الرحلات الخيالية
فـي الشعر العربي الحديث
1999

دراســـــــة



من منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000



إهـــــــداء

بســم الله الرحمـن الرحيـم

{وقل ربِّ زدني علماً }

إلى النور الذي يضيء ظلمة الطريق كلّما ادلهمّت عليّ الخطوب، إلى اللذين يحترقان لينبعث من الرماد والعرق ثمر الحبّ والأمل أسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتهما....
أبي وأمي
إلى من أودعت سرّ التحنان والعطاء وتحمّلت معي المشاق.......
زوجتي
إلى ريحانة السكن والرحمة ابنتي .......
غفران
إلى كلّ الذين كانت قلوبهم معي في كلّ خطوة.......
أخوتي وأخواتي




















بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمــة
الشعر العربي حديقة وارفة الظلال متنوّعة الأزاهير، هدفت الدراسة إلى اختيار زهرة من أزاهيره تمثّل الرحلات الخياليّة في الشعر العربي الحديث لتسلّط الضوء من خلالها على بعض الجوانب الفكرية والفنيّة التي ارتبطت بالواقع العربي، وبدور الشعر الريادي في مشروع النهضة الثقافية العربية المعاصرة.
ويعدّ العنوان مفتاحاً لهذه الدراسة، فالرحلات: عرفها الإنسان مذ خلقه الله واستخلفه في الأرض، وجعل منها فيما بعد فنَّاً أدبياً رفيعاً يحمّله أحاسيسه ويرسم فيه صور حياته. أمّا الخيالية فهي الصفة الخالصة لهذا البحث إذ تميز هذه الرحلات عن غيرها من الرحلات الجغرافية والعلمية والأدبية ((في الشعر العربي الحديث)) تحصر هذه العبارة الدراسة في الشعر دون غيره من الأجناس الأدبية التي عنيت بأدب الخيال كالقصة والرواية، وكلمة الحديث تحدّها في نهايات القرن الماضي امتداداً إلى الثمانينيات من هذا القرن.
ولم تحظّ هذه الدراسة من قبل ببحث مستقل يحلّلها ويوضح مضمونها الفني والفكري، حتى إن لقي بعض نصوصها دراسة ما فهي في إطار دراسة هذا الشاعر أو تلك المدرسة الأدبية.
واعتمدت الدراسة في مصادرها على دواوين الشعراء، فإن لم تجد للشاعر ديواناً التمست النصّ في المجلات والدوريات القديمة.
وقد سارت فصول الرسالة متآخية لتؤلّف هذا البحث. فبدأت بالمدخل الذي يحدّد مفهوم الرحلة الخياليّة، ويعرض للرحلات الخياليّة في الأساطير الشرقية القديمة عند السومريين والبابليين، وفي الملاحم الأدبية والأسطورية كملحمة جلجامش، والأوديسة والإنيادة، ثمّ تقف الدراسة على الرحلة الخياليّة في الأدب العربي والأوربي القديم وتعلّل سبب غيابها في الأدب الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي الأوّل، وتعرض لأهم النصوص القديمة في هذا الميدان كالمقامة الإبليسية والتوابع والزوابع ورسالة الغفران، ثمّ تعرض ((الكوميديا الإلهية)) لدانته.
وفي الفصل الأوّل تقدّم الدراسة عرضاً شاملاً للرحلات الخياليّة المدروسة وفق ثلاثة محاور تحدّد أشكالها، هي:
أوّلاً : رحلات إلى عالم الجنّ والمدن المسحورة.
ثانياً : رحلات إلى العالم العلوي.
ثالثاً : رحلات إلى عالم الموت والبرزخ والآخرة.
