تلسكوب ماجلان .. أكبر عين أرضية مُوجهة نحو الفضاء في المستقبل القريب!


1
حين يتم الإعلان عن مشروعٍ علمي ضخم؛ لا بد أن تكون جميع الآذان صاغية، والأبصار خاشعة، لمعرفة التفاصيل والأدوات والهيئة التي سيخرج بها هذا المشروع؛ و التي في العادة يكون أسطورة تعجز الكلمات عن وصفه ..
ينطبق ماسبق على المشروع العبقري الذي ينتظره العُلماء، و المُهتمون بعلوم
الكوزمولوجي ” الكونيات أو الكون الفيزيائي ” والفضاء، حيث أننا على موعدٍ مع أكبر تلسكوب أرضي عملاق في المستقبل القريب.
تلسكوب ”
ماجلان ” العملاق؛ هكذا اسمه؛ يتم العمل على بنائه منذ العام 2013، ليُصبح جاهزاً خلال بضعة أعوامٍ قادمة. وهو واحد ضمن مجموعة من التلسكوبات الأرضية؛ المُعدُّ بناؤها خلال أعوام، وأعوامٍ مُقبِلة.
الجدير بالذكر؛ أن الفريق القائم على هذا المشروع؛ اختار اسمه تيمناً بالمستكشف البرتغالي ”
فرناندو ماجلان “؛ الذي نال الهوية الأسبانية بعد أن خدم الملك الإسباني “كارلوس الخامس” في الإبحار غرباً، بحثاً عن طريقٍ يؤدي إلى جزر التوابل ” جزيرة الملوك في أندونيسيا “.
قبل البدء في شرح التفاصيل، لا بد من الإشارة إلى أن القائمين عليه؛ هم نُخبة من العلماء، و المهندسين، و التقنيين وحتى مسؤولي السلامة، الذين اخْتِيرُوا من دولٍ حول العالم لتنفيذ المشروع. يقول بات ماكارثي مُخرج المشروع كلكمة افتتاحية تُبارك هذا العمل:
إن جوهر جنسنا البشري يتمثل في الاستكشاف – لإيجاد إجابات جديدة ومعنى جديد لهويتنا
موقعه

صورة تخيلية ثلاثية الأبعاد لمنظر التلسكوب فوق أعلى قمة في صحراء تشيلي
يتم تجهيز الموقع الذي سيُشيّد عليه في صحراء ” أتاكاما ” في تشيلي؛ في مرصد ”
لاس كامباناس” تحديداً. موقعه الجغرافي ” المثالي ” هذا؛ يعطيه ميزة كبيرة، حيث يبلغ ارتفاع المكان ما يقرب من 2550 متراً، و يخلو تقريباً من الغطاء النباتي بسبب قلة الأمطار هناك، مما يجعل الموقع بيئة قاحلة.
هذا يُعطي التلسكوب قابلية كبيرة ومذهلة في الرصد لأكثر من ” 300 ” ليلة سنوياً. وضع مُنفّذوا المشروع خطة عمل؛ بحيث سيتم الانتهاء من بنائه، وبدء أول عمله التجريبي الكامل في العام 2021.


هكذا سيكون شكله في العام 2021
أهم ما يميز هذا التلسكوب؛ هو أنه مصمم بحرفية مُذهلة؛ حيث سيتمتع بدقة عالية في الصورة الضوئية المُلتقطة، تفوق دقة تلسكوب ”
هابل ” الهائم في الفضاء؛ بعشر مرات. لذا؛ دعونا ننطلق في رحلة تصف لنا كيف سيكون ذلك.
التركيب العام

منظر لتركيب التلسكوب العام من مرايا على شكل وحدة ” خلية “سُداسية
تركيبه العام؛ هو عبارة عن وحدة تركيب ” خلية ” سُداسية الشكل، مُكوّنة من سبعة مرايا تلسكوبية مُنفصلة؛ ومُتراصة بجوار بعضها، و تُعتبر هذه الوحدة التركيبية هي الأصلب من بين الوحدات المُكوّنة من مرايا على الإطلاق.
الوحدة مُركّبة كالآتي..
ستة مرايا دائرية الشكل، بطولٍ قطري لكل مرآة يساوي 8.4 متر، ووزن قَدْره 18 طناً. تتراص هذه المرايا الست بجوار بعضها حول المرآة السابعة، التي تعتبر نواة الوحدة.
هذه الأخيرة؛ موضوعة في مركز المحور البصري الرئيسي للوِحدة السُداسية؛ ويصل طولها القُطري إلى 24.5 متراً. بذلك؛ تبلغ المساحة الإجمالية لتلك الوحدة مُجتمعة حوالي 368 متراً مربعاً.

