أهوار العراق - فصول من المعاناة سببها الملوحة والجفاف
تذكر المصادر التاريخية أن أولى حضارات بلاد الرافدين انبثقت في أهوار جنوب العراق التي عرفت إبان العصر السومري بـ"جنات عدن" نظراً لسحر طبيعتها. وبعدما كانت في الماضي السحيق تشكل حوضا طبيعيا، يعاني سكانها اليوم من شح المياه
بعد أن عانت أهوار جنوب العراق طويلاً نتيجة من انعدام خطط التنمية وتجفيفها من قبل نظام صدام حسين مطلع تسعينات القرن الماضي على خلفية أزمات داخلية، عادت الحياة مجدداً إلى الأهوار بعد التغيير عام 2003. فقد بدأ أهالي الأهوار في العراق بالرجوع تدريجيا إليها بعد عودة المياه إلى أراضيهم. لكن هذه العودة لم تخلو من المصاعب الاقتصادية والمعيشية.
تعد الأهوار من المناطق الغنية بالثروة الحيوانية وخاصة الطيور والأسماك، كم تمتاز أيضاً بمناخها الصالح لزراعة بعض المحاصيل كلشلب والأرز، فضلا عن انتشار نباتات القصب والبردي فيها، والتي تستخدم لبناء البيوت والمضايف (دار الضيوف) والمشاحيف (الزوارق الصغيرة)، كما تُستخدم في حياكة الحصران وكمادة أولية في صناعة الورق والسكر.
هجرة مستمرة سببها "الملوحة"
يشق عبد غاوي حريجه الفرطوسي طريقه بين أعواد القصب والبردي على متن قاربه الخشبي الذي تهادى ببطء على سطح الماء مطارداً قطيع من الجاموس بغية أن تسلم شباكه التي أعدها لاصطياد الأسماك، من دهس تلك الحيوانات في المياه الضحلة. الفرطوسي، وهو أحد أقدم صيادي الأسماك في هور "البغدادية" التابع لقضاء الجبايش في محافظة الناصرية جنوب العراق، كان قد هجر موطنه (الأهوار) إلى الجارة إيران بعد إنشاء السدود وتجفيف الأهوار عام 1991، ثم عاد إليها بعد الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003.
غاوي حريجه الفرطوسي، أحد أقدم صيادي الأسماك في هور "البغدادية"
يقول الفرطوسي في حوار مع DWعربية: "إن شح مياه الأهوار خلال الصيف وارتفاع نسبة ملوحتها أثرت على معالمها"، مبيناً أن جفاف هذه الأهوار قد أثر سلباً على الثروة السمكية فيها، "مما دفع بالصيادين إلى النزوح باتجاه المدن بحثاً عن القوت اليومي". ويتحسر الفرطوسي (36 عاماً) على الزمن الجميل قائلاً: "في السابق كنا نصطاد نحو 100 كيلو غرام من مختلف الأسماك كالكطعان والبني والسمتي، أما الآن فنصطاد عُشر الكمية السابقة ومن الأسماك الصغيرة"، منوهاً بضرورة تدخل الدولة لـ "إنقاذ الأهوار من خطر الجفاف الذي أكل الأخضر واليابس"، على حد قوله.
ويعتبر هور الجبايش من أكبر الأهوار في محافظة ذي قار، وتضم الأخيرة مناطق شاسعة من هذه الأهوار وأكبرها على مستوى جنوب العراق. وتبلغ مساحة الهور نحو 2600 كيلومتر مربع بالإضافة إلى هور الحمار والحويزة ومجموعة أخرى من الأهوار والمسطحات المائية المتصلة التي تصل إلى هور الشويكة في واسط.
معاناة أخرى
راضي وادي، وهو أحد مربي حيوان الجاموس في هور "الحَمار"
جميل راضي وادي، وهو أحد مربي حيوان الجاموس في هور "الحَمار" بقضاء الجبايش التابع لمحافظة الناصرية، والذي عاد إليه في عام 2007، يعاني هو الأخر من شح المياه خلال فصل الصيف مما يؤدي إلى تفشي الأمراض والأوبئة الخطرة بين ماشيته. ويقول وادي في حوار مع DWعربية بصوت خفيض طغى عليه الحزن: "أصبحت جواميسنا غير منتجة (...) وتعاني بعضها من أمراض مختلفة يصعب علاجها نظراً للظروف المناخية الجافة صيفاً". ويضيف وادي (48 عاماً) أن "ملوحة المياه وما ينتج عنها من أمراض مختلفة فضلاً عن ارتفاع أسعار الأدوية، وما يرافقها من ارتفاع لأسعار العلف تعد من أبرز الأسباب التي أدت إلى هجرة مربي الجاموس في الأهوار مرة أخرى". وتشتهر مناطق الأهوار بتربية الجاموس، التي يحتوي حليبها على نسبة دسم عالية تصل في بعض الأحيان إلى ثمان بالمائة. وتُصنع من هذا الحليب القشطة (القيمر) العراقية الشهيرة.
ماذا يقول المسؤول؟
من جانبه يعزو هاني فخري، مدير مركز إنعاش الأهوار التابع لوزارة الري العراقية والذي تأسس عام 2005 لغرض الحفاظ على منسوب المياه في الأهوار من الجفاف، يعزو سبب ارتفاع نسبة الملوحة في المياه إلى جملة أسباب تتمثل في التغيرات المناخية التي طرأت على دول المنطقة من بينها ظاهرة الاحتباس الحراري وتناقص كميات الأمطار والثلوج المتساقطة.
هاني فخري، مدير مركز إنعاش الأهوار التابع لوزارة الري العراقية
ويكشف هاني فخري في حوار مع DW عربية بالقول عن وضع إستراتيجية جديدة لمعالجة الملوحة في الأهوار والمتمثلة بتدوير المياه من خلال التحكم بمداخلها ومخارجها، "للحفاظ على منسوب المياه خلال الصيف". ويبين أن مركزه يعمل على وضع خطط تفيد بإعادة هيكلية الأهوار من خلال الاستعانة بالخبرات الأجنبية والإقليمية. ويشير فخري إلى إغمار مساحة تقدر بـ50 بالمائة من بين 7 آلاف متر مربع بالماء منذ عام 2008، منوهاً إلى أن وزارة الري العراقية تدرس مقترح يعنى بتحديد حصة ثابتة من المياه إلى الأهوار الجنوبية من الموازنة المائية للعام الحالي.
ويمثل سكان الأهوار من بقايا السومريين وهم من أقدم السلالات البشرية على وجه الأرض ويطلق عليهم محلياً تسمية المعدان، وهي كلمة سومرية يُعتقد أنها مشتقة من اسم النبي عاد، ومنها استمد البابليون تسمية ميدانو لسكان الأهوار، أي أحفاد عاد. ويُعتقد أن الكلمة تطورت فيما بعد في اللغة العربية لتصبح معدان.