكْبِ قَلْبي
وَمُهجَتِي وَهَوايا

والعقلُ حَامِي السَّرايا
والشَّوقُ زاجِي المَطايا

وفِي الهَوادِجِ حُلْمِي
ورَغْبَتِي والطَوَايا

بَنَاتُ صَدْرِي وشِعْرِي
والذّكْرَياتُ الحَظَايا()

وتغدو قيادة الركب صراعاً بين أفراده فكّل يريد أن يقود الركب إلى غايته المنشودة، ولكن هيهات فقد راحوا يتساقطون واحداً تلو الآخر، ولكنّ الأمل ونشوة الحلم لا تزال تداعب نفس الشاعر في الوصول إلى غايته المنشودة فيستحثّ بقايا الركب إلى السير نحوها وإن عظمت الصعاب، فيقول:

يَاركْبُ يَا ركْبُ صَبْراً
لَمْ يَبْقَ إلاّ اليَسِيرُ

لاتَرْجِعُوا القِفَارَ
فِيها الأمَانِي تَبُورُ

أَمَامَنا الطَّودُ فامضُوا
إلى الشِّعَابِ المَسيرُ()

ويجمع الشاعر أشتات ركبه ويلوذ إلى نفسه ينقّيها إلى أن تصل غاية النقاء والطهر، عندها فقط تلوح له نار إرم في النشيد السادس، تلك النار التي رحل لأجلها، لأجل أن يملأ جوانحه من نورها الفيّاض ذلك النور الذي لن يبارحه حتّى يفرّق الموت بينهما فيقول:

إيْهِ ضَوئِي البَعيدْ
لُحْ ولُحْ ما تُريدْ

لَيسَ طَرفِيْ يَحيدْ
عَنْكَ حتّى يعودْ()

لتُرابٍ ودُودْ

هكذا يبدو واضحاً أنّ المعرفة هي رفيق الإنسان وأمله الذي لا يمكنه التخلّي عنه في حياته، لأنّ تخليه عنه يعني فقده هُويته الإنسانيّة، ولكن قبل أن يتشبث الإنسان بهذا الرفيق لابدّ أن ينقّي روحه ويخلّصها من أوضارها الماديّة التي ربّما تحوّل هذه الأداة الفاعلة دماراً وحروباً بعد أن كانت في روع الشاعر وكلّ ذي روح طاهرة أداة وجود وخير عطاء.
*
لقد تميّزت الرحلات الخياليّة السابقة باختيارها الأماكن الغريبة والمسحورة التي تأوي إليها الشياطين والجنّ مراحاً تعرض من خلاله نظرتها إلى المجتمع الإنساني المعاصر فتعرّض بمفاسده وتفضح نقائصه، وتدعو من طرف خفي إلى الحياة الإنسانية الكريمة القائمة على الروحانيّة سمة رابطة بين بني البشر.
ثانياً: رحلات إلى العالم العلوي.
لقد نظر الإنسان منذ القدم إلى قبّة السماء فوجد فيها لغزاً محيّراً أوقد في روحه جذوة البحث والمعرفة، فأنشأ لها علماً خاصاً يدرس ظواهرها الثابتة والمتغيّرة ويسجّل حركة النجوم ومواقعها بما ينفعه في حياته، ولكنّ ذلك كلّه لم يروِ شغفه إلى البحث والمعرفة عن أسرارها الغامضة، وقبل أن تمكنّه وسائله الماديّة من ارتياد أجوازها، فقد ارتادها بفكره وخياله، متصوّراً أنّ عليها حياة عاقلة خيراً من حياته بين أبناء جنسه. وقد يبدع شخصيات خياليّة قريبة من واقعه لا يريد منها إلا التعريض بحياة مجتمعه وتوجيه سياط النقد اللاذعة له.
وقد انطوت هذه الرحلات تحت قسمين رئيسين، الأوّل: اتجاه إلى عالم الفلك والنجوم وفيه رحلات محمد الفراتي: ((الكوميديا السماويّة))، ورحلة رشيد أيوب: ((حلم في المريخ)) ورحلة محمد حسن فقّي: ((الكون والشاعر)). والثاني: التمس عالم الروح والملائكة بما فيها من معاني الطهر والنقاء.وهي : ((على بساط الريح)) لفوزي معلوف، و((أبونا آدم))، لإبراهيم الهوني، و
((الله والشاعر)) لمحمد حسن فقّي، و((المعري يبصر)) لأنيس المقدسي.
الكوميديا السّماوية() لمحمد الفراتي (1890-1978).
هي أطول القصائد التي نظمها محمد الفراتي سنة 1956 ست وخمسين وتسعمائة وألف، وقد ظنّ معظم الباحثين أنّها فقدت بعدأن فقدها خليل هنداوي،()
ولكنّ الأستاذ سامي الكيالي كان قد أقنع الشاعر الفراتي بنشر قسم كبير منها في مجلة الحديث وترك الشاعر قسماً نشره في ديوانيه: النفحات والعواصف، وبلغت أبياتها كاملة ثمانية وأربعين وستمائة بيت موزعة على العناوين التالية:()
أ - حُلم مُريع أو ليلة في عالم المريخ/ الطويل.
ب - من أنا ومن أين جئت إلى هذا الوجود/ الوافر.
ج - السّاحر/ الرمل.
د - غرور الشّباب/ الخفيف.
هـ- في حانة إبليس/ الهزج.
و - إلى أين مصيري بعد الموت/ الوافر.
وقد درس هذه القصيدة باحثٌ سوري في مجلة المعرفة العدد (427)، نيسان 1999، ودراسته غلب عليها الطابع الوصفي، وقد كانت دراستنا أسبق إلى دراسة القصيدة غير أنّ التأخر في إنجاز طباعة البحث هو السبب في تأخير ظهور هذا البحث.
وتدور أحداث الرحلة في عالم علويّ يصعد إليه الشاعر بوساطة الأحلام والرؤى ليلتقي هناك شخصيات مريخيّة يتحاور معها في قضايا تهمّ البشر وتهمّ الشخصيات التي أبدعتها مخيّلة الشاعر. ثمّ ينفض الشاعر عنه الهموم والأحزان ليهيم في الفضاء بعيداً يلتقي في الكواكب شعراء وأدباء وعلماء وزنادقة وأناساً مثاليين، لا يمكن أن تتحقّق ملامحهم في الواقع الإنساني، ثمّ يخرج عن نطاق الوجود لتفنى روحه في الأنوار القدسيّة، وليلوح له نور المصطفى صلّى الله عليه وسلم. فيفنى بهذا النور فناء المحب المدّله. أمّا قصيدة ((غرور الشباب)) فهي حلم يداعب مخيلة الشاعر ليعيش مع ((فرنوف معيد الشباب)) لحظات من العودة إلى الشباب وتجديد الشعر والروح والجسد.
تبدأ الكوميديا بـ ((الحلم المريع)) ليلفت الشاعر الانتباه إلى عالم الرؤى والأحلام الذي يشدّه إليه ليحلّق بجناحيه صعوداً وهبوطاً في أعماق نفسه ليجد نفسه على كوكب المريخ، على شاطئ بحر خضم اسمه ((سيسا)) وهو كثير المخاطر والأهوال، ويجدّ الشاعر في طلب النار لرفقته من وادٍ قريب فيرى هناك مخلوقات شبيهة ببني البشر، يقترب منها يحاول التفاهم معها فلا يستطيع حتّى يمكنه ذلك بالإشارة، فيأخذونه معهم ليجد مدينة زاهرة في هذا الكوكب. فيطوّف فيها ويراقب أهل الأرض الذين يقضون الدهر في حروب ومطاحنات فيرى رجلاً مريخيّاً يشير إلى كوكب الأرض وينعت أهله بأقبح الصفات يقول:

يَقولُ لَهمْ والأرضُ تَلْمَعُ في الدُّجَى
عَلَى سَطْحِهِا أَشْقَى النُّفُوسِ وألأَمُ

فَقُلْتُ بِنَفْسِيَ وَافَضيْحَةَ أَهْلِهَا
وَوَا خَجْلَتَاهُ إنّني قُلْتُ مِنْهُمو()

ثمّ يطلب الشاعر من صاحبه المريخيّ أن يجوز بحرهم إلى مكان آخر، وهنا يستطرد الشاعر كثيراً في وصف رفيقه في هذه الرحلة واسمه ((ميكال))، ثمّ يتحدّث ميكال عن حياته العلميّة وأساتيذه ومن أبرزهم رفائيل، ويعرض عليه الشاعر أن يزور أستاذه رفائيل. ويلتقي الشاعر رفائيل ويسرد عليه الشاعر قصّة التاريخ البشريّ الدينيّ من خلق آدم إلى بعثة الأنبياء وحياة البشر بين الظلم والعدل والخير والشرّ، وهنا يخشى ميكال على أستاذه رفائيل من سآمه الحديث، فيطلب من الشاعر السكوت ليتكلّم رفائيل بنصائح يقدّمها للشاعر فيها -على حدّ زعمه- صلاح حال أهل الأرض ليؤكدّ أنّ العقل هو الحكم الفيصل الصالح لحياة المخلوقات ويجب أن يدين له الجميع بذلك. وفي تلك اللحظة يسرُّ الفراتي في سرّه قولاً يجعل رفائيل يثور ويزّبد ويربد يقول:

هُنَا قُلْتُ في نَفْسِيْ وَلَمْ أَدْرِ أنَّهُ
عَلِيمٌ بِمَا أُخْفِي بِسرّي وَأَكْتُمُ

ألا اقْطَعْ حَدِيثَ الدِّينِ عنَّا فإِنَّما
حَدِيثُكَ هَذَا يَا رَفائيلُ يُؤلْمُِ()

ثمّ يحدّث رفائيل الشاعر عن نفسه وأصل حكمته وعلمه، وينتبه الشاعر صبحاً ليجد نفسه بين أولاده وعقيلته فيردّد بيتي حكمة خلص بهما من هذه الرحلة:

بَنِي الأرضِ مافَوقَ البَسِيْطَةِ عاقِلٌ
وليسَ من الأخلاقِ في الأرضِ دِرْهَمُ

وإِنّي وإِياكُمْ وكلَّ أخِي حجَا
يدبُّ على الغَبْراءِ صَخرٌ مُرْضَّمُ()

وفي القسم الثاني تشدّ روح الشاعر في سياحتها إلى كواكب عجيبة يسمّيها نسبة إلى ساكنيها، ففي كوكب الشعراء يلتقي أبا نواس وحوله الندامى تعاطى رحيق الخلد خمراً معتّقة، فيعجب الشاعر لذلك ويهتف به، فيميل أبو نواس إلى جهة الصوت جذلا سكرانا، فلا يرى شيئاً. فيخبره الشاعر أنّه روح ولن يراه ويدور بينهما حوارعن مصير أبي نواس وكيف وصل إلى هذا المقام السنّي ويضمّن الفراتي ذلك الحوار هجوماً على أدعياء التقوى والورع على لسان أبي نواس، فيقول:

فَكَمْ شَيْخٍ بِلا عِلْمٍ وَتَقْوَى
يُعَدُّ لَدَى الوَرَى مِنْ أَوْلِيَاهَا

تَرَاهُ مَرَرْتَ غَداً عَلَيْهِ
لَدَى سَقَرٍ يُلوّح في لَظَاهَا()

ينتقل الفراتي بعدها إلى كوكب آخر ((فوق رمح السماك)) يرى نوراً مضيئاً يغشى العيون، فيقطع إليه جبالاً وسهولاً وحزوناً، ليصل إليه فيقف على عدد من الزنادقة أمثال ابن الراوندي ومزدك، وغيرهما من الزنادقة فيوجّه إليهم الشاعر شهبه الكلامية الحارقة، ثمّ يحاور الشاعر زعيمهم ابن الراوندي مستغلاً هذا الحوار ليطعن أيضاً على بعض المتديّنين الذين يحيون في الحياة بُلهاً مجانين بلا عقول. أمّا الزنادقة فشقوا بعلمهم وعقولهم الجبّارة كما يزعمون فما طالوا دنيا ولا فازوا بآخرة، فيقول:

