لم يقف المسلمون عند حدود ذلك الطب النبوي مع إيمانهم بنفعه وبركته، بل أدركوا منذ وقت مبكر أن العلوم الدنيوية -والطب أحدها- تحتاج إلى دوام البحث والنظر، والوقوف على ما عند الأمم الأخرى منها؛ وذلك تطبيقًا لهدي الإسلام الدافع دومًا للاستزادة من كل ما هو نافع، والبحث عن الحكمة أنَّى وُجدت.
وعليه فقد أخذ أطباء المسلمين في التعرف على الطب اليوناني من خلال البلاد الإسلامية المفتوحة، كما أن الخلفاء بدءوا يستقدمون الأطباء الروم، الذين سرعان ما أخذ عنهم الأطباء المسلمون، ونشطوا في ترجمة كل ما وقع تحت أيديهم من مؤلفات طبية، ولعل هذا يعتبر من أعظم أحداث العصر الأموي.
فإنه ما إن استقرت الخلافة الأموية وازدهرت سياسيًّا واقتصاديًّا، وورثت علوم الأعاجم من الفرس والروم وغيرهم بعد انهيار دولهم، حتى كان الاتجاه إلى الحركة الفكرية؛ فتُرجمت كثير من كتب الحضارات السابقة من إغريقية وفارسية وغيرها، ونُقلت ذخائرها في العلوم إلى العربية؛ لتعتبر حدثًا مهمًّا من الناحية الحضارية؛ لأنها فتحت نافذةً أَشْرَفَ منها العلماء العرب والمسلمون لأول مرة على ما لدى غيرهم من معارف وعلوم.
وقد نالت العلوم التجريبية نصيبًا مهمًّا من بين هذه العلوم المترجمة، وكان على رأسها جميعًا الطب؛ فقد كان الطب الإسلامي في أول هذه الفترة معتمدًا على إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الأعشاب والنباتات الطبية، والكيِّ، والفصد، والحجامة، والختانة، وبعض العمليات الجراحية البسيطة. ولما بدأ الأطباء المسلمون والعرب يتعرفون على الطب اليوناني عبر مدرسة الإسكندرية ومدرسة جُنْدَيْسَابور، كان اتجاههم إلى ترجمة الكتب الطبية إلى اللغة العربية. وفي هذا فقد ترجم ماسرجويه -الطبيب اليهودي الذي يُعدُّ من أبرز المترجمين في ذلك العصر- للخليفة مروان بن الحكم (64 - 65هـ) موسوعة طبية يونانية تسمى "الكُنَّاش".
وما إن جاء العصر العباسي؛ حتى كان لأطباء المسلمين معارف طبية خاصة بهم؛ وما ذلك إلا لأنهم لم يقنعوا بما حصلوا عليه من الحضارات السابقة لهم خلال الترجمة الدقيقة. والحقيقة أنه لولا أطباء العرب والمسلمين الذين بذلوا جهودًا عظيمة في ترجمة كنوز الحضارات السابقة لهم من يونانية وفارسية وهندية، لصارت هذه الكنوز طعمًا سائغًا للحشرات وأنواع الهوامّ والنيران؛ لأن معظم هذه الكنوز كانت حبيسة الكهوف والمغارات وزوايا النسيان في بعض المخازن.
وفي هذا العصر أجاد المسلمون في كل فن من علوم الطب، وصححوا ما كان من أخطاء من علماء سابقين تجاه نظريات بعينها، ومن ذلك -كما سنرى في موضعه بإذن الله- ما كان من ابن النفيس حين عارض نظرية جالينوس الذي كان يقول بوجود ثقب بين بطيني القلب الأيمن والأيسر، فصحح ابن النفيس هذا الخطأ، ومنه ابتكر الدورة الدموية الصغرى.
وقد ازدهر علم الطب على ذلك أيَّما ازدهار، وبُنيت المستشفيات والجامعات الطبية، واشتهرت أسماء لامعة في الطب في حضارة المسلمين -على نحو ما سنرى في الباب الثالث بإذن الله- عزَّ على الزمان أن يجود بمثلهم.
ويمكن أن نقول إجمالاً: إن الطب في الإسلام قد نحا منحًى جديدًا، واتخذ منهجًا مغايرًا لما كان عليه قبل ذلك؛ حيث كان القضاء على الخزعبلات، وكان المنهج العلمي التجريبي في دراسة وممارسة علم الطب.
المصدر: كتاب (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية) للدكتور راغب السرجاني.