وتقدّم لكلّ رحلة ملخّصاً شاملاً ومعلومات توثيقية ترتبط بعدد أبياتها ووزنها وتاريخ نشرها أوّل مرة.ثمّ نعلق عليها بإيجاز.
وتكشف الدراسة في الفصل الثاني أبرز الدوافع الوجدانية والاجتماعية والفنية لكتابة الرحلات الخياليّة حيث تطفو على سطح الرؤى أحلام الحريّة وآلام الحيرة والقلق ورغبات الثورة والتمرّد، والرغبة في تصوير بعض الجوانب الاجتماعية المتردّية وفضح الظلم وإدانة الاستعمار، والنقد السياسي، كما تظهر الرغبة في التجديد والتواصل مع التراث العربي والإنساني القديم.
وفي الفصل الثالث تقدّم الدراسة صورة للعلاقات بين الرحلة الخياليّة والثقافة. كالثقافة الأسطورية والدينية والفلسفية العربية منها والغربية والثقافة اللغوية والأدبية والعلمية.
أما الفصل الرابع: فيدرس الموقف الفكري للرحلات الخيالية وفق أربعة محاور: الأوّل بعنوان: التأمل ويشمل الموت والحياة والروح والجسد والعلم والدين والجبر والاختيار والخير والشرّ. والثاني بعنوان: المعاناة وتعالج فيه الدراسة فضح الفساد الاجتماعي والخلقي وإدانة الجري وراء الشهوات والظلم السياسي والاجتماعي. وفي المحور الثالث وهو بعنوان: الخلاص تكشف الدراسة أهم السبل التي يرى فيها الشعراء خلاصهم وخلاص مجتمعهم كالشعر والحبّ والخيال والفنّ. والفصل الرابع: يضم بعض النوازع الإنسانية كبناء المدن المثالية وسنّ القوانين الإنسانية.
أما الفصل الخامس والأخير: فيعنى بالجانب الفنّي في الرحلات الخيالية، وتقسم الدراسة فيه إلى قسمين يشمل الأوّل دراسة عامّة لخصائص الرحلات الخياليّة كدراسة التقنيات الفنية نحو البدايات والنهايات ومابينها من تحوّلات والعقدة والصراع، ثمّ دراسةعناصر الزمان والمكان والشخصيات، والحوار والتناصّ.
ويقدّم القسم الثاني دراسة تطبيقية للغة الشعرية والصورة في مطوّلة ((على بساط الريح)) لفوزي معلوف كأنموذج للرحلة الخياليّة.
ثمّ تعرض الخاتمة أهم النتائج وتعليق ختامي ويليها ملحقان:
الأول : الكوميديا السماوية للفراتي.
الثاني : شعراء الرحلات الخياليّة.
وقد اعتمدت الدراسة في عرضها وتحليلها للرحلات الخيالية مناهج متعددة محاولة الوصول إلى منهج نقدي تكاملي لمعالجة النصوص الأدبية، فكان المنهج الوصفي رائدها في الفصل الأول، والمنهج النفسي والاجتماعي في الفصل الثاني والثالث والرابع، والمنهج اللغوي والنفسي في الفصل الخامس.
وخلصت الدراسة إلى عدد من النتائج كان منها: أن اختيار المكان يعكس موقفاً فكرياً لهذا الشاعر أو ذاك، وأنّ للدوافع الوجدانية والاجتماعية دوراً كبيراً في حض الشعراء للرحيل خيالياً، كما كانت الرغبة في تجديد ثوب الشعر العربي الحديث والتواصل به مع التراث القديم من أهم الدوافع لذلك، كذلك عكست بعض هذه الرحلات صورة الواقع العربي ومعاناته الفكرية والسياسية والاجتماعية في ظل الاستعمار.

والله الموفق.
دير الزور 1999












المدخــــل


1 - الرحلات الخيالية في الأساطير.
2 - الرحلات الخيالية في الملاحم.
3 - الرحلات الخيالية في الأدب العربي والغربي.