وَلَمْ نَقْنَعْ بِقِسْمَتِهِ وَثُرْنَا
عَلَيْهِ يَوْمَ ذَلكَ سَاخِطِينَا

وَظَلَّ اللهُ يَضْحَكُ إِذْ رَآنَا
مِنْ الإِفْلاسِ بِتْنَا مُلْحِدِينَا()

وفي نهاية الطواف النجمي بين الكواكب يرسم الشاعر عالماً مثاليّاً في كوكب العباقرة إذ حاول الشاعر أن يصبّ كلّ طموحاته في هذا النشيد ليخرجه على صورة الجنّة في هيكله وبنائه وأهله، فهومنبت العلماء العظام وكبار صانعي حضارة المستقبل وفيه تتحقّق كلّ الأماني دون أن يلفظ الإنسان فيه ببنت شفة فما عليه إلاّ التخاطب بالخواطر والأفكار.
ثمّ يخرج الشاعر عن المجرّة تاركاً أبا نواس ليقترب من مناهل الشهود المطلق ويكشف أستار الحُجب ويذوق لذّة الوجد الصوفي الحقيقي لأنه ينكر أن يكون كصوفيّ زمانه يقول:

ذَكَرْتُكَ كُلَّ حِينٍ في جَنَانِي
وَلَيْسَ كَذِكْرِ صُوفِيٍّ مَرِيدِ

يُهَيْنِمُ عَنْكَ مَشْغُولاً بِلَفْظٍ
يُرَدِّدُهُ كَزَمْزَمَةِ الهُنُودِ()

وفي قصيدة ((غرور الشباب)) يبتعد الفراتي عن الكواكب والنجوم إلى عالم الأحلام والرؤى، ذلك الحلم الذي طالما داعب الخيال البشري النازع إلى الخلود والشباب والقوّة والتجدّد، إنّه عودّة إلى الشباب ذلك الفردوس المفقود، حيث القوّة والحيويّة والنشاط والحبّ والهوى والطيش كما يقول الشاعر:

قَالَ لي مُغْرِيَاً وَقَدْ جَسَّ نَبْضِي
لَمْ تَزَلْ فِيهِ وَمْضَةٌ مِنْ حَيَاةِ

أَفَتَهْوَى الشَّبَابَ؟ قُلْتُ: ومَنْ لِي
بِمُثِيْرِ الأَهْوَاءِ والشَّهْوَاتِ()

فتأخذ الشاعر نشوة المخمور وقد تبدّل الحال بعد المشيب إلى الشباب والقوّة فلابدّ أن يجدّد الشعر ويطرح القديم ليتناسب مع الروح الجديدة التي دبّت فيه فيرتّل من آي الشعر أبياتاً يؤذّن فيها ببدء العهد الجديد. وبينما يخطر الشاعر في هذه اللوحة الفنيّة التي تواشجت فيها عناصر الجمال، حيث رسم الشاعر صورة الحياة المتجدّدة في نفسه بعد أن كادت يبوسة الشيخوخة أن تقتلها، وقد تجاوز التسعين، يسمع هاتفاً يسفّه شعره وروحه التوّاقة إلى الجمال فيلتفت على طريقة الشعراء القدماء ليبرهن لهذا الطيف الذي قطع عليه نشوة الحلم وشاعريته، إنّه ذلك الشاعر الذي لا يشقّ له غبار في الوصف، غير أنّ الطيف يعيب عليه نزوعه إلى القديم البالي من الشعر ليكرّر على سمعه:

لَمْ تَزَلْ مِنْ طِرَازِ شِعْرِكَ هَذَا
في نُزُوعٍ إلى القَدِيمِ العَاتِي()

ويرد عليه الشاعر مُغضباً: أن اسمع هذا التصوير من أفانين الشعر فيرسم له لوحة شعريّة لا تملك النفس أمام صورتها وألوانها الأخّاذة وأريجها الفوّاح، وحورها الحسان إلاّ أن تترنّح سكرى جذلى. ويظلّ الشاعر في هذه الصور إلى أن ينتزع منه الإعجاب والاعتراف بالشاعريّة الفذّة ليسمّيه شاعر الخلد والفنّ والنّفحات والنّفثات.
وهنا ينتهي الحلم على غرور يملأ رأس الشاعر وقلبه فيستيقظ ليجد نفسه على حالها من شيب وتقوّس ظهر وقناعة أنّ الناس تهوى السخافات والترّهات ولا تقدّر العلماء.
وهكذا انتهت الكوميديا السماوّية، التي كانت محاولة حلّق من خلالها الفراتي بعيداً في أجواز الفضاء، في سياحة فكريّة وروحيّة، أراد من خلالها أن يندّد بالواقع الاجتماعي الذي لبس أقنعة الزيف والخداع واضطهد الشاعر الإنسان ليس إلاّ لأنّه صوت حقّ وشعور وفنّ وجمال، كما أراد منها الشاعر أن يروّح عن نفسه المتعبة التي أثقلتها السنون وذهبت برونقها الأيام. محاولاً الانتصار لنفسه وإثبات جدارته بأن ينال القدر والاحترام كشاعر فذّ من أولئك الذين يشار إليهم بالبنان، لاسيما بعد عزلة أدبيّة واجتماعيّة عن الناس دامت قرابة ربع قرن. ***

حلم في المريخ رشيد أيوب 1872-1941
جاءت قصيدة رشيد أيوب ((حلم في المريخ)) في ديوانه الأيّوبيّات وقد نظمها على طريقة المخمّسات وعددها خمسة عشر مخمّساً. على البحر الطويل موزّعة على الصفحات من 148 إلى 156 (),
القصيدة رحلة تأمليّة تحاول أن تجد حلاً لتساؤلات البشر عن وجود حياةعاقلة على الكواكب الأخرى فتختار كوكب المريخ الذي كان أكثر الكواكب جدلاً في هذه القضية وتتّخذ من الروح مطيّة خياليّة تغيب عن ذات الشاعر لتطوف في عالم المريخ وتعود إلى الشاعر لتخبره بالحياة المثاليّة التي تعبّر عن نزوع طامح للقيم المثاليّة.
يبدأ الشاعر القصيدة في خلوة نفسيّة يتأمّل فيها الكائنات والكون ويتساءل في نفسه عن هذه المخلوقات التي بثّها الله في هذا الكون والتي ما خُلقت عبثاً، يقول:

خَلَوْتُ بِنَفْسِيْ والهُمُومُ بِمَعْزِلٍ
فَشَاهَدْتُ مَعْنَى الكَائِنَاتِ فَلَذَّ لِيْ

وَطَابَ بِأَسْرَارِ النُّجُومِ تَغَزُّلِي
فَقُلْتُ لِنَفْسِيْ والكَواكِبُ تَنْجَلِي

أَيا نَفْسُ مَا هَذِي النُّجُومُ السَّوَاطِعُ()

ويتساءل الشاعر في لهفة عن صدق مقولة الناس والمهتمّين بوجود حياة على كوكب المريخ، وهل هم بشر مثلنا وأصلهم من تراب كأصلنا وهل يعرفون الجهل والعلم والحقّ وغير ذلك ممّا نعرف؟..
ولكن ليس من وسيلة تمكّن الشاعر من تحقيق هذا التطلّع إلاّ نفسه النقية الطاهرة فهي خير وسيلة للانطلاق في أجواء الحلم.
يناجي الشاعر نفسه بعد أن نقّاها من الهموم والآلام ليحمّلها المهمّة العظيمة التي ستقوم بها يقول:

وَقُلْتُ لَهَا لمَّا رَخَيْتُ زِمَامَها
وَعَاهَدْتُهَا ألاّ أَخُونَ ذِمَامَها

وَإِنِّيَ لا أَنْفَكُ أَرْعَى هُيَامَها
أَيّا نَفْسُ سِيْرِي واغْتَنَمْتُ سَلامَها

فَطَارَتْ إلى نَحْوِ السَّماءِ تُسَارِعُ()

فالنفس الإنسانيّة لدى رشيد أيوب وسيلة كشف ومعرفة، كما هو الحال لدى المتصوّفة، لأنّ الشفافية تصل بروح الإنسان إلى إدراك حقيقة الوجود.
وتؤوب النفس بعد أن أنهت رحلتها الكونية موفّية بوعدها للشاعر فتناجيه بخطرات الروح وماذا عاينت هناك في المريخ يقول:

هُنَالِكَ في المَرْيخِ عَايَنْتُ خُضْرَةً
كَأَحْسَنِ خَلْقِ اللّهِ لَوْناً وَفِطْرَةً

تَدُوْمُ إلى مَا شَاءَ رَبُّكَ عِبْرَةً
تَرَاهُ إِذا ما جَالَ لَحْظُكَ مَرَّةً

بِعَيْنِ مُرُوْجٍ عُرْفُهَا الدَّهْرَ ذَائِعُ

وَفِيْهِ ريَاضٌ باللَّطَائِفِ تُوصَفُ
وفي وَسْطِها عَيْنٌ مِنَ الدُّرِ تَذْرِفُ
يَمَرُّ بِها صَافِيْ النَّسِيمِ فَتَأَلَّفُ
ويُطْرِبُها صَوْتُ النَّعيمِ فَتْعْطِفُ

وَتَبْقَى دُهُوراً والصَّفَا مُتَتَابِعُ()

وهكذا تنتهي رحلة رشيد أيوب إلى غايتها المرجوّة التي أرادها الشاعر لها، وهي أن تنبّه أولئك البشر الغافلين عن آي الإعجاز في خلق الله ولطيف صنعه في المخلوقات التي فطرها على أحسن حال، وربّما أراد أن يشير من طرف خفيّ إلى أن النفس البشريّة مكمن العرفان إذا ما هذّبت ونقّيت ممّا لحق بها من أوضار المادّية في ظلال المجتمعات المعاصرة. ويبقى السؤال قائماً هل الحياة التي رأتها نفس رشيد أيوب حقيقية على المريخ أم أنّ الحلم لا يزال مستمرّاً؟.
*
على بساط الريح فوزي معلوف 1899-1930.
تتألف مطوّلة ((على بساط الريح)) من خمسة وعشرين ومائتي بيت من الشعر موزّعة على أربعة عشر نشيداً ينتظمها البحر الخفيف بقافية متنوّعة، طبعت في سان باولو، في البرازيل دون تاريخ بمقدّمة للشاعر الإسباني ((فرانسيسكو فيلا سبازا)).()
تبدأ الرحلة الخياليّة برحلة واقعيّة على متن الطائرة، وهناك في الفضاء تنفك قيود الروح لتحلّق بعيداً بين الطيور والنجوم تحاورها وتجادلها وتستغيث بها لتلبيّ رغبة الشاعر في تحقيق وجوده الروحيّ في هذا العالم النقيّ لكنّها- أي روح الشاعر -لا تجد واحتها إلاّ بعد أن كاد الصدى يقتلها يأساً، إذ تنبري الروح لعناقه والدفاع عنه ليعود الشاعر إلى موطنه الأرض بعد أن قضى لحظات خالدة في عالم الطهر.
يختار الشاعر في النشيد الأول ((مَلِكٌ في الهوَاءِ)) الفضاء واحة لخياله الخصب يؤسّس فيها مملكة خياليّة تعجز عن نوالِها أيدي البشر وأطماعهم، لأنّها تملك قوّة الروح والخيال التي تحوّل المستحيل ممكناً، فيقول:

يَاجَنَاحَ الخَيَالِ أَقْوَىَ جَنَاحٍ
أَنْتَ يَلْوِي ظَهْرَ الرِّيَاحِ لِصَدْمِهْ

لَيْتَ شِعْرِي ما الشَّاعرُ ابنٌ لهذي الْـ
أرضِ إلاّ بِلَحْمَهِ وَبِعَظْمِهْ ()

