غرفة تناثرت بها بعض الأرائك ذات اللون البني .. وتوزعت هنا وهناك بعض المزهريات البسيطة حاملة بجوفها وروداً للياسمين .. وخارطة فلسطين تصدرت الواجهة .. وارتمت بعض صور الشخصيات الوطنية بتكاسل على جدران الغرفة بشكل رتيب متناسق .. وساعة تحوي بداخلها صورة المسجد الأقصى ، وعقاربها التي تتلاحق لتذكرك بالقدس وأزقتها القديمة .. وستارة مرتمية بدلال حاجبة صخب الشارع وأنامل الشمس الحارقة ..
رفعت بصرها لترى الساعة المعلقة أمامـها " .. لقد حان موعد الغذاء .. " ، وضعت الكتاب الذي كانت تتصفحه جانباً ، ونهضت متجهة إلى غرفة نومها .. دلفت غرفتها ورنت بنظرتها الحنون في أرجائها وتأكدت من أن كل شيء في مكانه .. وقفت أمام المرآة ، تحسن من هندامها ، وانتقلت بيدها لخصلات شعرها الهاربة .. مررت أناملها الرقيقة على صفحة وجهها الجميل .. الذي طالما أحبته .. كانت تعلم جيداً بأن جمالها آسر للعيون .. " ولكن .. يا إلهي .. " ، صعقت عندما رأت بعض تجاعيد الزمن الرقيقة مرسومة حول عينـاهـا .. كـيف ذلك .. ؟ متى تم رسم هذه الخطوط البلهاء .. ؟ كيف سـرقها الزمن خلسة .. ؟
أخذت أناملها المرتجفة تتأكد مما رأته عيناها .. ظناً منها أن المرآة تخدعها .. واتجهت بخطوات ثقيلة إلى سريرها .. وجلست بتثاقل على حافته .. وعيناها ساهمتان يلونهما الفزع .. كانت تخاف الزمن بملابسه الرثة .. وسعادتها أن تسمع كلمة إطراء على جمالها الأخاذ .. وهاهي سياط الزمن تجلد وجهها الجميل ..
استيقظت من كابوسها على صوت طفلتها يناديها .. هبت مسرعة إلى حيث ترقد صغيرتها ..
- ما بك يا حلوتي .. ؟
جلست بجوار طفلتها .. وأخذت تمسد خصلات شعرها بسعادة مناقضة لحالتها قبل استيقاظ ابنتها ..
- أين بابا .. ؟
- سيأتي من عمله بعد قليل .. هل أنت جائعة .. ؟
- نعم ..
نهضت سلوى بخفة لم تعهدها من قبل ..
- يا حبيبتي .. سأحضر لك بعض الطعام بسرعة .
- لا .. ماما .. سأنتظر بابا لآكل معه .
- هل أنت متأكدة بأنك ستتحملين حتى موعد الغذاء ؟
- نعم .. أنا كبيرة ..
ابتسمت سلوى من رد ابنتها ذات الثلاثة أعوام .. " أنا كبيرة ".. وتذكرت غباء أفكارها عندما كانت مختلية بنفسها في غرفتها .
- إذن .. ما دمت كبيرة .. فهيا اذهبي واغسلي وجهك بمفردك .. وتعالي لتساعدينني في إعداد الطعام لبابا .. هيا يا حلوتي ..
حملت طفلتها من سريرها وقبلتها وأنزلتها إلى الأرض .. فلامست قدماها الصغيرتان أرضية الغرفة العارية .. وأخذت تلبسها نعلها .. لكن طفلتها الكبيرة أبت ذلك ، وأرادت أن تلبسه بمفردها .. وفعلاً لبسته .. وبسمة نصر ارتسمت على شفتيها الصغيرتين ، انطلقت ضحكة رائعة من والدتها .. جعلتها في حيرة من أمرها ..