المدخل

الرحلات الخيالية في الأساطير
الرحلة الخيالية هي الانتقال المتخيّل الذي يقوم به الأديب عبر الحلم أو الخيال إلى عالم بعيد عن عالمه الواقعي، ليطرح في هذا العالم رؤاه وآلامه وأحلامه التي لم تتحقّق في دنيا الواقع.
وهذه الظاهرة الأدبية ليست جديدة، فقد أخذ الإنسان القديم على عاتقه إيجاد تفسيرات روحية وفكرية لما يحيط به من ظواهر كونية، وقد روت الأساطير كثيراً من مثل تلك الرحلات.
ولعلّ أقدم رحلة خيالية تقدّمها الأساطير هي رحلة الإله الخياليّة للقضاء على آلهة العماء (تيامات) أو (التنين) وخلق الكون من أشلائها وإجراء الأنهار والبحار من دمها.()
وتعدّ الأسطورة السومرية التي تتحدث عن رحلة الربّة ((إنانا)) إلى العالم السفلي أهم رحلة خيالية أسطورية، وتتلخّص في أن الربّة ((إنانا)) سئمت بقاءها في عالم السماء فتمنت أن تهبط إلى العالم السفلي، فأخذت زينتها وهبطت درجات العالم السفلي السبع، بعد أن كان الحرّاس ينزعون عنها جزءاً من زينتها عند كلّ درجة فوصلت الدرجة السابعة وقد تعرّت تماماً، عندها أمرت ((أريشكيجال)) ربّة العالم السفلي أن تموت ((إنانا)) وتسمّر إلى عمود خشبي، ويشفع لها أرباب العالم العلوي عند ((أريشكيجال)) التي تقبل على شرط أن تقدّم فداء، ويكون فداؤها زوجها دوموزو، الذي تنقضّ عليه العفاريت، كما في الأسطورة، وتسحبه إلى العالم السفلي، ليمكث فيه ستة أشهر، ثمّ يعود بعدها إلى العالم العلوي، وهكذا دواليك.
وتمثّل هذه الرحلة الخيالية إلى العالم الآخر والعودة منه، ثمّ العودة إليه ثانية دورة الفصول الأربعة في بيئة زراعية فسرت فيها الأسطورة الربيع بانبعاث دوموزو والخريف بموته().
وتأتي أسطورة ((عشتار)) صياغة أسطورية أخرى لهبوط ((إنانا)) إلى العالم السفلي، وهي نفسها عشتار، لتمثّل القوة الإخصابية الفاعلة في الإنسان والنبات وعندما احتجزتها ((أريشكيجال)) توقّفت كل مظاهر الحياة، كما تقول الأسطورة، فيتدخّل كبير الآلهة (سن) بسبب اضطراب مظاهر الحياة ولا يقدر على تخليص (عشتار) من ربّة العالم السفلي إلاّ عندما يخلق خصيَّاً رائع الجمال يغري ((أريشكيجال)) ويستميل قلبها حتّى تقسم له قسماً عظيماً أن تلبي أيّ طلب يريد، عندئذٍ يطلب (الخصيّ) قربة ماء الحياة بحجة الشرب، فتدرك ((أريشكيجال)) حيلته التي وقعت في شراكها فتسلّط عليه لعناتها، وكان عليها كذلك أن تفي بالقسم، فتأمر وزيرها (نمتار) أن يزّين قصر العدالة ومسكن الآلهة وينضح عشتار بماء الحياة لتخرج عشتار ومعها زوجها تموز().
وهنا تنتهي الأسطورة بتمايز فريد عن الأسطورة السابقة وإن بدا التفسير لظاهرة الخصب والنماء في البيئة الزراعية واحداً، غير أنّ الرحلة الخياليّة الأولى تمثّل رحلة التجدّد والقوّة التي تصنعها الربّة ((إنانا)) من تلقاء نفسها، في حين تمثّل ((عشتار)) في رحلتها الخياليّة الحركة الجدليّة لدورة الإخصاب والجدب، وقد بدت الرحلتان الخياليتان نموذجاً نمطيّاً ((يتطلع إليه الإنسان أبداً لما يستطيع إليه الحامي أن يفعل من أجله، وصورة للخلاص من ربقة الموت بمعونة الفادي الذي يقبل فيما بعد أن يذوق الموت ليهب من يؤمن به الحياة))().