وفي النشيد الثاني ((رُوحُ الشَّاعِرِ)) يُشيد فوزي بالروح الوثّابة التي تصل الشاعر بعالم الخلد وبعرائس الجمال والجلال لأنّها ليست ابنة التراب واللحم والدّم يقول:

لَسْتِ مِنْ عَالَمِ التُّرابِ وإِنْ كُنْـ
ـــتِ تَقَمَّصْتِ بالتُّرابِ عَلَيْهِ

أَنْتِ مِنْ عَالَمٍ بَعيدٍ عَنْ الأَرْ
ضِ يَفِيضُ الجَلالُ عَنْ جَانِبِيهِ()

ولكنّ الشاعر يلتفت في النشيد الثالث ((العبد)) إلى واقعه ليجد نفسه مقيّداً إلى الأرض يشدّه إليها اللحم والدّم والقوانين والشرائع والقضاء والتمدّن يقول:

أَنَا في قَبْضَةِ العُبوديّةِ العَمْـ
ـيَاءِ أَعْمَى مُسَيَّرٌ بِغُرورِهْ

كلٌّ مَابِي في الكَونِ أَعْمَى ومُنْقَا
دٌ على رُغْمِهِ لأَعْمَى نَظِيْرِهْ

غَيرَ رُوحِي فالشِّعرُ فَكَّ جَنَاحِيْـ
ـها فَطَارَتْ في الجوِّ فَوْقَ نُسورِهْ()

وفي النشيد الرابع يمتطي الشاعر الطائرة هذه الوسيلة الحضارية التي ألّبت عليه الطيور، وكأنّه ينعى على الإنسان إسفافه في حياته الماديّة التي نفّرت منه كلّ أشكال الجمال في الكون، فها هي الطيور تصف بساطه الحديديّ بالشيطان وتصف راكبه بالغادر، فيقول:

يَالَهُ طَائراً بِصُورَةِ شَيْطا
نِ يَبُثُّ اللّهيبَ بُرْكَانُ صَدْرِهْ

آدميٌ هَذا - أَجَابَ أَخُوهُ
جَاءَ يَسْتَعْمِرُ الأَثِيرَ بأَسْرِهْ

نحنُ لَمْ نَهْجِرِ البَسيطَةَ إلاّ
هَرَباً مِنْهُ واجْتِنَاباً لِشَرِّهْ()

ويمجّد الشاعر في النشيد السادس الشقاء الإنساني على طريقة الرومانتيكيين متخذاً من الطبيعة إطاراً يصوّر فيها خطرات النفس المعذّبة وأحلامها العذبة.
ويدخل الشاعر في النشيد السابع عالم النجوم التي تنكره وتنكر آلته الشرّيرة التي تقتحم عليها عالمها، وتصف الشاعر بالعجز والشقاء وتظهر اليأس من صلاحه، في حين حاول الشاعر جهده أن يقنعها بأنّه ذلك الشاعر الذي قضى لياليه في مراقبتها مراقبة المشوق إليها، وقد سفح دم المداد تغزّلاً فيها، يقول:

إِيْهِ يا نَجْمَتِي أَلَمْ تَعْرِفِينِي
شَاعِراً يُنْصِتُ الدُّجَى ِلنُواحِهْ

كَمْ ليالٍ في الرَّوضِ أَحْييتُها أَبـ
ـكِي وَأَشْكُو إليكِ بينَ أَقاحِهْ

سَامَحَ اللهُ فيْكِ قَلْباً نَسيّاً
هُوَ في الكَونِ مِثلُ قَلْبِ مِلاحِهْ()

وفي النشيد الثامن ينثر الشاعر كنانة نفسه ويصوّر تلاشي أحلامه على صخرة الواقع القاسية، فهو يعيش دنيا المتناقضات فليست حياته إلاّ شقاء، وماكانت آماله وأحلامه وأطيافه إلاّ ومضات لمعت في حياته ساعة من دجى ليلة مدلهمّة ثمّ انطفأت يقول:

لَيْتَ شِعْرِي والّليلُ يَعْقُبُهُ الفَجْـ
ـرُ مَتَى يَعْقُبُ البُكاءَ ابتسَامُ

ضَاعَ عُمْرِيْ سَعْياً وَرَاءَ رُسومٍ
خطَطَتها في الشَّاطِئِ الأقدامُ

عِشْتُ أبْنِي على الرِّمَالِ وَهَلْ يَثْـ
ـبُتُ رُكْنٌ لَهُ الرّمالُ دِعَامُ()

وفي النشيد التاسع(( في عالم الأرواح)) يصل فوزي معلوف إلىغايته في الرحلة حيث عالم الروح الأثير الذي لا يستطيع الشاعر إدراك شيء من كنهه فيروح واصفاً الدّويّ والأنوار الخافتة والبرّاقة فيه.
وأمّا النشيد العاشر وهو((حفنة من تراب)) فإنّ الشاعر يدخل في حوار مع الأرواح التي تنكر هذا الوافد الغريب بما يحمل بين جنبيه من كدر وشرور، حتّى لا يؤمّل فيه الخير إلاّ عندما يموت فيمتصّ الثرى مافي جسده من غذاء يمدّ به أنساغ الحياة الهادئة الوادعة، ليصل المعلوف إلى ذروة الجمال والحكمة.
وفي النشيد الحادي عشر يبدو الشاعر حانقاً على الشرّ بداخله إذ تأبى الأرواح إلاّ وصفه بالشرّ والخراب والدمار والطمع والأنانيّة.
وفي النشيد الثاني عشر وهو بعنوان ((كفّارة الشاعر)) يلتقي الشاعر روحه التي أقبلت تدافع عنه في عالم الأرواح وتصطفيه إليها لأنه قبل كلّ شيء شاعر ليس عمره كأعمار بني جنسه لأنّ عمره قطرة حبر سالت قافية على طرسه فحوّلت الدنيا أفراحاً وأغاريد. وهو يضحّي بروحه ويحرقها علىهيكل الخلود شمعة وضّاءة يقول:

جَاءَ مِنْ أَرْضِهِ يُفَتِّشُ عَنِّي
بَائِسَاً فاخْشَعُوا احتراماً ليأْسِهْ

وَدُعُوهُ مَعِيْ فَفِيْ قُبُلاتِي
شَهْدُ عَطْفٍ يُنْسِيهِ عَلْقَمَ كأسِهْ()

وفي النشيد الثالث عشر يعيش الشاعر لحظات الصفاء الخالدة مع روحه حيث تتضاءل أمام فرحته جبال الأرض وسهولها ووديانها وتحلّق حوله أغاريد الفرح تعزف على قيثاراتها أناشيد الحبّ ونغماته، فيقول:

وَعَذَارَى الأَرْوَاحِ تُنْشِدُ مِنْ بُعْـ
ـدٍ بِصَوْتٍ ، اللّه في نَبَرَاتِهْ

رَافَقَتْهُ قِيْثَارَةُ الحُبِّ فانْسَلَّ
أَنِيْنُ الأَوْتَارِ في نَغَمَاتِهْ()

وفي النشيد الأخير تنتهي الرحلة ليعود الشاعر إلى الأرض فلا يجد مؤنساً له ولا مدّوناً للحظات الخلد هذه إلاّ قلمه ذلك الرفيق الذي ماخانه يوماً وما جافاه إن جافته الصحاب.
وهكذا سار فوزي معلوف حثيثاً نحو موطنه المحلّق حيث الروح تشدّه، تنزعه من عالم التراب ومطالب اللحم والدّم، ولكن متى يحقّق حلم الحريّة وتتحقّق تلك المعادلة الصعبة الراسفة به إلى قيوده؟ إنّ شعاع الأمل هوالذي يشقّ طريقه نحو الروح ولا يفتَّق هذا الوميض الأخّاذ إلاّ الشعر الذي يحمل له الخلاص المنشود. ولتغدو مطالب الفرد نزوعاً إنسانيّاً يحمل الحبّ والصفاء لكلّ البشر.
*
المعرّي يبصر أنيس الخوري المقدسي
تعدّ قصيدة ((المعرّي يبصر)) لأنيس الخوري المقدسي، قصيدة فلسفيّة مؤلّفة من ثلاثة أناشيد رئيسيّة هي:
1 - حيرة وشكوك.
2 - ظلام التشاؤم.
3 - تجلّي النور.
وقد بلغ عدد أبياتها (102) مائة وبيتين ينظمها البحر الوافر في قافية منوّعة تختلف من نشيد لآخر، نشرها الشاعر في مجلة المورد الصافي الصادرة في بيروت في العدد العاشر وألقاها بمناسبة عيد الشبيبة في سورية 1921()
يدور موضوع القصيدة حول تساؤلات يطرحها الشاعر عن الكون والأفلاك والمخلوقات وعن خالق هذه الكائنات، وتقوده هذه التساؤلات إلى الشك القاتل فيخوض بحراً رهيباً من الشكّ والحيرة إلى أن يلتقي المعرّي وسط الظلمة فيحاوره ويناجيه إلى أن يقوده الأخير إلى أول الطريق المنير فيصل الشاعر إلى حقيقة مكمن السعادة في الوجود.
تتناول القصيدة النفس الإنسانيّة، ذلك اللغز الذي حيّر العلماء ولا يزال مشكلاً رغم الدراسات العلميّة والطروحات الفلسفيّة التي تناولته، بيدَ أنّ الشعراء هم أكثر الناس تفاعلاً مع النفس الإنسانيّة، فهم يحملون في طيّات تكوينهم قدرة تمكنّهم من اختراق الغامض المستتر من الحجب. والمقدسيّ واحد من شعراء العربيّة باحث وأديب يخاطب في قصيدته في النشيد الأوّل: قوى المجهول التي برت هذا الكون وكوّنت ملامحه، طالباً إليها أن تبدّد ظلام الشكّ في نفسه، يقول:

أَعِيْرِينِي الضّياءَ مِنَ النّجومِ
مُكَوِّنَةَ العَوَالِمِ مِنْ سَدِيمِ()

ولكنّه يظل يتخبّط في بحر من الشكّ متلاطم يلقي شراع العقل في حيرة تكاد تمزّقه في وسط خضمّها البهيم، فإذا العقل يتيه بين الحياة والموت، بين النجوم والأفلاك في البحث عن سبب هذه الموجودات، فالأمطار والأحياء والنجوم، كلّ أولئك يجري بنظام ودقّة ما لهما مثيل، فهل العقل يرشدنا إلى بارئ الأكون؟

وَكَمْ بيني وَبينَ الحقِّ سُتْرٌ
تَكَشَّفُ عَنْ مَلايينِ السُّتورِ*

سَأحيَا ما حَييتُ وَلَيْسَ نُورٌ
لِعَيْنِ العَقْلِ في العمرِ القصيرِ

ومَا للقلبِ مِنْ أملٍ فيرجو
ولا فجرٍ لذا الليلِ العَميمِ

أعِيْريني الضّياءَ مِنَ النَجومِ
مُكَوِّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَدِيمِ()

وبينما هو على تلك الحال في (( النشيد الثاني)) يرى الشاعر شبحاً قد دبّت فيه الحياة، فيدنو منه على وجل وترقّب لعلّه يجد لديه مايشفي الصدى الروحيّ إلى المعرفة والعلم، ويخلِّصه من لهيب الشكّ، فيعرّفه المعرّي على نفسه.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا اختار أنيس المقدسي المعرّي؟ ألأنّه قضى جلّ حياته بحثاً عن أساس المعرفة، أم لأنّه كان قد انتهى إلى القول بفساد كلّ شيء من هذا الكون إلاّ الخالق البارئ؟ ربّما هذا هو السرّ الذي جعل المقدسي يفتتح قصيدته ببيت راح يكرّره في القصيدة مرّات عدّة يقول:

أعِيريني الضّياءَ مِنَ النّجومِ
مُكوِّنَةَ العَوالِمِ مِنْ سَديمِ()

فهل أراد الشاعر أن يتخلّص من شكوك نفسه، فجعل المعرّي رمزاً لخلاصه بعد أن خلص نفسه من أوهامها وقطع دابر شكوكها كما يقول:

كَذَاكَ خَرَجْتُ عَنْ أَوْهَامِ نَفْسِي
وَفازَ القلبُ بالغَرضِ المَرُومِ

فَصِرْتُ أَرى الوُجودَ كَما تَراني
بَصِيراً والبَصِيرُ يَرى جَليّا

هَجَرْتُ المِحْبَسَينِ فَصِرْتُ حُرّاً
أَرى الدُّنْيَا تَروقُ لِنَاظِريّا()

ويسأل الشاعر المعريّ عن كيفيّة تحقيق هذه الطمأنينة لأنّه لا يزال أسير الشكوك والأوهام، ولا يزال القلب باهت الإيمان، فلا القلب ينجيه ولا العقل يرحمه، ويطرح في الحوار مع المعرّي قضايا مهمّة جداً في الرحلات الخياليّة كالقدريّة والجبر والاختيار وشقاء أهل العقل والعلم، كما يتساءل عن العدل أمام الظلم في هذه الحياة، والموت المسلّط على الرقاب وأين يمكن للإنسان أن يجد السعادة؟
فقد بحث عنها في كلّ مكان، لقد فتّش النجوم والمقابر ورمم الموتى فلم يجد لها أثراً، ثمّ يسأل المعريّ عن سبب وجوده في هذا المكان، فيقول:

فَقَالَ:قُضِيْ عَليَّ الدَّهْرَ أَنِّي
أَكُونُ لِعَابِريِ الوَادِي دَليْلا

فأَرْشُدُ كلَّ ذي قلبٍ صَدُوقٍ
وَأهْدِيْهِ إِذَا تَاهَ السَّبيلا

وأُخْرِجُهُ مِنَ الظُّلماتِ حتّى
يَرَى في الأُفْقِ أَنْوارَ النَّعيمِ()

ثمّ يرشده المعرّي إلى السبيل الذي ينتصر فيه على أوهامه، إنّه الصبر والمصابرة أمام الشكوك والأهوال التي سيلاقيها، وهنا يبدأ النشيد الثالث ((تجلي النور)) حيث تتجلّى الحقائق أمام الشاعر فلا يرى الخير إلاّ في العمل الشريف والحبّ الطاهر والقلب النقيّ، وعلى المرء ترك مالا يعنيه وما لا رجاء له في أن يراه بالبيّنات. ثمّ ينادي في النهاية ذلك النور الذي شعّ في أعماق روحه قائلاً:

فَيَا نُوراً تَلألأَ في الأَعَالي
بَعْيداً عَنْ يَقينِ ذَوِيْ اليَقِينِ

إليَكَ أتَيْتُ في ظُلُماتِ نفسي
لِتَهْدِينْي إلى الحقِّ المُبينِ

لَعَلِّي بالغٌ بِكَ في حَيَاتِي
مَقاماً ليسَ يُبْلَغُ بالعُلومِ()

وهكذا تنتهي رحلة المقدسي بعد أن رأت نفسه النور الذي كانت تبحث عنه، وتبدو النزعة الصوفيّة جليّة في هذه الرحلة التي ترى العلم والمعرفة عاجزين عن تحقيق السعادة التي تحتاج إلى الحبّ والعرفان سبيلاً لتحقيقها، وربّما نمّت هذه النزعة عن عداء ساد الواقع العربي الأدبي للعلوم التقنيّة، لاسيما أنّ هذا التقدّم أتى به الغرب الذي يريد استعمار البلاد، لذا دعت هذه الرحلات إلى الحبّ والفنّ ومنه الشعر سبيلاً لتحقيق السعادة الإنسانية أجمع.
*
الكون والشّاعر محمد حسن فِقّي (1912).
جاءت القصيدة في مجموعة ((قدر ورجل)) وهي مؤلّفة من سبعة وسبعين بيتاً على البحر السريع ورويّ واحد هو النون.
هي رحلة خياليّة يطوّف فيها الشاعر أجواز الفضاء يحاور سكّانه ويطرح تساؤلات كثيرة عن الخير والشرّ والموت، والحياة يفصح الشاعر فيها في النهاية عن تفاؤله في الحياة وإيمانه بانتصار الخير أبداً وهزيمة الشرّ وانحساره.
يجرّد الفقّي من نفسه روحاً تخاطب روح الخلد التي هيّجت أشجان النفس، ويستحثّها الشاعر لتحمل روحه بعيداً عن الأرض لتحرّر الروح من قيودها، قيود العبوديّة والجسد والقوانين الوضعيّة إذ لم تعد الروح تطيق حال الأرض التي استشرى الشرّ فيها فصارت له دولة وسلطان، ولكن هي الدنيا دَوْل بين الحقّ والباطل، فلابدّ أن ينتصر الحقّ ويزهق الباطل، وإذا انتصر الحقّ فلن يكون كالباطل في جبروته وغروره، لذا لن يعاقب الشرّ بما يستحقّ، بل سيحتضنه ويوجهه إلى مافيه نفع العالم أجمع، يقول:

وَهَلْ إِذَا الخَيْرُ أَتَاحَتْ لَهُ
دُنْيَاهُ مَا يَكْفَلُ رَجْحَانَهُ

يُحَاسِبُ الشَّرَّ على ما جَنَتْ
يَدَاهُ أَمْ يَمْنَحُ غُفْرَانَهُ

لكنَّهُ الخَيْرُ حَليمٌ فَمَا
أَضلّهُ الحِلْمُ ولا شانَهُ()

وهنا تبدأ الرحلة حيث ينطلق الشاعر فيرتاد أجواز الفضاء ورحاب الكون، وكأنّه سليمان عليه السّلام يجوبها على بساطه الريحي ويلتقي في الجوّ الطير، ولكنّه لقاء الودّ والصفاء لا الإنكار والتطيّر كما حصل لفوزي المعلوف، ويشرق الحوار وفلسفته عن الروح الإنسانيّة التوّاقة إلى عناصر الجمال والصفاء والطهر يقول:

لَمْ يُزعجِ الطّيرَ عَلى كَوْنِهِ
بَينَ جُموعِ الطَيْرِ إنسانَهُ

أكانَ يَدْرِي الطَّيرُ أَنَّ الذي
صاحَبَهَا صاحَبَ أخدانَهُ()

ويستمع الشاعر إلى حديث الطير عن نفسها فتبدو متفائلة بالحياة، وأغلب الظنّ أنّ هذا التفاؤل فيض من روح الشاعر التي ملأها الإيمان فاطمأنّت به. وتتكّشف في حواريّة الشاعر والبلبل نظرة الشاعر للحياة، ورأيه في الناس الذين ملأ الزيف والخداع حياتهم حتّى صار الزيف طبعاً كأنّه جُبل في فطرتهم لذا يقول البلبل:

وَقَالَ إِنْ كُنْتَ تُريدُ الهُدَى
فَهاكَ مِنْ طَبْعِي بُرْهَانَهُ

الزَّيْفُ في النَّاسِ وَأمّا هُنا
فَالطّيْرُ لا يَخْدَعُ إِخْوَانَهُ()

وبعد حديث الطير ينطلق الشاعر محلّقاً في الفضاء ليشارف النجم ثمّ يرتقي إلى ماهو أبعد من النجوم وأطهر، إلى عالم الملائكة، ذلك العالم الذي لا يمكن خرقه -وفق المعتقد الإسلامي- لأنها ملئت حرساً شديداً فكيف لابن الطين أن يصل إلى هذا المقام السنيّ؟ لاشكَ إنّه الحلم، هذا العالم الغريب الذي كان خير مطيّة تخفّ بها الروح من أدرانها لتصل إلى أعلى المقامات لذا يقول:

تَبَاركَ اللّهُ فَكَمْ شَاعِرٍ
يُطاولُ المُلكَ وَتيْجَانَهُ

لَمْ يَعرِفِ الذُّلَّ ولاقَيْنَهُ
وَلا وَعَى المَكْرَ وأَشْطَانَهُ()

يبدو أن الرحلة التي قام بها الفقّي تعكس ارتقاء الروح في درجات الكمال ولكن قبل أن تخترق هذا العالم السماوي النّقي لابدّ لها من التخّلص من قيود المادية الراسفة ، التي تثقلها إلى الأرض وتحول دون انطلاقها، وكما هي الحال لدى فوزي معلوف ليس للشاعر إلا روح الشعر التي ترفع الشاعر إلى أن يطاول عنان السماء ويحلّق بجناح الخيال والشعر إلى العالم النقي الطاهر.
اللّه والشّاعرُ محمّد حسن فقّي
هذه القصيدة وردت في المجلّد الأوّل من المجموعة الكاملة من الصفحة 80 إلى الصفحة 84، وهي مؤلّفة من ستةوسبعين بيتاً منظومة على البحر الخفيف موحّدة الوزن، منوعة القافية والرويّ.()
هي رحلة روحيّة يصل فيها الفقيّ مقاماً لا تصل إليه روح بشر، ولم تصل إليه تطلعات شعراء الرحلات الخياليّة، إنّه مقام القرب من الحضرة الإلهيّة وهناك يحاور الشاعر الملائكة، ويتحدّث إلى ربّ الأرض والسماوات الذي يقربّه قربى لا يقربّها بشراً بعده وهو في رحلته هذه ينطلق من روح إسلاميّ محضّ وقدرة شاعريّة فريدة غايتها تمجيد الشعر من بين الفنون الإنسانيّة.
ففي لحظة البداية نجد أنفسنا في رحاب الملأ الأعلى مع الشاعر الذي جعل من قلبه الطاهر الجريء وسيلة للوصول إلى هذا المكان الذي لا يعرف إلاّ الطهر والنّقاء، يقول:

ثمَّ أَوْجَستُ خيفَةً إِذْ تَسلّلْـ
ـتُ إليهِ، هُنَا بِقْلبٍ فريٍّ

غَيْرَ أنّي أَحْسَسْتُ أنّي تَطَهَرْ
تُ وَقَدْ لُذْتُ بالمقامِ السّنيِّ()

ولكنْ ما غاية الشاعر من هذه الرحلة؟ أهي ذاتية يريد بها أن يرفع شأن الشعر والشعراء في عصر بات الشعر فيه يعاني نزعات الاحتضار أمام كثير من الفنون الأدبية؟ أم هي رحلة غايتها التطهّر بأنوار الربوبيّة...؟
ينطلق الشاعر يفصّل الحواريّة التي تخيّلها بينه وبين الذات الإلهيّة، فالله يعلم بوجوده بين عباده من الصفوة المقرّبين من حضرته الإلهية لأنّه صعّده إلى مقامه السنّي ليحتفي به وبشعره يقول:

وَسَيَلْقَى هُنَا الكَرَامَةَ مَا ظَلَّ
فإنّي الحفيُّ بالشّعراءِ

وَتَرَامَى إليَّ هَمْسٌ خفيٌّ
م مِنْ صُفوفِ الأمْلاكِ يَعْجَبُ مني

مَنْ تُرَاهُ هَذا وَمَا ذلكَ الشعّـ
ـرُ أَفَنٌ يَسْمُو على كلِّ فَنِّ؟

مَنْ تُراهُ هَذا وَمَا ذلكَ الشّعـ
أَوْ رأيْنا كمِثْلِهِ حَظَّ جِنٍّ()

لكنّ الله لا يخفى عليه شيء من تعجبهم فيردّ عليهم بأنّ ما يرونه رهن المشيئة الإلهيّة التي تعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء، ثمّ يقرّ بأسلوب تقريري تغلب عليه الرؤية الإسلاميّة بالتمجيد لله جلّ وعلا، فهو ربّ النعماء والحمد والرحمة و الحكم، وله مقاليد الأمر في السماء والأرض.وتتساءل الملائكة عن سبب تقريب هذا المخلوق فيأتي الجواب من الحقّ جلّ جلاله، فيقول:

مَا تُراهُ إلاَّالكريمَ بِمَا يَمْـ
ـلُكُ حتَّى وَلَوْ أَسَأْتَ إليهِ

لَوْ تَسَلّلْتَ في حنايَاهُ لَمْ تَلْـ
ـق حُقُوداً تَضُجُّ في جَانِبَيْهِ

أَفَلا تُبْصِرُ الجنانَ مُطِلاً
كالنَّدى كالشُّعَاعِ في مُقْلَتِيهِ

وَلَقَدْ يَسْتَفِزُّهُ الغيُّ حِيناً
ثمَّ لا يستمرُّ إلاَّ قَلْيلا

هُوَ كِفْلٌ مِنْ النّبوّةِ لَوْلا
أنّني ما اتخذْتُ مِنْهُ رَسُولا()

ولا تخفى عنه النزعة الذاتيّة التي تحاول رفع مقام الشعر حتّى إنّ الله ليجعل لذة الإحساس بالحياة في شقاء الشعراء وآلامهم وحسراتهم وآهاتهم، هنا يزهو الشاعر حين يرى الملائكة ترنو إليه بإعجاب ودهش ليختم قصيدته بأسلوب تقريري إيماني بأنّ الله مصدر الشعر والشعور والإلهام.
وهكذا ربط الشاعر الفقيّ بين قصيدة ((الكون والشاعر)) و((الله والشاعر))، برباط مقدّس يجعل من الشعر رسالة إنسانيّة ترفع الشاعر إلى أعلى درجات الكمال حتّى يغدو صنو الأنبياء، ويتوافق هنا مع رؤية المعلوف التي ترى الشعر وسيلة تمنح الإنسان الخلود والنقاء اللذين يرفعانه فوق حاجات اللحم والدم.
*
أبونا آدم إبراهيم الهوني (1907).
قصيدة ((أبونا آدم)) في ديوان الشاعر إبراهيم الهوني موزّعة على الصفحات من 36 إلى 40 وقد بلغت أبياتها ستة وسبعين بيتاً على البحر الطويل الموحّد القافية والرويّ()وهي ترجع إلى عام 1948
إن روح الشاعر المستاءة ممّا تراه على الأرض من مفاسد تدفعه إلى ركوب جناح الخيال بعيداً في عالم السماء لعلّه يجد مكاناً تتخلّص فيه نفسه من أوصابها وهناك يلتقي ببعض الملائكة يحاورهم في فكرتهم عن البشريّة مشيراً إلى قصّة آدم مع الملائكة ثمّ يتابع انطلاقه إلىحيث يسكن آدم وحواء ويحاورهما في أحوال الناس وما آلت إليه أوضاعهم من فساد ويطلب البقاء لديهم لكنَّ آدم يخبره باستحالة مطلبه ما لم يتخلّص من الجسد بالموت.
يشقى إبراهيم الهوني، كدأب أهل الرحلات، بروحه الشاعريّة بين أهل الأرض، فهو يسعىبوعيه أو لا وعيه للبحث عن النقاء والصفاء فيفتش في هذه الأرض فلا يعثر علىضالته فيتخذّ من الخيال جناحاً يحلّق به.
وأين يجد الصفاء والنقاء؟ لاشكّ سيجده في عالم الملائكة والأرواح؟ فيصعد بين أطباق السماوات مراقباً أحوال الملائكة بين السجود والركوع والقيام والقعود وكثرة التسبيح. عندها يتقدّم من ملك سرعان ما يعرف أنّه آدمي من أهل ((برقة))، فيتساءل الشاعر بدهشة عن قدرة المَلَكْ على معرفة الشاعر فيجيبه المَلَّكَ على تساؤله.
ثمّ يتحاور مع أحد الملائكة في جملة من الأمور منها قضيّة المعصية والطاعة، واستفسار الملائكة من الله جلّ جلاله عن جعل آدم خليفة في الأرض ثمّ يترك ذلك الملك، ليتقدّم إلى خيمة يقبع فيها آدم وحواء فيدهش لما فيها من جمال يأخذ بمجامع الألباب.
يقترب أكثر منهما ويستمع لحوار بين آدم وزوجته عمّا تغيّر من أحوال البشر على الأرض من بعدهما ومادبّ بينهم من مفاسد ودمار، ولكنّهما ينتبهان إلى الشاعر المراقب والمنصت للحديث فيطلب إليه آدم أن يدخل فيعرّفهما بنفسه، ويبثّهما شكواه من أحوال الأرض وتغيّر أوضاع الناس وانقلاب المفاهيم، وسيادة النفاق والكذب وازدراء العلماء وتكريم الجهّال، وانتشار أمراض القلوب وغيرها، الأمر الذي يدفع آدم إلى التبرّؤ من نسله وتمنّي حواء لو أنها كانت عقيماً لم تنجب أبد الدهر.
ولكنّ لدى الشاعر رغبة عارمة في الخلاص من شرور أهل الأرض تجعله يطلب البقاء بين آدم وحواء ولكن هيهات أن يكون ذلك مالم يسبقه تطهير للروح من قيود الجسد ولا يكون ذلك إلاّ بالموت، يقول:

فَقُلْتُ أبي أَبْغِي المُكُوثَ بِسَاحِكُمْ
مَلَلْتُ لَعَمْرِي عِيشَةَ الضَّنْكِ والذُّلِّ

فَقَالَ: مُكوثُ المرءِ عِنْدِي مُحرَّمٌ
إذا لَمْ يُطَهَّرْ بالمَمَاتِ مِنَ الغِلِّ.

فَقُلْتُ: سلامُ اللّهِ ثمّ تركتهُمْ
وأُرْجَعْتُ رَغْمَ الأَنْفِ للعَالَمِ السّفلِي()

وهكذا كانت رحلة الهوني محاولة جادة للتطهّر من المفاسد الخلقيّة والاجتماعيّة التي سادت في مجتمعه وذلك باستجماع كلّ مالديه من طاقة الخيال الخلاّق ليستعيد بها لحظات من النقاء والطهر في عالم السماء كان قد تشوّق إلى العيش بها، ومن اللافت للانتباه أن هذه النهاية المأساويّة التي يرى فيها الشاعر خلاصه. فالخلاص كما يخبره آدم هو أن تطهّر الروح من أثقال المادة والجسد ولا يكون إلاّ بالموت، لذا يسيطر على الشاعر حسّ القهر الذي تلخّصه عبارة ((رغم الأنف)) في قوله:
((وأُرْجِعْتُ رَغْمَ الأَنْفِ لِلعَالمِ السّفلِي))()
*
وهكذا وجد بعض الشعراء في توجّههم إلى عالم السماء والروح والأمل في تحقيق الخلاص المنشود الذي كانوا يحلمون به، وإن تباينت تطلعاتهم إلى ذلك الخلاص ووسائلهم إليه، فالشعر والفنّ عند المعلوف والفقّي رسالة إنسانية تحمل هموم الأدب التي أثقلتها قيود الحياة الماديّة المعاصرة. وبدا النزوع الرومانتيكي واضحاً في أماني بعض الشعراء اليائسة من صلاح الأرض، فكان الموت أمنية للخلاص من أوضار المادّية العمياء كما بدا ذلك لدى الهوني.
ولم ينس الشعراء وهم يحلّقون في فضاءات النقاء والصفاء أن ينظروا لمجتمعاتهم نظرة الفاحص الناقد الذي يكشف مافيها من زيف وفساد.
ثالثاً - رحلات إلى عالم الموت والآخرة.
لقد اتجهت بعض الرحلات الخياليّة إلى عالم الموت والبرزخ تحمل إليه أرواحها المتعبة عساها تجد في هذا العالم الرهيب خلاصاً لها، وربّما دفع حبّ الاكتشاف بهم لولوج هذه الظلمات التي لا يمكن رسم ملامحها إلاّ من خلال الرؤى المجنّحة، أمّا عالم الآخرة فيراد به الصورة المتخيّلة للقيامة، ولكنّ هذه الرؤى لابدّ أن تتلوّن بأفكار الشاعر وموقفه نحو المجتمع والحياة والإنسان. وهذه الرحلات، ((ثورة في الجحيم)) للزّهاوي، و((على شاطئ الأعراف))، لمحمد عبد المعطي الهمشري، و((جحيم النفس)) لمحمد حسن فقّي، و((ملحمة القيامة)) لعبد الفتاح رواس القلعجي.
على شاطئ الأعراف: محمد عبد المعطي الهمشري (1908-1938).
جاءت قصيدة ((علىشاطئ الأعراف)) لمحمد الهمشري في ثلاثمائة وسبعة أبيات منظومة على البحر الخفيف، المنوّع الرويّ، وموزّعة على ستة عشر نشيداً تتفاوت في الطول. وقد نشر مقتطفات منها في مجلّة السياسة الأسبوعيّة، ثمّ نشرها في مجلّة أبولو، المجلّد الأول شباط 1933 الصفحة 627 وقد أثبتها عبد العزيز شرف كاملة في كتابه الهمشري شاعر أبولو.()
تبدأ الرحلةبانتقال الشاعر إلى عالم الفناء على جناح الشعر وخياله ليطوف في رحاب شاطئ الأعراف يعلو فيها الشاعر فلك الروح السابحة في بحران الحزن والألم ليرى سفن الموت وقد لفّها سواد الليالي ويناجي الشاعر الليل والوقت والسكون، ثمّ يستفيق على نور الآلهة التي تحاول تخليصه ممّا به فتأخذه إلى الجنّة، ثمّ يعود ليستمع إلىغناء قيثار الموت يردّد ألحان الصِّبا والمشيب والأسى ليصل بعدها إلى شاطئ الأعراف حيث يبثّ هناك شكاته إلى العدم بعد أن فقد أذن المصيخ في دنيا الناس.
القصيدة رحلة تأمّلية إلىعالم ترك أثره عميقاً في نفس الشاعر هو عالم الموت، والشاعر إنسان مرهف الإحساس كان قد انتقل بحسّه ليعالج هذا العالم، إن لم نقل يتنبأ بوساطة روحه بمصيره القريب لأنّ روحه صورة من نفسه الحزينة وتجاربه العاطفيّة التي باءت بالفشل، فجاءت انعكاساً لشحوب الأمل الذي لفّ الشاعر أثناء إقامته في المنصورة.
وشاطئ الأعراف شاطئ خياليّ بخلاف الأعراف، المكان المذكور في القرآن الكريم الذي هو بين الجنّة والنار.()
يبدأ الشاعر بنشيد الذكريات إذ يشرب كأس الفناء الذي يبعث فيه روح الشعر ويوقظ سبات الفكر فتبحر به سفينة الذكريات تطوي ضفاف الحياة، غير أنّ رياح الأسى ماتلبث تداعب الشراع وسط دجى اليأس وصورة الموت يهمس في أذن الشاعر في ذهول وثّاب يتخطّى كلّ الأعاصير والأهوال يقول:

إنّهُ الحبُّ مَايَزالُ يُعَاني
كلَّ هَولٍ وَيمتطي كلَّ صَعْبِ()

غير أن الشاعر يخاف على الحبّ ممّا تعاني النفس في الموت ويخشى أن يلفظ أنفاسه ويردى كما أرديت النفس، ولكنّ الحبّ صنو الحياة وارثة الموت وهو نور الإله يرفّ على الكون، ثمّ يتنبّه الشاعر فجأة على ضجيج سفن الموت تعبر شاطئ الأعراف فيخاطب الوقت لأنه وقود الحياة، قائلاً:

وَيَكَ يَا وقتُ إِتَئِدْ! أينَ أَمْضِي
تائِهَاً فوقَ هاتِهِ الأمْواجِ()

وسفن الموت عليها من المنايا شحوب ترفع راية الشاطئ ويحوّم الفناء حولها بهزيمه ‎، ثمّ يمضي بفلكه الكسير، وقد أحاطت به الويلات، يتهادى خلف سفن الموت. والليالي تمرّ مسرعات مثل الظلال وكأنّ نور الحياة في احتضار أبديّ والليل مقبرة الأحقاب.
ثمّ في نشيد ((الشاعر والآلهة))، يتنبّه الشاعر مبغوتاً إلى نور يشقّ الدجى ويملأ جنبات الأفق فيسأل الشاعر الآلهة عن ذلك فتخبره إنّه ركابها قد تخطّى كلّ العواصف والظلمات ليقلّه إلى الفردوس حيث عذارى الينبوع وموسيقا الحياة ليلقى التعويض عمّا لاقاه من آلام في هذه الحياة، وعندما تحاول الآلهة تركه في فردوسها يأبى إلاّ مرافقتها لأنه اعتاد ملازمتها في الحياة فهي السلوى والنجوى يقول:

كُنْتِ سَلْوَايَ في الحياةِ وفي الموْ
تِ أرَاكِ عَلى دُجَاهُ خُذيني()

فتصحبه آلهة الشعر على فلك الدّجى يسير حثيثاً بين الأهوال.
ثمّ يسمع إلى أرغن يردّد ألحاناً كثيرة تمثّل أدوار الحياة المختلفة كلحن الصِّبا والجمال والمشيب والأسى. وفي غمرة هذه الألحان يتنبّه الشاعر على نور باهت يملأ الأفق شعاعه فتنبّهه الآلهة إلى مطلع شاطئ الأعراف، فيقول:

هُوَ مَثْوَى الأَلْحانِ بَعْدَ شتاتٍ
وَمقرُّ الأَرْواحِ بَعْدَ طَوافِ

تَرْقُبُ المَوْتَ والحَيَاةَ تَسيرا
نِ عَلى الوَقْتِ وهو كالرّجَافِ()

وهناك في مكان قصيّ عن العالم حيث يخيّم الصمت، ويلوّن الفضاء شحوب الموت ويقطع الصمت نعيب الموت يستقرّ شاطئ الأعراف، فلا ملامح واضحة هنا تحيي الأمل في النفس غيرمنظر بياض الثلج فوق الصخر، يقول:

لَهْفِي كلُّ مَا أرى فَهْوَ مَوتٌ
يُنْذِرُ الأَرْضَ مَوْعِداً بالثَّبورِ

هُوَ وادٍ للموتِ يَنْشُر فيهِ
شِبْهَ دُنيا تَفْنَى وشِبْهَ حَيَاةِ()

ويصف الشاعر مافي الشاطئ من خيالات ودياجير وموج متعال على موج وظلمات بعضها فوق بعض، وكذلك سفائن العمر وهي تمضي والوقت يقطع منها حبائل الآمال، وعزيف وادي الموت حتّى يكاد الشاعر يقطّع النفس من شدّة الهول فتنجده الآلهة وتقوده إلى بقايا الشاطئ ليرى قبر الليالي وقبر الحياة الذي راح يرشّه الزمان بدموع الرحمة والشفقة وتبدو ركائب الحياة تسير متهاديّة إلى مثوى الأحقاب حتّى تغيب في الضريح فلا يبقى منها غير طيف الخيال.
وفي نشيد ((السكون الحاكم)) حيث تنتهي الحياة ويسود الصمت ويخيّم الفناء، يصرخ الشاعر في العدم مستجدياً أن يسمع شكواه، ويبدوأنّ الشاعر فقد أذن المصيخ له في عالم الحياة، فاستعان بروح الشعرليصل إلىهذا العالم العجيب ليبثّه شكواه فتراه يقول:

قِفْ وَدَعْنِي أَبْثُثْ إليكَ شُكَاتِي
والتياعي مُهَمْهِماً في أُذْنِكْ

لَمْ أَجِدْ في الحياةِ لي أُذُناً تَسْـ
ـمَعُ شَكْوَايَ أو فؤاداً حَنُوناً

وَلِذا قَدْ أَتيْتُ أَشْكُوكَ مَابِي
فَلَقَدْ تَرْحَمُ الكَئيبَ الحَزِينا()

وفي النشيد الأخير وعنوانه ((ساحر الوادي المغني)) يتخيّل الشاعر مغنيّاً يعبث بقيثاره في وادي الموت يغنّي أهل الفناء كما كان يغنّي ألحان الحياة، غير أنّ قيثاره قد تعطّل وطال صمته فيطلب منه الشاعر النهوض وبعث لحن الحياة في صمت الوادي ووحشته يقول:

سَاحِرَ الموتِ طَالَ صَمْتُكَ هيَّا
رَجِّعْ اللَّحنَ أيُّهذا الشّادِي

قُمْ أيَا عازِفَ المنونِ وَغَنِّ
وابْعَثِ النَّغْمَ فوقَ صمتِ الوادِي()

ثمّ يهتف به أخيراً لبعث الألحان، داعياً على تلك اليد التي عطّلت قيثاره عن بعث نسغ الحياة في وادي الموت، يقول:

لَهْفِي مَا أَرَاكَ تَبْعَثُ لَحْناً
فاخْبِرْ الشّعْرَ مادهى قِيثَارَكْ

سوءَةٌ لليدِ الّتي عَطّلَتها
وَعَفْتْ في غِنائِها أَوْ تَارُكْ()

وهكذا طاف الهمّشري في عالم الخيال الذي أبدعته مخيّلته وروحه الشعريّة ليطرح في هذا العالم بقايا حزنه الكئيب الذي رسمته الحياة الحزينة وخلعت عليه مسحة من الرهبة والتشاؤم، وكان لابدّ لهذه الروح من التطهّر منها فكانت الرحلة وسيلة للخلاص ولارتقاء الروح في عالم الطهر. إنّ رحلة الهمشري هي تعبير عن نزوع رومانتيكي يسمو من خلاله الشاعر فوق الواقع ويبوح بمشاعره ونزعاته وأهوائه، بما فيها من شجن وألم، ويسعى بهذا البوح إلى تحقيق شيء من الخلاص أو التوازن.
ثورة في الجحيم: جميل صدقي الزهاوي (1863-1936).
تعدّ قصيدة ((ثورة في الجحيم)) من أطول قصائد الزهاوي التي نشرها أوّل مرة في مجلّة الدهور اللبنانية سنة 1931، ثمّ ضمّنها ديوانه الأوشال وبلغ عدد أبياتها ثلاثة وثلاثين وأربعمائة بيت، وهي منظومة على البحر الخفيف الموحّد القافية والرويّ ((الرّاء))() وقسّمها إلى ثلاثين مقطوعة هي:

1- منكر ونكير في قبر الميّت ووصف دقيق لهما.
2- حوار بين الملكين والميّت فيه أسئلة عن أمور عديدة يجامل الميّت في الإجابة عنها.
3- مصارحة الميّت.
4- وصف الصراط.
5- السؤال عن الملائكة والشياطين والجنّ، وأجوبة الميّت.
6- السفور والحجاب، وجواب الميّت.
7- السؤال عن الله، وجواب الميّت.
8- إلقاء الحجّة.
9- الله هو الأثير والاختلاف في الاسم.
10- امتناع الميّت عن الإفاضة في الجواب.
11- اتركاني ولا تزعجاني.
12- تقريع الميّت.
13- الإلحاف في السؤال.
14- الحوار الأخير.
15- عذاب القبر.
16- أخذ الميّت إلى الجنّة ليرى ما حُرمه من الثواب، ثمّ وصفها بدقّة.
17- قذف الميّت في الجحيم ووصف عذابها.
18- حوار بين الشاعر وليلى في جهنّم.
19- الشعراء في الجحيم.
20- عمر الخيام يتغنّى بالخمرة في الجحيم.
21- سقراط يلقي محاضرة في الحكماء في الجحيم.
22- منصور الحلاّج في الجحيم يعاتب الله.
23- اختراع أحد أهل الجحيم آلة تطفئ النار.
24- خطبةأحد شباب الجحيم يحدث بها ثورةعارمة.
25- المعرّي ينشد نشيد الثورة، ويردّد له الجمهور.
26- الحرب بين الزبانية وأهل الجحيم.
27- إنجاد الشياطين بقيادة إبليس لأهل الجحيم وانتصار الملائكة بقيادة عزرائيل للزبانية.
28- نشوب حرب مهولة بين الطرفين تنجلي عن انهزام الملائكة وإطفاء نار الجحيم، واحتلال أهل الجحيم للجنّة، طائرين على ظهور الشياطين.
29- طرد أهل الجنة من البله بعد احتلالها.
30- الخاتمة.
تدور أحداث الرحلة بعد انتقال الزهاوي إلى عالم الموت وهناك في القبر يلتقي ملكيّ السؤال منكراً ونكيراً بمنظرهما المهول، ويدور بينهم حوار طويل حول قضايا الدين والاعتقاد في الدنيا يظهر الشاعر فيه السخرية والتهكّم من هذه المعتقدات، ممّا يدفع الملكين إلى نقله إلى الجحيم ليقاسي العذاب الأليم وهنا يبدأ قسم آخر يلتقي فيه الشاعر رجال علم وأدب وفنّ وفكر وسياسية في الجحيم يحاورهم ويتحدّث إليهم ويساهم في التحريض على الثورة التي تنشب نارها بين سكان الجحيم وملائكة العذاب لتنتهي بانتصار لقوى الجحيم على الملائكة وينتهي معها الحلم.
يبدأ الزهاوي رحلته بالانتقال المفاجئ من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وهناك في القبر (أوّل منازل الآخرة)()، يلتقي الشاعر الملكين منكراً ونكيراً، فيصف منظرهما بشيء من المبالغة والتهويل لإظهار هول الموقف فالقبر ليس فيه ما يؤنس، وكانا فظين غليظين معه في المعاملة ثمّ يبدأان بسؤاله عن بعض القضايا التي كان يؤمن بهاعندما كان حيّاً، كالإسلام والتسيير والتخيير والشعر والفنّ. غير أنّ الشاعر ينحرف بالسؤال، إذ يظهر تبرّمه من أسئلة الملائكة المتعلّقة بالدين، وعندما يلحفان عليه بالسؤال يتبرّم بهما ويشكو ويئنّ ثمّ يفصح عن مذهبه الذي عاش عليه ويتلخّص في قوله:

غَيرَ أنّي أُجلُّ ربِّيَ منْ إتـْ
ـيانِ مَا يأبَاهُ الحَجا والضّميرُ()

ثمّ يسأله الملكان عن الملائكة والجنّ والشياطين، وهي أمور يعدّ التصديق بها من صلب العقيدة وإنكارها يقود إلى الكفر والتجديف، ويبدي الشاعر كعادته شكّه في كلّ ما لا يقبله العقل يقول:

غَيرَ أنِّي أرتابُ في كلِّ ما قَدْ
عَجزَ العقلُ عَنْهُ والتّفكيرُ()

ثمّ يتابع الملكان الأسئلة والشاعر يسخر مرّة ويرتاب أخرى ويراوغ ثالثة حتّى يظهر فلسفته الماديّة بكلّ وضوح في ردّه على الملكين لمّا سألاه عن الله:

ليسَ بين الأثيرِ واللهِ فرقٌ
في سِوى اللّفظِ إنْ هداكَ الشّعورُ()

ويطلب بعد ذلك من الملكين أن يسألاه عن الشعر والفنّ وماذا قدّم من أعمال نصر بها الحقّ والوفاء والعمل في سبيل رفعة الوطن وبنائه غير أنّ الملكين يوضحان له أنّ الدار للحساب وأنّه ليس للشعر والفن مقام لدى أهل القبور، ويصل الحوار بعد ذلك إلى ذروة الجدل ويغدو مركّزاً سريعاً ينتهي إلى ضرب الشاعر وتقريعه من قبل الملكين وإعلانهما انضمامه إلى أهل الجحيم، يقول:

لا يُفيدُ الإيمانُ من بعدَ كُفْرٍ
وكذَا جدُّ الطّائِشين عَثُورُ()

ثمّ يطير به الملكان إلى الجنّة ليرياه ما حرم من النعيم فيزداد حسرة وحرقة وغصّة، فيصف الجنّة متكئاً على وصف القرآن لها، ثمّ يخرجان به منها إلى الجحيم حيث يبدأ القسم الثاني من هذه الرحلة.
أوّل من يلتقيه في الجحيم فتاة اسمها ليلى فرّق بينها وبين حبيبها سمير فراحت تبكيه بحرقة وغصّة، فيحاورها الشاعر ويعرف ما أوجب عليها الجحيم.
ثم يلتقي الشعراء في الجحيم أمثال الفرزدق والمتنبي والمعرّي وبشار وأبي نواس والخيام ودانته وشكسبير وامرئ القيس، فيقول:

قُلْتُ مَاذا بكُمْ فقالُوا لقيِنا
مِنْ جَزاء مالا يُطيقُ ثَبيرُ

إنَّنا كُنَّا نَسْتَخِفُ بأمرِ الدِّ
م ينِِ في شِعرِنَا فَسَاءَ المَصيرُ()

ويستمع بعد ذلك إلى الخيّام يتغنّى بالخمرة ويتمنّى لو أنّه ما فارقها أبداً حتّى ولو كان بقاء الودّ بينهما في الجحيم، فهي تبرّد النار وتصمد في وجه الزمهرير، وكذلك يستمع إلى سقراط الذي وقف خطيباً بين الحكماء والعلماء أمثال: أرسطا طاليس، وكوبر نيك وداروين وغيرهم. حتّى الحلاّج لم يسلم من العذاب في النار وهو يعاتب الله لأنّه زجّ به في الجحيم.
ثمّ يلوح التذمّر والضجر بين أهل الجحيم من سوء المعاملة وسوء المقدور الذي كتب عليهم فيخطب أحد شباب الجحيم خطبة تثير روح الثورة بين أهلها فتضجّ الجحيم بالأصوات تتعالى في جوانبها وقد ماج أهلها وهاجوا حتّى كادت السماوات تقع لثورتهم وانطلقوا من كلّ حدب وصوب يرفعون الأصوات بأناشيد الثورة حتّى كان المعرّي موجّههم السياسيّ ومثير الحماس في صفوفهم يقول:

المعرّي: غصَبوا حقّكُمْ فيا قَومُ ثُوروا
إنَّ غَصبَ الحُقوقِ ظُلْمٌ كَبيرُ

الجمهور: غَصَبُوا حقَّنا ولَمْ يُنصِفُونَا
إنَّما نحنُ للحقوقِ نثورُ

المعرّي: لكُمُ الأكْواخُ المُشيدَةُ بالنَّا
رِ وللبُلهِ في الجنانِ القُصورُ()

فتهبّ زبانية العذاب مذعورة إلى الجحيم لصدّ السيل الجارف الذي تحرّك في النار وراحت الأذرع تتطاير والرؤوس تتهاوى والبطون تفرى، وتتدخل الشياطين لإنجاد أهل الجحيم والملائكة لإنجاد ملائكة العذاب وتدور حرب طاحنة بين الفريقين يغدو الجبل فيها حصاة تتطاير بين الفريقين والشهب والصواعق سياطاً يترامى بها الطرفان إلى أن يسفر دجى الحرب عن انتصار جيش الشياطين واندحار جيش الملائكة بقيادة عزرائيل ثمّ يطير الثائرون على ظهور الشياطين يريدون احتلال الجنّة ولا يجدون هناك مقاومة تذكر فيتمّون بذلك إحراز نصرهم المبين ويطردون من الجنة من فيها من البله والسذج ويتركون الصالح من أهلها. عندها يستفيق الشاعر على حرّ شمس الضحى، وإذا به كان في حلم أثاره الجرجير يقول:

وتَنَبَّهتُ مِنْ مَنَامِيَ صُبْحاً
وإذا الشَمس في السَّماءِ تُنيرُ

وإذَا الأمْرُ ليسَ في الحقِّ إلاّ
حُلُمَاً قَدْ أثَارَهُ الجَرْجِيْرُ()

وبهذا تنتهي أمنية كانت تعيش في خلد الزّهاوي، يعرّض فيها بكلّ من يريد من رموز تدّعي الدين والتقوى ذاهباً في رؤيته إلى أبعد أشكال الرمز الشعريّ حين يدفع بثورة البؤساء في دنيا الخيال إلى تحطيم كلّ أشكال القهر والحرمان في الأرض، وهو الذي يقول عنها في ردّه على الأمير عليّ بن الحسين شقيق الملك فيصل حين سأله عنها: ((يا سيّدي وماذا تخشى من شاعر بلغ من السنين عتياً، وحاربته الأيام وتكاثرت حوله الأعداء، فانفعل انفعال الشعراء ولكنّه أعجز من أن يضرم الثورة في الأرض فأضرمها في السماء))() كما تكشف الرحلة عن طبيعة تفكير الزّهاوي الذي بدا مقلّداً للفلسفة الغربية ذات النزعة الماديّة الغالبة، ونفسيّته المترددة الخائفة التي لا تستطيع الصمود أمام سطوة السلطان، كما تلمس موقفه من الحياة الاجتماعيّة في عصره، ولا سيما، قضايا المرأة والتزام النضال في حياة الفرد الكريمة وغيرها من القيم الاجتماعيّة التي بدأت المجتمعات تفقدها في ظلّ الحكومات الرازحة تحت الاستعمار.
*
جحيم النّفس محمد حسن فقّي 1912
كتب الفقّي قصيدة جحيم النفس سنة 1952م وهي في المجلّد الأول من مجموعته الكاملة في الصفحات 222- 223- 224- 225. وتتألف من واحد وستين بيتاً على البحر الخفيف الموحّد القافية والرويّ الذي هو ((الميم))().
يتخيّل الشاعر أنّ محبوبته التي هي (نفسه) ماتت قبله فيطلب إليها أن تسبقه إلى الجحيم وتخبر هناك إبليس وأتباعه من الإنس والجنّ بقدومه، وفي الجحيم يخاطب الشاعر هذه النفس التي ساقته إلى هذه المملكة ويحاول أن يطهّرها بالعذاب والاكتواء بالنار لترقى إلى مستوى الطهر الروحي الذي تستحقْ معه أن تسكن النعيم.
في عرض مفاجئ يُسمَع صوت الشاعر يخاطب نفسه بأن تسبقه إلى الجحيم، وفي عتوّ جارف وصلف لا تحدّه حدود يطلب إليها بأن تحثّ سكّان النار على انتظار هذا الزعيم القادم الذي لا يأبه لنار ولا لشواظ ولا لعذاب، فيقول:

اسبقيني إلى الجحيمِ فإنِّي
سأوافِيْكِ في غَدي للجحيمِ

واطْلبي مِن سُراتِهِ أنْ يكونُوا
عِنْدَ أبوابِهِ قُبيلَ قُدومي

أخبرِيهمْ أنَّ الزّعيمَ سَيأتِيـ
ـكُمْ فَهُبُّوا إلى لقاءِ الزّعيمِ()

وهناك يلقاه شيطانه، وماذا يفعل الشيطان أمام من يدّعي أنّه زعيم على الشياطين وقد فاقهم في الإثم والشرّ، حتّى إنّ الأرض لتشكو من مباذله! وليس أمام الشيطان إلاّ أن يرفع له راية الإثمّ وعرفان الحمد على الشرّ الذي فاقه فيه ويجعل هذا الوافد الجديد يتقدّمه إلى النار يقول:

قالَ فيه شَيْطَانُهُ وَهْوَ يُطْريـْ
ـهِ لأَنْتَ الرّجيمُ مَوْلى الرَجيمِ

لستُ أدْرِي فأنْتَ في الشّرِّ مَوهُو
بٌ وفي الإِثْمِ ضَاربٌ في الصّميمِ()

ولكن مَنْ هذه المخاطبة التي يخاطبها الشاعر؟ أهي نفسه الآثمة التي سبقته إلى الجحيم أم فتنته وضلالته في هذه الحياة، أم تراها محبوبته ملهمة الفجور والآثام؟ والأرجح أنّ المخاطبة هنا هي نفسه لأنّه يدعوها في نهاية القصيدة إلى التطهّر من الآثام بالنار لكي تحظى بالنعيم.
أخذ الشاعر في الجحيم يتحسّس من نفسه وهي تعاني عذاب الحريق، ويحمّلها أسباب شقائه، فقد ساقته إلى الآثام، وكانت دليله إلى المهالك والمهاوي فكم زيّنت له سوء عمله فرآه سروراً وسعادة، في حين كانت تسوقه إلى الجحيم يقول:

أَنَا لَولاكِ لَمْ أكُنْ عَارِمَ الصبَّـ
ـوةِ أعْنُو لِخَمرتي ونَديمي

ولِمَا تَنْصبينَ مِنْ شَرَكٍ اللّهـ
ـوِ ومَا تشتَهينَ مِنْ تأثيمِ

قُدتني كالبعيرِ يَلهو بهِ الطّفْـ
ـلُ خَطيماً حيناً وغَيرَ خَطيمِ

ربَّما قادَهُ لسكِّينِ جزَّا
رٍ فيغدُو مِنْ بعدِهَا كالرَّميم()

وفي لجّة جهنّم يحاول الشاعر أن يتلمس مسالك النجاة ولكنّه لا يكاد يتخلّص من هاوية إلاّ ليقع في أخرى، ويطّوف معها في النار معانياً شتّى أنواع العذاب، ويلتقي الشاعر إبليس في النار فيحاول الأخير ثنيه عن السعي إلى النعيم لأنّها والنار -في رأيه- وجهان لنقد واحد فيقول:

قَالَ إنَّ الفِردوسَ قَدْ أَجْدبَ اليو
مَ فما فيهِ من وليٍّ حَميمِ

ولقَدْ جَاءَني رسولٌ منَ الجنَّـ
ـةِ يشكُو إليَّ شكْوَى العديمِ

قالَ هذا وصدَّ عَنْ وجههِ الدَّا
مي شُواظاً أهدتهُ ريحُ السَّمومِ

فتعجَّبْتُ من الرّاوي وقَهْقَهْـ
ـتُ فَوْلّى وَقَالَ: أَنْتَ خَصيمي()

وفي النهاية يلتفت إلى حسنائه المغوية، وقد تغيّرت ملامحها حتّى صارت كأنّها هشيم الحطيم، وقد لفّها الحزن والندم والأسى على ما فوتّت إلى أن صارت قابلة للخلاص من الجحيم فيخرجان إلى الجنّة يقول:

واتّجهنا إلى السّموِّ كِلانا
سَائرٌ في طريقِهِ المستقيمِ

ربَّما طّهَّرَ الجحيمُ نفوساً
شَقِيَتْ قَبْلَ طَهْرِها بالنَّعيم

أيّها النَّفْسُ بَيْنَ جنبَيكِ نَارٌ
تَتَلظّى تفُوقُ نَارَ الجحيمِ

فارحَميني مِنْ الضّريمِ فإنِّي
لَمْ أَذُقْ في اللّظى كهذا الضّريم()