- أهكذا يلبس الكبار أحذيتهم .. ؟
نظرت طفلتها إلى قدميها الصغيرتين ورأت أنها فعلاً قد لبست نعليها .. فقدماها بداخل نعليها .. ورفعت عيناها وقالت بمكر طفولي :
- وأنت كذلك مثلي ..
- وهل القدم اليمنى تنتعل حذاءاً مخصصاً للقدم اليسرى ..
وصرخت طفلتها باستياء واضعة يدها الصغيرة على فمها .. كيف أخطأت خطاءً كهذا ..
- لا عليك يا حلوتي .. اذهبي واغسلي وجهك الآن .. هيا ..
ودعت بنظراتها طفلتها التي ذهبت مسرعة لتغسل وجهها .. وفجأة احتلت صورة زوجها الحبيب صفحة عيناها .. وأحست بألم السعادة يعتصر قلبها .. لقد كانت سعيدة بزوجها وطفلتها الوحيدة ..
تذكرت حياتها الفارغة قبل أن ترتبط بزوجها .. نعم .. لقد كانت حياة فارغة من المعاني السامية .. كان همها الوحيد هو الاهتمام بجمالها .. وآخر الأغنيات التي تنزل السوق .. وأحدث صيحات الموضة .. كان غرورها الأنثوي سلاحها الذي تشهره مراراً على أي شاب يتقرب منها .. ولقد كسر سلاحها الوحيد بين يدي رجل .. تجرأ على حيـاتها الفارغة ، وأدخلها إجبارياً إلى حياته .. التي قال لها مراراً .. أنها حياة الملايين من شعبهما .. كانت تكره فيه تكبره على حياتها .. وتكره منه كلماته التي لا تفقه منها شيئاً .. وبقدر كرهها له .. أخذت صوره تحتل أروقة حياتها .. كانت تحاول دائماً كسر كلماته بعدم الانتباه له أثناء حديثه .. ولكن الغضب الذي أرادته لم يرتسم على محياه .. حاولت مراراً أن تقحمه في حياتها الصاخبة .. أن تشركه في هواياتها .. التي كان دائماً يقول عنها أنها هواية ذوي العقول المريضة .. كرهت ذلك الرجل الذي حطم غرورها .. الذي جعل الأشياء التي كانت تهواها تكرهها .. ومن دون أن تشعر أصبحت تتوق لأحاديثه عن الفقر والتعليم .. عن القضية والوطن .. عن المخيمات واللاجئين .. وعشقت أغاني مرسيل خليفة الوطنية بالقدر الذي كانت تحب فيه أغانيها المفضلة .. والتي كرهتها الآن ..
أحست بيد رقيقة تمسك بيدها .. وإذا بها طفلتها تريد أن تنهضها ليحضران معاً طعام الغذاء .. نهضت وابتسامة خجل لونت وجهها .. ظناً منها أن طفلتها كانت ترى ما يعتمل في مخيلتها ، ومسدت بنظراتها وجه طفلتها الجميل .. وتذكرت هلعها السخيف الذي راودها قبل استيقاظ طفلتها .. لقد كانت سخيفة بأفكارها الغبية تلك .. الأفكار التي رمت أسمالها في الماضي .. ها هي تقتحم عليها حياتها الهادئة ، لتثير بداخلها تمرداً كاد أن يكبر لولا صوت ابنتها الملائكي ينتشلها من وادي الخوف الذي وقعت فيه بأفكارها .. طفلتها الحبيبة هبة الله لها .
زادت ابتسامتها اتساعاً وهي تنظر في عيني ابنتها السوداوين .. وأمسكت بيدها الصغيرة .. واتجهتا لإعداد الطعام .. وكل تفكيرها تحول إلى إشراك وحيدتها في كل شيء يثير بداخل قلبها الصغير تقديس الوطن .. فهي الأمل الذي ستتعهده حتى يمد جذوره في الأعماق .. فيصعب اقتلاعها من قضيتها .