*
وتتحدّث أسطورة أورفيوس عن رحلة خياليّة إلى عالم الموتى (هاديس) لاسترجاع زوجته (يوريديس) من عالم الموتى، وكانت قد ماتت بسبب لدغة ثعبان، فحزن لموتها أورفيوس أشد الحزن، وتوسّل إلى الآلهة أن تأذن له بالرحيل إليها وإعادتها إلى الحياة، فأذنت له آلهة العالم السفلي بإعادتها إلى الحياة، على شرط أن لا يلتفت إليها طوال الرحلة، فلما بلغ الباب التفت إلى الوراء ليطمئن على زوجته التي هزه إليها الشوق، فحنث بالشرط فسقطت زوجته ثانية إلى عالم الموتى، وأمضى حياته الباقية يعزف على قيثاره حزناً عليها().
والأسطورة توحي بأنّ الماضي لا يمكن أن يعود، كما تؤكّد دور الفن، ولاسيما الموسيقا في التعبير عن المشاعر وعلاج النفس.
*
الرحلة الخياليّة في الملاحم.
وتتضمن هذه الملحمة رحلتين، الأولى رحلة جلجامش مع أنكيدو إلى جبال الأرز وقتلهما إله الشرّ، ثمّ رحلة جلجامش وحده بعدموت صديقه أنكيدو إلى عالم الموتى وركوبه البحار والمحيطات وعودته بزهرة الخلود ثمّ نزوله إلى البئر والتهام الأفعى تلك الزهرة.
وتمثّل الرحلة الأولىصراع الإنسان مع قوى الشرّ كما تمثّل الرحلة الثانية بحث الإنسان عن سرّ الحياة وصراعه مع الموت ذلك المجهول.
لقد كانت رحلة جلجامش تعبيراً عن توق الإنسان إلى المعرفة وكشف المجهول ومحاولته معرفة سرّ الحياة والخلود. والقضاء على قوة الموت والفناء().
*
وتأتي الرحلة الخياليّة إلى عالم الآخرة في ملحمة هوميروس في مقدمة الرحلات الخياليّة في الأدب الإغريقي، وتبدأ الرحلة بعد انطلاق أوديسيوس من جزيرة الربّة (سيرس) إلى العالم السفلي ليقابل العرّاف تيرزياس، وبعد أن يقدم القرابين للإله ((بلوتو)) عند الصخرة العظيمة، يدلف إلى عالم الموتى فتتهافت عليه أشباح الموتى، فيذبّها عن قرابينه بالسيف إلى أن يقابل العرّاف تيرزياس الذي يرشده إلى طريقة الحديث مع الأموات، ويخبره بما سيقع له من حوادث وعنت في رحلته حتى يصل إلى أتيكا ويتغلّب على خصومه ويعيش بقية حياته بهدوء ودعة، ثمّ يختفي شبح تيرزياس فيرى أوديسيوس شبح أمّه وأشباح أصدقائه في حرب طروادة ((أخيل وأجاكس)) وبنات العالم السفلي كما يشاهد ((ثيتيوس الجبار)) وهو يُعذّب بأفعوان هائل مسلّط على كبده إضافة إلى معاناة العطش والجوع الشديدين اللذين لا يستطيع إطفاء لهيب نارهما في أحشائه، وهكذا إلى أن يقابل شخصيات كثيرة في الجحيم كهرقل وبرومثيوس، وعندما يبطئ في موقفه يخشى على نفسه من ((برسوفونية)) التي قد ترسل إليه رأس الجرجون فيترك عالم الموتى وينطلق إلى سفينته مبتعداً ورجاله عن عالم الأموات().
ويبدو أنّ الرحلة الخياليّة حاولت استشراف الغيب وساعدت على إرواء ظمأ النفس التوّاقة لمعرفة شيء عن مصائر البشر بعد الموت.
*