وهكذا يطوف الفقي برحلته الخياليّة التطهيريّة في أهوال الجحيم آملاً أن يتخلّص ممّا دنّس نفسه من أوضار الماديّة وشوائبها الفاسدة، فلم يجد سوى النار وسيلة للخلاص منها، فساقها إلى حتفها لتتطهّر وتصبح جاهزة للتمتع بنعيم الراحة والطمأنينة قبل نعيم الجنّة.
إنّ رحلة الفقّي تعبير عن اليقين بفطرة النفس، ونقائها الأوّل، وقدرتها على التوبة، وعودتها إلى فطرتها، وهي تأكيد لقبول التوبة، فالخير أصيل في الإنسان والشرّ عارض، ولابدّ من زوال العرض وبقاء الجوهر.
ملحمة القيامة: عبد الفتاح القلعجي (1938)
ملحمة شعرية جاءت في كتاب متوسط الحجم بلغ نيفاً ومائتي صفحة، وقد صدرت طبعته الأولى عن دار النفائس في بيروت سنة 1980. وقد اعتمد فيها بنيتها الإيقاعيّة على التفعيلة التي تختلف من نشيد لآخر، وقسّمها مبدعها إلى:
1- الصيحة الأولى.
2- الصيحة الثانية.
3- الصيحة الثالثة.
4- الحساب.
5- المطهر.
6- الشفاعة.
7- الجنّة.
8- النار.
9- ذبح الموت.
يسوق الشاعر -وفق الرؤية الدينية- العالم لنهايته الحتمية كنتيجة لطغيان الماديّة الراسفة في الإلحاد والشرور والأوهام والحروب والدمار والفوضى والفساد فتكون الصيحة الأولى التي يعلنها بوق إسرافيل، وتتالى الصيحات إلى أن تقوم الساعة على شرار الخلق عندها يكون الحشر والأحداث المتلاحقة لوقوف الناس فريقين أمام الله فئة مثّلت الخير والنقاء والصفاء وأخرى مثّلت الجبابرة والطغاة والوضعيين واليهود والطغام من الشذّاذ والأفاقين، ومن المطهر تشخص الأبصار وتظمأ القلوب إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيفصل بين أهل الجنة والنار، ويضرب بينهم بسور من نار، لينعم أهل النعيم بنعيمهم ويشقى أهل النار بعذابهم، وفي انشغال كلّ بنفسه ينادي منادي الرحمن بذبح الموت وخلود الفريقين كلّ في محلّه فيتأبّد حزن الإنسان ويتأبّد فرح الإنسان. ويتردّد صوت الحقّ ((لا ظلم اليوم.. لاظلم اليوم)).
يلهب الشاعر خيال القارئ بما يوحي باقتراب النهاية، فيلفت انتباهه إلى سرّ التحوّل الخطير الذي طرأ على الكون، حيث سار سيراً حثيثاً مفعماً بالأسى إلى نهايته، فالهرج والمرج قد عمّا، والكون قد لبس سديم الدخان والفوضى التي ما تلبث أن تتقشع عن شخصيّة حواريّة تدير حواراً مع شخصيّة أخرى إنّهما الشيخ والفتاة.
يبدأان الحوار فيرسمان ملامح الصورة الأخيرة من سفر الكون الذي سار به بنوه إلى حتفه الأخير، بعد أن سمّروا نعشه بالفساد والاضطراب والماديّة إلى أن يشقّ السكون الكوني صيحة إسرافيل يقول:
بوقُ إسرافيلَ يُنهي العالمَ المسجورَ فينا
وتهاوى النّاسُ أوراقَ خريفْ
كلُّ ما في الأرضِ ماتْ()
ثمّ يسود الصمت ما يشاء الله ليعلن الحقّ جلّ وعلا بدء الصيحة الثانية وينساب صوت الحقّ في خيمة الصمت فتعجّ الحركة في جسد الكون، ولكنّه نشاط مقيّد بإذن الإرادة الإلهيّة، فتنصت إلى همسة الأرواح التي تحوّم في رحلة العودة فوق الأجساد، ثمّ ينطلق اللحن العلويّ إيذاناً ببدء الحياة، فتظهر شخصيتا الشيخ والفتاة، لترويا مجريات الأمور، وربّما كانت الشخصيتان تمثّلان الضمير الإنساني لذلك نجد الشاعر يصرّ على بقائهما أولاً في الرحلة، ثمّ تبدأ الشخصيات بالظهور على ساحة الأحداث لترسم لنا واقعيّة الحدث، فمن كلّ الجهات، هذا رجل وتلك امرأة، وهنا صوت سماويّ، ملك وملكة، كلّ الشرائح الإنسيّة والجنيّة والغرائبيّة كالدجّال والجسّاسة وإبليس.. إلخ. وكلٌّ أصابه الذهول حيث عنت الوجوه للحيّ القيوم.
وفي الصيحة الثالثة تتجدّد الحياة في كلّ شيء ولكنه تجدّد الخوف والرهبة. فكلّ شيء يعود بعد طول اغتراب، إنّها مسرحيّة الحياة التي ينهي الرحمن فصلها الأخير فتتوالى الكرب ويمتدّ يوم المحشر أحقاباً ويقيّد الوقت في صفد اللحظة إلى أن يأذن الله بقوله عزّ وجلّ: (إلى ربِّكَ يومئذٍ المسَاقْ)().
تخرج نار تسوق الناس في أرض تيه لا معلم فيها ولا دليل وفي صورة إيحائية تحت عنوان ((فرار))() يبدو طفل يتضرّع إلى أمّه كيما تضمّه تحت جناح الأمن والرحمة، لكنّ الذهول يتحوّل نحيباً فهذه هي الصاخّة، وتتكرّر الصور لتعكس بوضوح ثنائيات ضدّية كالخوف والرجاء، والسعادة والشقاء، والذلّ والجبروت، وفي هذا التصوير يضرب الشاعر غوصاً في أعماق النفس البشرية، يكشف عنها الأقنعة التي تراكمت عليها، فتظهر شخصيات الناس أشبه بأشباح لا ملامح لها.
حتّى عندما يستخدم الشاعر صورة الرقص فهي لا توحي بالسعادة في الحركة والنفس، بل هو رقص مهول يحمل في اهتزازاته البؤس والشقاء.
ثمّ تنصب الموازين على أجساد تتلوّى من الظمأ القاتل وقد نهش أكبادها طول الانتظار، تتدافع جماعات إلى مكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترجوه أن يدعو الله ليبدأ الحساب، فيدعو النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويُجاب. وتظهر شخصيتا الملحمة لتصفا الحركات والأصوات والصور المتشابهة حتّى ليخال المتلقّي أنّ الشخصيّات جمعت كلّها على صعيد واحد، ثمّ بالتفاتة جميلة يوحّد الشاعر التاريخ على صعيد القيامة في كلّ لحظاته الماضية والحاضرة والمستقبليّة التي لابدّ من وقوعها حسب المعتقد الديني، ثمّ تنصب الموازين والصراط وتظهر الأعراف التي تتميّز عن أعراف الهمشري.
وفي صورة المطهر ترسم صورة راعبة للعذاب، صورة تتداخل فيها الألوان والأصوات ليس للدلالة على الحياة، بل للدلالة على الموت البطيء خوفاً وألماً وقهراً يقول:
ورؤوسٌ رُضِختْ بالصّخرِ، عادَتْ مثلما كانتْ
ولا تفترُّ عنهمْ
فلقدْ كانُوا إذا نادى: الصّلاةَ
اثّاقلوا حتَّى الفَواتْ()
وفي فصل الشفاعة تتوافد الخلائق إلى آدم ثمّ إلى نوح فإبراهيم فموسى فعيسى تطلب إلى هؤلاء الأنبياء دعاء الله، وكلّهم يدفع الناس إلى لاحقه إلى أن تصل الخلائق إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم صاحب راية الحمد والشفاعة الكبرى فيقوم فيدعو الله، فتنصب الموزاين للحساب.
وفي النار يصوّر أبواب جهنّم وألوان العذاب المصفّدة خلف أبوابها، ثمّ يصف حوارها مع أهلها الذين تصلبهم على أعواد الجوع والظمأ حتّى يغاثوا بماء المهل وطعام الضريع إلى قوله:
وتبثّرَ في جسدِ الصمّتِ حسيسُ النّارِ
والوقّادونَ يَغُذُّونَ اللّهبَ المجنونْ
أجساداً وحجارهْ()

أمّا صورة الجنّة فهي على النقيض ممّا عليه صورة النار، فهي زاهية الألوان وارفة الظلال تموج ألواناً وتنوّعاً وجمالاً. فالحبّ يحلّ كلّ حناياها والوسن الناعس يداعب أجفان ساكنيها. وهناك يُسمع صوت الرحمن:
(اُدخُلُوها بسلامٍ آمنين)()
وتبدو أبوابها السبعة وكلّ باب يمتاز عن لاحقه فهذا (باب العُتبة) وذاك (باب الرحمة) وذلك (باب الريّان.... إلخ. عندها يخلع الإنسان أوزار الدنيا وأثقال النقص ليرتدي الحبرة الربانيّة ويحظى بعين العناية الرحمانيّة وتفنى روحه في فغمة الصمدية. يقول:
أحبيبَ التّوقِ انْحَرْ عَطَشي
فإليَّ... إليْ
أفغمني.. أفغمنْي
أواهُ
حبيبي
إنّي أفنى، أفنى، أفنى، أفـ.. ـنـ.. ـى()
ولعلّ أجمل ما في هذا الفصل المجالس التي يعقدها الشاعر في الجنّة على غرار مجالس المعرّي، ولكنّ هذه المجالس ثوريّة واجتماعيّة تذكر تاريخ العمّال والفلاّحين والكادحين والمناضلين ضد قوى الشرّ والطغيان.
ثمّ ما تلبث شخصيّتا المسرحيّة اللتان ظهرتا في بداية الرحلة أن تختفيا بعد أن تكشفا عن ثنويّة الضدّ التي تجمعها ورمزيّة الروح التي آلفتهما، يقول:
الدائرةُ الطّينيّةْ
الزَمنُ الإنسانيُّ
الجنسُ المنشطِرُ
الثنويةُ. نحنُ
ن.. حـ .. ن ن.. ن.. ن()

وتختم رحلة القيامة في المرحلة الأخيرة بما يندمج مع المعتقد الدينيّ الإسلاميّ بذبح الموت، هذا الكأس العلقم الذي طالما سقى المخلوقات من مراره سيسقى أخيراً من الكأس نفسه، عندما يصدع جبريل بأمر السماء وينادي أهل الجنّة وأهل النار وتتقطّع النفوس بين الرجاء والخوف، أهل النار راجون وأهل الجنّة خائفون. ليموت الموت ويخلد كلٌّ في محلّه الخلود البعيد عن مغالطات الأساطير وتناقضاتها، خلود لا ظلم معه أبداً، وليدوّي صوت الرحمن في نهاية الملحمة:
لا ظلمَ اليومْ
لا ظلمَ اليومْ
لا ظلمَ اليومْ()
وهكذا تنتهي رحلة القيامة. هذا الغفران الجديد الذي لبس ثوب الذرة والإلكترون وواكب عصر الطائرة والفضاء، بما يجدّد روح الأمل والإيمان في النفس ويشدّ من إصرها على مواكبة الحياة والعمل من أجل خير الإنسان وبقاء الإنسان.
*
وهكذا بدت الرحلات الخياليّة، في هذه الدراسة الوصفية، في انطلاقها بعيداً عن عالمها زفرات أنين أطلقتها أرواح متعبة أضناها الواقع السياسيّ والاجتماعيّ، هي توّاقة إلى الحرية والخلاص فانطلقت تروم خلاصها ونقاءها في عالم من السحر والخيال. بعد أن تشرّبت من مناهل الثقافة والمعرفة.
ولقد تعدّدت الأماكن والجهات التي انطلق إليها الشعراء كلّ حسب قناعته، فبعض الشعراء وجد ضالته في الأساطير يجلو عنها غبار السنين يستخلص جوهرها النفيس الذي غدا رمزاً شفافاً يحمل التجربة الشعريّة والمعاناة الإنسانيّة، وقد وجد شعراءٌ غايتهم في مدن السحر والخيال التي صارت لديهم شعلة للعلم والمعرفة التي تضيء جوانب حياتهم المظلمة، وبقي الشيطان لدى أغلب الشعراء رمزاً للثورة والشرّ والتمرّد وإن غدا قناعاً يغلّف وجه الشاعر ويخفي رغباته، وفي اتجاه آخر وجد بعض الشعراء غايتهم في عالم الفضاء حيث عالم الروح المخمليّ الذي تشتاق إليه أرواحهم المتعبة، وربّما وجد بعض هؤلاء غايته في الانتقال إلى عالم الموت والآخرة. ويبقى الهدف الأسمى لهؤلاء هو الخلاص الذي تعدّدت لأجله الأماكن، كما كان كشف جوانب الحياة الاجتماعيّة ومعاناة الإنسان غاية سامية تحملها رسالة الشعر من أجل الحياة. وقد وظّف الشعراء كلّ ما لديهم من ثقافة دينيّة وعلميّة وفلسفيّة تحدوهم بذلك رغبة في التجديد في الشعر العربي المعاصر.