الزواج في إسبانيا..روح أوروبيّة بتقاليد عربيّة
ما الذي يجعل ليوم الزفاف كلَّ تلك البهجة والألق؟ ما الذي يجعله يوماً مميَّزاً عند كلّ شعوب الأرض، بمختلف ثقافات وطقوس وعادات تلك الشعوب، وبمختلف الأديان والاعتقادات، حيث تتشابه طقوس الزواج تقريباً عند كل أقوام الأرض بالخطوط العريضة العامة.
هل هو فعلاً احتفاءُ الإنسان بهذا الكائن الذي ينمو فيه منذ أوّل يومٍ، هذا الكائن الذي يميل نحو الآخر وإلى الارتباط به، من أجل القضاء على الوحدة والعزلة، والذي نحتاجه في أوّل مرّة نرى أنفسنا في عيون أمَّهاتنا، حين كنّا في أحضانهنَّ، ومن ثمّ من عيون كل من حولنا، كي ننمو سالمين؟ هذا الحب الغريب الذي نأخذه كثيراً، كي نعطيه أكثر.
وفي الحالتين فقط، تكون سعادتنا الحقيقية، حيث مهمّا كبرنا وتغيّرنا يبقى القضاء على الوحدة سيد الطريق. هل العرس هو احتفاء معلن بانتصار هذا الكائن على قلبين، وبانتصاره بهما؟ أم أنه دهشة العشق المقدس بين الكائنين اللذين يختلفان أقل مما يتوقعان، ويتفّقان أقلّ أيضاً.
هل هو احتفاء بالحبّ الذي يقود للجنس المُقدَّس بين رجل فيه بعضُ قليلٍ من المرأة، وامرأة فيها بعضُ قليٍل من الرجل، احتفاء بسرير سيكملُ به كل واحد ما يفتقده من الآخر، ليكتملا كأسياد على جسديهما وقلبيهما والحياة. هل هو كذلك، أم أنّه احتفاء بتشكُّل منيع آخر للحياة، منبع معلن وموافق عليه، للخصب الذي يتوج الحياة بتتويج ولادة طفل، سيأتي ليكمل حصته من رحلة البحث الطويل.
هنا في إسبانيا، وفي مدريد تحديداً، لا يزالُ تأثير الحضارة العربيَّة التي عاشت أكثر من 800 عام في هذه البلاد واضحاً بكل الإرث الموسيقي والشعبي، ويزيد وضوحه في تفاصيل يوم الزفاف. حيثُ لا يزال الإسبان يحتفلون كثيراً بيوم العرس.
إذ يتمُّ التجهيز له قبل زمن من كلا العائلتين، وحتَّى وإن أصبح من الطبيعي أن يكون العروسان، قد عاشا علاقة حبٍّ طويلة، فيها مساكنةٌ مع بعضهما لبعض الوقت قبل قرار الزواج، الذي لا يُؤخَذ ببساطة، وإنما بعد معرفة كبيرة لكل منهما بطباع الآخر اليوميَّة، ومن خلال العشرة اليوميَّة التي تسبق الزواج، وذلك من خلال التقاليد الأوروبيَّة، ومن خلال الحب الذي كان سبباً في تلك العشرة، فإن ليوم الزفاف ملامح عربية بكل ما فيه من خصوصية وجمالية ودهشة، إنها الروح الأوروبيّة بالجسد العربي، ولقرار الزواج بحد ذاته قيمة وتقدير كبيران من قبل المجتمع الإسباني كله، مثلما هو في المجتمع العربي.
وذلك على عكس ما يقال في كثير من الأحيان، بأنَّ المجتمعات الأوروبية تبتعد عن الزواج وتحاول هدم المؤسسة الزوجيّة. نستطيع أن نقول، إنّ مفهوم الزواج في الغرب، يختلف نوعاً ما عن مفهوم الزواج في مجتمعاتنا، ولكن، فعلياً، الزواج كمؤسسة استقرار مازالت فعّالة في الغرب. وما زال الحب يتوّج في كثير من البلدان الأوروبيّة بالزواج.
يجهز العروسان فستان الزفاف الذي أصبح مكلفاً في ظروف إسبانيا الاقتصادية، حيث تعاني كل البلدان في الجنوب الأوروبي، من صعوبات اقتصاديّة تفاقمت كثيراً بعد الأزمة الاقتصاديّة المالية العالميّة. كما يتم تجيهز بدلة العريس وتفاصيل الدعوة ونوعية الحلويات المحلية، والتي يسمونها هنا، الحلوى الأندلسية الفاخرة، والتي يكون أغلبها ذا أصل عربي، ويدخل فيها اللوز والسمن والعسل بكمية كبيرة.
وقد تكون العروس عزباء، فتقوم ليلة زفافها بعمل سهرة خاصّة لأقاربها، أو قد تكون متزوّجة من قبل، ولها أولاد، وهنا، يحضر أولادها عرسها ويتجمَّلون ويتزيّنون له، ويقفون قبل الزفاف الكنسي بقول المباركة لها، وذلك برسالة صغيرة يكتبها كلُّ ولد ويلقيها أمام الجميع. ونفس الشيء فيما إذا كان العريس هو الذي كان قد تزوج مسبقاً، إذ سيقوم أولاده بالحضور، وبإلقاء كتابات المباركة له في يوم زفافه الجديد.
تصل العروس من مكان تجهيزها، ويستقبلها والدها الذي يسير بجانبها ممسكاً يدها طيلة المسافة من باب الكنسية، حتى الوصول إلى رجل الدين الذي سيزوّجهما. ولكن المميّز هنا، هو أنّ فرقة من مغنيات وعازفي الفلامنكو الإسباني، ذي الأصل العربي تستقبل العروس مع والدها، وهم يرتدون ملابس الفلامنكو الجميلة المأخوذة من اللباس الأندلسي، الذي كان يتميَّز بالفستان الأحمر الطويل المزركش، والذي ينتهي بعدة طبقات مصففة، والذي يحتوي أكماماً أيضاً ضيقة، لكنها تنتهي بعدة طبقات مقصوفة، وبشالٍ خاصّ يكون أحمر في الغالب، ووردة حمراء كبيرة توضع على جانب الشعر.
ويعزفون على القيثارة الألحان الخاصة بموسيقى الفلامنكو العميقة والمؤثّرة جداً بنفس طريقة تأثير الغناء العربي، ثم يغنون أغنية عما يقوله ويحس به الأب في هذه اللحظات الخاصة من حياته، معتبرين أنه يخاطب ابنته العروس، بأنّ رجلاً آخر سيصبح رجلها الأول في الحياة، وأن قمراً جديداً سينام في سريرها، وأنهّا كانت دائماً قمره الأجمل والأغلى.
وتخيّم أيضاً أجواء من الحزن والألم بسبب خروج العروس من بيت أهلها، ودخولها عش الزوجيّة، مع مشاعر الفرح والاطمئنان. وفي الأغنية، يقول لها بأنه يفهم أن الحب ذا اللون الأحمر الصاخب يعيش الآن في قلبها، وينبض مع دمها الأحمر، وعليها أن تكون دائماً صادقة مع هذا القلب، وأن أهم ما يتمناه لها هو أن تعرف دائماً جمال العطاء وسعادته. وإن أصبحت أمّا أن تموت قبل أبنائها، وإن كتب لها العيش المديد، عليها أن تعيش تجربة تزويج أبنائها، والوقوف أمام هذه الأغنية مرة أخرى.