ثم حاول فرجيل (89-19 ق.م)، أن يحاكي هوميروس في الإنيادة، فأراد أن يحفظ أمجاد الرومان في عمل يسجّله التاريخ ويخلّده للأجيال القادمة. وأهم مافي الإنيادة الجزء السادس، وفيه يتحدّث فرجيل عن رحلة (اينياس)، ((فقد نزل في مدينة (كوميه) إلى كهف الكاهنة (سيبيل Sibylle) حيث تتنبّأ له بمغامرات وآلام جديدة، ثمّ يزود بغصن ذي أوراق ذهبية ويقدّم قرباناً للآلهة (بروزربين) وزوجها (بلوتون) الحاكمين على الدار الآخرة... فيصادف ربان سفينة الموتى التي تنقلهم إلى العالم الآخر.. ويلقى الكلب الوحشي ذا الحلاقيم الثلاثة(كير بيروس) الذي يمنع الموتى من الرجوع إلى الدنيا، وهناك يلتقي بمن لم يدفنوا من الموتى المنتحرين... ويرى حقل الدموع وفيه موتى الحبّ، وبينهم (ديدون) التي لا تصغي إلى رجائه وتوسّله إليها أن تسامحه، ثمّ يرى الأبطال الذين سقطوا في ميادين الحرب، ويلقي بالغصن الذهبي المقدّس في نهر (ستيكس) ليعبره ويذهب إلى مقام النعيم، وهناك يلتقي بوالده (أنشيرس) الذي يقدّم له الأرواح التي ستهبط للدار الدنيا ومنهم العظماء الرومانيون من سلالته ثمّ يعبر ذلك العالم مع الشاعر (موزيوس) الذي كان بصحبته في رحلته ويترك الباب العاجي الذي يفصل ذلك العالم عن عالمنا حيث تنطلق فيه الأحلام الخياليّة لعالم الناس))().
وتنتهي رحلة فرجيل الخياليّة بعد أن طاف بإينياس في عالم الموتى لينقل تصوّرات الرومانيين عن جحيمه ونعيمه كما تعكس هذه الرحلة الخياليّة بعض المواقف الاجتماعية السائدة في عصر الشاعر نحو بعض فئات الناس كالمنتحرين الذين يقابلون بالاحتقار والازدراء في الدارين.
وهكذا كانت الرحلة الخياليّة في الملاحم المذكورة وسيلة للإنسان القديم للوصول إلى عالم الموتى المجهول تارة، وصفحة يستشرف من خلالها الرحّالة آفاق المستقبل وغامض الغيب تارة أخرى، كما تبدو الرحلة الخياليّة صورة معكوسة للحياة الاجتماعية في عصر صاحب الملحمة.
*
ثمّ جاء الإسلام فأعطى المسلمين تصوّراً غنياً وعميقاً عن اليوم الآخر، وهو حقّ وصدق، كما أغنى خيالهم، وأشبع نفوسهم، وأراح أرواحهم بحديث الإسراء والمعراج، وكان الاعتقاد به ركناً من أركان الإيمان لديهم، ولذلك استقر في نفوسهم وأشبع لديهم الرغبة في معرفة العالم الآخر.
ولهذا كلّه لم يظهر نصّ أدبي يتصوّر الرحلة إلى العالم الآخر إلاّ في عصور متأخرة، ولعلّ أول ما ظهر في هذا المجال هو قصة الإسراء والمعراج التي توسّعت في حديث الرسول عن الإسراء والمعراج، وهي نصّ شعبيّ نسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
*
الرحلات الخيالية في الأدب العربي والأدب الغربي
ظهرت المقامة الإبليسيّة لبديع الزمان الهمذاني (358-398هـ)، وخلاصتها أنّ أبا الفتح الإسكندري، بطل المقامات، فقد إبلاً له فخرج في طلبها، حتّى ساقته الأقدار إلى وادٍ أخضر فيه أشجار باسقة وثمار يانعة وأزهار منوّرة، ويلتقي في ذلك الوادي شيخاً يجلس على الأرض، فيأنس لحديثه ويبادله القول إلى أن يسأله الشيخ إن كان يروي شيئاً من أشعار العرب فينشد لامرئ القيس وعبيد ولبيد وطرفة، لكنّ الشيخ لا يطرب له، فيطلب إلى الإسكندري أن يسمع فينشده قول جرير:

بَانَ الخَليطُ ولو طَوَّعْتُ ما بَانَا
وقطّعُوا من حِبَالِ الوصْلِ أقْرانَا

فيستغرب الإسكندري منه أن نسب القصيدة لنفسه ويسأله عن سبب ذلك الادعاء، فيتهرّب الشيخ من السؤال بسؤال عن شعر أبي نواس فيسمعه الإسكندري قول أبي نواس:

لا أندبُ الدّهْرَ رِبْعَاً غَيرَ مأنُوسِ
ولسْتُ أصْبُو إلى الحادينَ بالعيسِ

وهي قصيدة ماجنة فيطرب لها الشيخ ويشهق ويزعق، فيقول له الإسكندري: قبّحك الله من شيخ، لا أدري أبنتحالكِ شعر جرير أنت أسخف أم بطربك من شعر أبي نواس وهو فويسق عيّار؟ ... فيردّ عليه الشيخ ردّاً طويلاً مسجوعاً، على عادة الهمذاني ليكتشف الإسكندري أن الشيخ الذي قابله هو شيطان شعر جرير، وهو الذي ألهمه النونية التي مرّ مطلعها().
ولقد استفاد الهمذاني في رحلته الخياليّة تلك من أسطورة شيطان الشعر المشهورة، فكانت سابقة فريدة في الأدب العربي تبعتها تجارب مشابهة وربّما كانت مستقاة من جوهرها كرحلة التوابع والزوابع لابن شهيد.
وقد استوحت رحلة التوابع والزوابع لابن شهيد (382-426هـ)، فكرة المقامة الإبليسية، حيث يرتحل ابن شهيد مع بنات أفكاره محلّقاً على أجفان الرؤى، مبتكراً شيطان شعر خاصّاً به ينقله إلى أودية الجانّ، ليلتقي من يشاء من شياطين الشعراء وقرنائهم من الجنّ، ويطارحهم الشعر والنثر وفنون الأدب، ويسألهم عمّا ألهموه لأدبائهم من شعر ونثر وينشدهم بعض شعره. وهو في مطارحته كلّها يحكم على نتاجات من سبقوه ويبدي آراءه في أشعار خصومه من الشعراء خاصّة، وغايته في ذلك كلّه إثبات علو كعبه، والمفاخرة بمكانته العلمية والأدبية متخذاً من إجازات فحولهم شهادات فخر له، ويعرض ابن شهيد في توابعه لشيء من الظواهر الاجتماعية السائدة في عصره، كالحبّ والغزل اللذين صارا مرضاً لا يكتفي بالناس، بل يمتدّ إلى حيواناتهم، وغايته من ذلك التفكّه والتندّر في هذه الرحلة.
وهكذا بدت رحلة التوابع والزوابع كمحاولة جديدة استطاع الشاعرمن خلالها طرح آرائه الشعرية والأدبية والعقلية، وصبّ جام غضبه على خصومه وحاسديه، ورسم من خلال صورة فكهة ونادرة بعضاً من ملامح المجتمع الأندلسي في عصره.()
*
ثم جاءت رسالة الغفران للمعري (363-449 هـ)، وتقسم إلى قسمين رئيسين يضمّ الأوّل: الرحلة إلىجنّة الغفران وجحيمه، ويضمّ الثاني: الردّ على رسالة ابن القارح، علي بن منصور، ويهمّ الدراسة القسم الأوّل من هذه الرسالة وفيه نجد ابن القارح في فردوس الغفران، حيث يعقدمجالس الأدب والمنادمة ويصطفي له ندماء من اللغويين والنحويين أمثال: المبرّد، وابن دريد، والمفضّل الضبّي، والأخفش الأوسط، وثعلب، والخليل، وغيرهم. ثمّ يطوف في رياض الجنّة ويلتقي الشعراء الجاهليين -ممّن غفر الله لهم- والإسلاميين، ويطارحهم الشعر والقريض، ويجلس إلى الأعشى وزهير وعبيد والنابغة الذبياني والجعدي وأبي ذؤيب الهذلي، ويعرض لأسباب دخول هؤلاء الجاهليين الجنّة