طريقة تصنيع المرايا لتلك المهمة
هذه المرايا مكونة من ثلاثة مراحل: قالب فارغ، زجاج مُنخفض التوسّع، الغطاء الأخير وطبقة الألومنيوم، ثم مرحلة الصقل أو التلميع.
أولاً؛ قالب دائري كبير بطول قطري – كما ذكرت سابقاً 8.5 متر

هي عبارة عن قالب فارغ، يتم تشكيله بواسطة درجة حرارة عالية، من مواد مقاومة للحرارة. يوضع القالب نفسه في حوضٍ مصنوع من مادة كربيد السيليكون اللاصقة، تصطف على جوانبه ألياف من السيراميك. هذا الحوض ” الجزء السفلي ” هو بمثابة فُرن يعمل على إذابة الزجاج داخل القالب.

صورة مقربة لمكونات القالب الداخلية
يتم تعبئة القالب بكمية ألياف من ” الألومينا والسليكا ” تقدر بـ 1700 من تلك الألياف، توضع في خانات أو فراغات سداسية الشكل صغيرة داخل القالب؛ و التي بدورها تشكّل هيئة عامة بِشكل ” خلية العسل “. السطح العلوي لتلك الخانات، يجب أن يأخذ شكلاً شبه كروي عند الانتهاء منه لتكوين سطح المرآة النهائي.

ثانياً: الزجاج منخفض التوسّع

كُتل زجاجية مصنوعة بمُعَامِل تمدد حراري منخفض
الزجاج منخفض التوسع ..هي عملية تُجرى على الزجاج أثناء التصنيع؛ بحيث يتم تصنيع كتل منفصلة من الزجاج في المختبر بمُعامل تمدد حراري منخفض. يحتوي هذا الزجاج على السيليكا و نسبة أقل من 10% من ثاني أكسيد التيتانيوم. يجب الإشارة إلى أن الشركة القائمة على عمل هذا الزجاج خصيصاً لهذا المشروع، هي شركة يابانية تدعى ” أوهارا “.

عملية ملء القالب بكتل الزجاج
بعد إعداد القالب؛ يتم فحص كل كتلة من الزجاج قبل وضعها فيه، و توضع كمية من الزجاج في القالب الواحد ما تزن 18 طناً.
ثالثاً: الغطاء

المرحلة قبل الأخيرة؛ وضع الغطاء على القالب
يوضع غطاء على سطح القالب؛ ثم يُؤتَى بالجزء العلوي من الحوض ” وهو بمثابة الجزء العلوي من الفرن “، حيث يحتوي على لفائف تسخين في الجدران والغطاء؛ وهما يرفعان درجة الحرارة داخل القالب إلى درجة حرارة 1160 درجة مئوية.
تُستخدم في تلك العملية التصنيعية للمرآة أيضاً، عملية فريدة من نوعها تدعى ” spin cast “، التي يتم فيها تدوير الفرن ” جعله يدور” أثناء التسخين ليُذيب الزجاج داخل القالب. هذه العملية تعطي سطح المرآة شكلاً مستديراً مُتكافئاً؛ حيث تدور المرآة ” داخل الفرن ” بمعدل خمس دورات في الدقيقة.

بعد ذلك؛ يتم الحفاظ على درجة الحرارة العالية داخل الفرن؛ لمدة أربع ساعات للسماح للزجاج بالذوبان وملء القالب بشكل متجانس. ثم بعدها؛ يتم تبريد الزجاج سريعاً إلى درجة 900 درجة مئوية، ويترك في المرحلة النهائية ليَبْرد ببطء أكثر لمدة ثلاثة أشهر، لتجنب التوتر أو ” التبلور ” السريع في المرآة.
رابعاً وأخيراً: الصقل أو التلميع