وتتداخل الأحداث وتتسارع بين جدال وشجار ونقد وتعريض، ويلتفت بعد ذلك المعرّي بابن القارح خطفاً إلى الوراء ليروي ابن القارح على أسماع الشعراء وقائع الحشر والقيامة، وماكان فيها من أحداث مهولة وما لقيه ابن القارح من عنت، حتّى فاز بشفاعة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ينتقل ابن القارح من هذه المجالس الأدبية إلى جنّة العفاريت ويلتقي (بأبي هدرش، الخيتعور)، الذي كان قد ألهم أمرأ القيس معلقته المشهورة التي مطلعها ((قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ))، ويحاوره ويطارحه القصيد. وفي أطراف الجنّة يقابل (الحطيئة العبسي)، في كوخٍ حقير وضيع، ويرى الخنساء تطلّ على شفير جهنّم ترقب أخاها صخراً والنار تضطرم برأسه وتبكيه بأحرّ الشعر، ثمّ يطلّ ابن القارح نفسه على الجحيم ليرى شعراء الجاهلية والزنادقة وبعض الكتابيين ممّن وجبت في حقهم النار أمثال عنترة وامرئ القيس وعلقمة الفحل وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد، والأخطل التغلبي وبشار بن برد، يحاورهم ويطارحهم في مسائل لغوية، وقضايا أدبية، ثمّ يعود إلى الجنّة ليلتقي بآدم عليه السلام، ويحاوره فيما نسب إليه من الشعر، ثمّ يدخل روضة الحيّات ويقابل حيّة فقيهة بالقراءات، ولكنّه يخرج مرعوباً بعد أن دعته واحدة منهنّ إلى البقاء معها. ويدخل جنة الرّجاز ويلتقي رؤبة بن العجّاج ويقع بينهما شجار، ويعلو الصياح إلى أن يتدخّل العجّاج حاجزاً بينهما، ثم يستقرّ ابن القارح في الجنّة يتمتّع بما فيها من نعيم. وتنتهي الرحلة عند هذا الحدّ.()
لقد كانت رسالة الغفران رحلة خياليّة صوّرالمعري من خلالها رؤيته للجنّة والنار وفهمه لهما، وعبّر من خلالها عن موقفه من الأدب والشعر والشعراء والحياة والمجتمع، مستفيداًفي ذلك كلّه من قصّة الإسراء والمعراج ومن التصوّر الإسلامي للجنّة والنار وإن كان لا يعبّر بالضرورة عن صورة الجنّة والنار في الإسلام، ممّا يجعل صورة الجنّة في رسالة الغفران هي تصوّر المعرّي لها.
وهكذا بدت الرحلة الخياليّة في الأدب العربي مبنيّة على التصوّر الشعبي الأسطوري، لأسطورة شيطان الشعر لتحمل قضايا الأديب في عصره ولتعكس الوجه الاجتماعي لبيئة تعنى بالفنّ والأدب وتقيم وزناً عظيماً للأديب كما حملت الرحلة تصوّر بعض الشعراء الأدبي والفكري للجنّة والنار، وإن كان هذا التصوّر متأثّراً بالثقافة القرآنية والنبوية فهو يحفظ للأديب خصوصيّة الرؤية والتصوّر.
*
ثمّ ظهرت رحلة خياليّة للشاعر الإيطالي دانته (1265- 1331) لم تنشر باسمها المذكور إلاّ سنة 1555 وتقوم الرحلة الخيالية على الرحيل إلى عالم الآخرة وعرض هذا العالم من وجهة النظر الشخصية الموشّاة بالثقافة الدينية المسيحية الشائعة في عصرها.وتقسم الرحلة إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم، والمطهر، والجنّة، وكلّ جزء مكوّن من ثلاثة وثلاثين نشيداً مع مقدمة في نشيد واحد.
والجحيم هومملكة الظلمات ووادي المهاوي الأليم، حيث يهوي الإنسان الذي لايحيا حياة الحكمة والفضيلة في معناها الإنسانيّ والاجتماعيّ وهذا الجحيم في باطن الأرض في أبعد مكان من الله حيث تسقط الأرواح كالأوراق الجافّة فارقت غصونها وتُركت إلى ثقلها المادي، إلى طبيعتها الأرضيّة حين لم تحاول الارتقاء روحياً، ويرحل إليها دانته مع (فرجيل) رمز الحكمة الشعرّية ويصلان معاً إلى الطبقة الأولى، وممّن يقيمون فيها العلماء والشعراء الذين ساعدوا على رقيّ الإنسانية ولكنّهم ليسوا من المؤمنين ومنهم ابن سينا وابن رشد، وفي الدائرة الثانية المترفون تدور بهم عاصفة دائبة لا تهدأ، وفي الثالثة الشرهون بطونهم إلى الأرض يفترسهم الوحش ذو الحلاقيم الثلاثة، وفي الرابعة البخلاء والمترفون يدحرجون الصخور، وهكذا حتّى يبلغ الدرك الأسفل حيث الشيطان في أبعد منطقة من الله وهي منطقة الزمهرير.
والمطهر جبل في الأرض مرتفع مقابل لمنطقة الجحيم التي هي مركز الأرض، وفي المطهر المذنبون يكفّرون عن سيئاتهم ولكنّهم يختلفون عن سكّان الجحيم بأنّهم تائبون، لذلك لديهم الأمل في النجاة، وكلّما نجت روح من أرواح المطهر انطلقت إلى عالم الخلد فيهتزّ الجبل، وهو ذو سبع دوائر، وفي قمته الجنّة الأرضية حيث تظهر (بياتريتشه) حبيبة الشاعر في الطفولة. عندئذٍ يترك (فرجيل) ليصحب (بياتريتشه) في السماوات السبع ذات الكواكب المتحرّكة. ثمّ السماء الثامنة ذات النجوم الثابتة، وهي عرش الله حولها تسع دوائر من لهيب فيها جوقات الملائكة تسبّح بحمد الله وعظمته في ألوان ومناظر تبهر، ثمّ السماء العاشرة أرفع منطقة تسكنها الأرواح الخالدة.
وتنتهي رحلة دانته عند هذه الدرجة بعد أن استطاع أن يحلّق بخياله بعيداً في ملكوت السماوات ويحقّق لنفسه ماقد فقده في دنيا الناس من مكانة اجتماعيّة وسياسيّة، وماقد حرمه من تحقيق ذاته الإنسانيّة العاشقة في الأرض كان قد حقّقه في السماء وانتقم لنفسه من خصومه السياسيين كما انتصر لعقيدته من خصومه الدينيين().
لقد اتضح من خلال عرض الرحلة الخياليّة القديمة بدءاً بالأسطورة وانتهاء إلى الكوميديا الإلهيّة الدور المهم الذي أسهمت فيه الرحلات الخياليّة في عكس آمال الإنسان وطموحاته التي يريد تحقيقها وذلك بعد أن يقتحم عوامل مجهولة. ربّما تكون قد شغفته شوقاً لكشف مجاهيلها. فكانت الرحلة وسيلة لتحقيق التجديد الإلهي الخالد في الأسطورة السومريّة والأكاديّة،ووسيلة معرفة واستشراف للمستقبل في الملاحم القديمة كملحمة جلجامش والأوديسة، وطريقاً يصل المرء من خلاله إلى الخلود الفكري في الإنيادة، ومسرحاً يستعرض فيه الأديب قدراته الفكريّة والفنيّة والأدبيّة، يوجّه فيها النقد لخصومه وربّما يضرم نار الانتقام في رؤوسهم كما هوحال الرحلة في الأدب العربي القديم والأدب الأوربي.