السطح النهائي هو عبارة عن طبقة رقيقة من الألومنيوم؛ مما يعطي مجالاً أوسع وأقصى قدر من الانعاكسية. جميعُ تلك المرايا السبع، مصنوعة ومصقولة بمعايير بصرية طبية دقيقة، ويحيد السطح النهائي المصقول عن الهيكل المطلوب بمقدار 25 نانومتر، أو بمقدار 20/1 للطول الموجي للضوء الأخضر .
المقاييس البصرية للمرايا
بعد صقل المرآة، يتم اختبارها مراراً وتكراراً لضمان جودتها، وأنها قد وصلت إلى الهدف المطلوب. هذه المرحلة تسمى ” مرحلة المقاييس البصرية “، و هي أهم جزء يتم العمل عليه بدقة أثناء التصنيع.
وفقاً لترتيب المرايا داخل الخلية السداسية، كل مرآة يجب أن تكون شبه كروية إلى حدٍ كبير، وسطحها منحنٍ بشكل حاد بدرجة انحناء محددة، وأحد جوانب المرآة يكون أكثر سماكة عن غيره؛ بنسبة تصل إلى 14 ملم عن بقية الجوانب.
ما يزيد الأمر صعوبة؛ هو أن كل قطعة مرآة تُصنع بشكل منفصل. والمطلوب؛ هي أن تكون جميعُها لها نفس درجة الانحناء المحددة، ومقاييس التصنيع، مما يُسمح لها بالتقاط الضوء وفقاً للهدف والمعايير المُخطط لها.
لتحقيق ذلك، يتم صنع كل مرآة، وفور الانتهاء من مرحلة التلميع، تُقاس معاييرها بعناية. نتائج هذه القياسات، تعد كدليل على تقدمها كما يقول القائمون على المشروع. بعد ذلك؛ تأتي مرحلة التصحيح البصري.
مرحلة التصحيح البصري للمرايا
تتم تلك المرحلة لتصحيح انحناءات سطح المرآة -إن وجدت- ، حيث يتم الاستعانة بالليزر لتصحيح ذلك الانحناء في اختبار أوليّ. و تستخدم بعد مرحلة الليزر؛ ثلاث وسائل إضافية للتحقق من شكل المرآة..
اختبار المسح pentaprism: وهو اختبار مستقل عن الانحرافات ذات الترتيب المنخفض، الذي يمنع احتمالية وجود خطأ في مرحلة التصحيح باستخدام الليزر.
معنى المسح pentaprism: هو عبارة عن منشور ذو خمسة أوجه، له سطحين من الفضة يعطي انحرافاً مستمراً ثابتاً من جميع أشعة الضوء خلال 90 درجة.
قياس تعقب الليزر: من خلال توفير قياسات مستقلة عن نصف قطر الانحناء و الإستجماتيزم ” اللابؤرية “.
اختبار القص: الذي يؤدي لإزاحة جزء قدره ” زيادة أو نقصان نصف متر ” حول المحور البصري، وهذا الاختبار سيؤكد دقة الاختبار الرئيسي _بالليزر_في المقاييس الصغيرة.
المعاهد والمراكز العلمية المُشاركة في المشروع
هذا المشروع العملاق ليس حكراً على أحد سوى البشرية؛ حيث يقع مكتب المشروع الرئيسي في ” باسادينا – كاليفورنيا “؛ ويُشارك في تنفيذ هذا المشروع؛
أحد عشرة منظمة ومؤسسة تعليمية وبحثية من دول حول العالم؛ مُتمثّلة في الآتي:
جامعة
هارفرد، جامعة شيكاغو، جامعة أريزونا، جامعة تكساس في أوستن، جامعة A & M في تكساس، الجامعة الوطنية الأسترالية، معهد كارنيجي للعلوم، معهد كوريا لعلوم الفلك والفضاء، معهد سميثسونيان، مؤسسة دعم لعلوم الفلك في أستراليا ، مؤسسة أبحاث ساو باولو – FAPESP.
أهم
القائمين على تنفيذ المشروع؛ هو الدكتور إدوارد موسيس رئيس المشروع، باتريك ماكارثي المُخرج، وويندي فريدمان التي تقول بكل فخر:
الموهبة العلمية والتقنية الجماعية الهائلة في تلسكوب
ماجلان العملاق؛ اتحاد سيسمح لنا بأن نعود إلى الخلف من حدود الفلك وتمكين الاكتشافات المستقبلية
بالإضافة إلى قائمة طويلة من أولئك العباقرة؛ القاطنين في عدة أماكن مُتفرقة، يعيشون مُغامرة فريدة من نوعها؛ في تصميم وتشييد عينٍ أسطورية تتمركز في عالمنا الأرضي، وتقتحم عالم الفضاء، وعلم ” الكوزمولوجي ” مُجْملاً، التي ربما تُعْطينا نتائج مُذهلة لم نكن نتوقعها يوماً عن الكون الفسيح.
بعيداً عن التعقيد في شرح كيفية صناعته، أو مبادئ فيزياء الضوء التي يعمل بها؛ يُمكنك إلقاء نظرة على هذا الفيديو ” ثلاثي الأبعاد ” الذي يوضّح كيفية وقوف هذا العملاق موجهاً للسماء كما لو كان في المستقبل.
أخيراً .. للتذكير فقط؛ كما أسلفتُ في بداية المقال، هذا التلسكوب بدأت فكرته والعمل عليه منذ العام 2013، و انتهى الفريق من تجهيز المرآة الثالثة فقط؛ وسينتهي منه نهائياً في العام 2021، وسيُختبر اختباره التجريبي حينها. لَك أن تتخيل عزيزي القارئ حجم الصبر والإصرار وحُب العلم في صورة كهذه، حيث لا مجال للخطأ.
ويمكنني القول أيضاً بكل ثقة، بأن علم ” الكوزمولوجي ” تحديداً؛ بكل ما يحمل و ما يتعلق به، هو من أروع العلوم التي ستهيم فيها مُنَوّماً مغناطيسياً حتى لو لم تكن لديك أيّ خلفية مُسبَقة نحوه. تلك الألوان و الصور المُذهلة التي تأتي من عالمٍ مجهولٍ نسبياً -أو تماماً-؛ سيدفعُك تلقائياً للبحث في خفاياه و نظرياته؛ التي تبدو في كثيرٍ من الأحيان غير مَنطقية، ومُطبّقة علمياً ومُسلية أيضاً.
كأنك تعيش في عالمٍ من الألغاز التي يُتَطلّب منك حَلّها، أو تركها، ومراقبة روعة جمالها الخارجي فقط من خلال مرايا! أتمنى فقط أن أعيش لذلك اليوم؛ الذي يتم بدء العمل فيه رسمياً، وأرى النتائج!