«بيت الباشا» في البصرة.. بانيه عاشق للعمارة والنفائس
لندن: يعقوب الإبراهيم
لكل مدينة في العالم ميزة اثرية خاصة بها تميزها عن المدن الاخرى حيث نجد بيت عبد اللطيف الباشا المنديل في البصرة أقدم مدينة بناها المسلمون في بداية فتوحاتهم عام 14هـ.
والمبنى هو ما تراه أعين ملايين من مشاهدي شاشات التلفزيون والكتب ولوحات الفنانين ومصوغات الصابئة المندائيين وصفحات الجرائد والمجلات وبطاقات البريد وطوابعه وملصقات الاعلان والاعلام. يشاهده الجميع معجبين بتصميمه الرائع الجاذب للنظر ما حدا لاختياره من بين البيوت والمباني التراثية التي تزخر بها البصرة القديمة وهي تتدمر وتضمحل نتيجة الحروب والكوارث والاهمال. أمام هذا كله يبقى المشاهد مغيبا عن معرفة سر ذلك المبنى، فاصبح كغيره في ذمة تاريخ لا يعي من أمره شيئا. وقد تسنى لي الوقوف على معرفة بعض هذا الشأن فرأيت أن أسطره «فإن ما يدرك كله لا يترك جله»، خاصة ان راعي المبنى ومصممه شخصية سياسية فاعلة ومؤثرة ساهمت بدور بارز ومحوري في ارساء كيانات سياسية لكل من المملكة العربية السعودية والعراق في نهاية القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة من بداية القرن العشرين. والده الحاج ابراهيم المنديل الشاب الطموح الذي اصاب بمثابرته وعصاميته ثروة كبيرة وجاها عريضا فتوسعت أعماله لتبلغ البصرة وتخومها، ساعده في ذلك ستة من الابناء المثابرين حاز اثنان منهم لقب الباشوية من الدولة العثمانية بعد انخراطهما بالشأن العام هما يوسف باشا وعبد اللطيف باشا، بنى بيتا كبيرافي الزبير وقام بنقل الاخشاب وكل لوازم البناء والتأثيث، من الهند ومنها الباب الضخم الذي بقي حتى هذا اليوم شاهدا على المتانة وروعة فن العمران. وداخل البيت أروقة تحيط بفنائه، مبنية من الطابوق (الآجر) الاصفر والجص ومزخرفة بنقوش جميلة. كما استعمل البناء الزبيري طابوق الكاشاني الازرق المائل للاخضرار للتزيين في هذا البيت الذي استضاف الرحالة الدنماركي باركلي رونييكر في رحلته لزيارة الملك عبد العزيز عام 1911م.
* اهتمامات عبد اللطيف باشا
* كانت لعبد اللطيف باشا اهتمامات وهوايات اخرى، الى جانب عمله السياسي، منها الزراعة وتربية الخيل واقتناء الاثاث والسجاد، لكن عشقه للتصميم والبناء وميله لاستعمال الخشب الهندي في البناء هما ظاهرة يجب الوقوف عندها. وقد صمم وبنى الكثير، ومنها تعميره لبيت الاسرة القديم في محلة السيف وقصره البديع على شط العرب الذي يذكرك بسرايات القاهرة، وقد توفي فيه في 30 نوفمبر 1940، الذي نالته معاول الهدم لاقامة فندق شيراتون. كما بنى قصرا جعله منتجعا في بساتينه خارج البصرة في «الهارثة». تميزت الاحياء السكنية في البصرة بالشرفات الخشبية الجوالة على دعامات عند مستوى الدور الاول وهي ما اطلق عليها (الشناشيل) التي تعني بالفارسية «مقصورة الملك» وظهرت بعد منتصف القرن التاسع عشر تحوطها ستائر خشبية وتكتنفها نوافذ ذات زجاج ملون توفر الخصوصية لسكان تلك الدور.
وكانت الغاية من تصميم هذا المبنى ان يكون مكتبا ومنتجعا وملحقا لبيت الاسرة الكبير وديوانها الذي يقع امامه مباشرة في الضفة الجنوبية من النهر، ليكون على شكل الـ «يالي» Yali، وهي المباني الشائعة على ضفاف البوسفور في اسطنبول، وذلك لصغر ارض البناء، فهي مربعة لا يزيد ضلعها على عشرين مترا لتعطي مساحة كلية تقارب اربعمائة متر مربع، تكون نسبة البناء عليها 100% وملتصقة بمبان قائمة اقصر منها ناحية الشرق والغرب. اما الواجهتان، فالجنوبية تقع مباشرة على مجرى النهر وتحفه، وفيها المدخل الرئيسي يربطها بالضفة الاخرى جسر خشبي مطلي بدهان قرميدي باهت يرتفع ما يقارب المتر ليعطي ارتفاعا يفوق المباني التقليدية في البصرة.
تناسق التصميم، المتأثر اصلا بالعمارة التركية، مع لمسات من الطابع الاوروبي الهندي RAJ، ليصبح المبنى فريدا مميزا اذا ما قورن بالمباني المحيطة، لكنه ينسجم وينساب معها ولا يشكل منظره نشازا.
بدأ العمل في بداية عام 1925 بعد رجوع عبد اللطيف باشا من جولة طويلة استغرقت عدة أشهر في انحاء أوروبا جلب معه مواد لم تكن متوفرة في البصرة. فكان العمل تحت اشرافه المباشر كعادته واختيرت فترة انخفاض منسوب النهر ليتسنى له ارساء اساسات قوية خصوصا ان المبنى يقوم مباشرة في الماء، كما استعمل الاسمنت تأميناً لقاعدة البناء وانتهى العمل عام 1927م. يتألف المبنى من مدخل رئيسي وعلى جانبيه شبابيك ضخمة تشكل ارتفاع الدور بكامله وتقارب الأربعة امتار طولاً والمترين عرضاً لاتاحة أكبر كمية ممكنة من الضوء الطبيعي وأكبر مساحة للرؤية ويشكلان حجماً غير مألوف. تلج الى صالة كبيرة هي مكتب استقبال ومجلس ثم يأتي باب آخر أكبر من الباب الرئيسي يرسو على عتبة مرتفعة وهو ارتفاع آخر لمستوى المبنى تحفه نافذتان كبيرتان لينفتح على أيوان (طارمة) وفناء البيت (الحوش) على يساره ثلاث غرف منها سرداب لقيلولة الصيف، يقابل الباب درج للدور الأعلى وخلفه المطبخ وملحقاته وباب التخديم على الجهة الشمالية ثم درج آخر على الجهة اليمنى وارضيته كالآخر من الخشب الاسود.
أما ارضية الفناء فهي مبلطة بالـ«كاشي» على شكل مربعات بيضاء وسوداء كرقعة الشطرنج.
ولعل أكثر ما يميز «بيت الباشا» عن غيره من بيوت البصرة المكشوفة هو السقف المربع الذي يغطي الفناء الداخلي بأجمعه. وقد بني على شكل تنحدر جوانبه، ليترك على جوانبه سطح مفتوح للمبيت في ليالي فصل الصيف كعادة البصريين التلحف بالسماء الصافية المعقودة بنجوم متلألئة لا تضاريها صفاء وتألقاً أي بقعة من المعمورة. يبطن هذا السقف من الداخل صفائح من المعدن الملبس بلون أبيض عاجي تتخلله نقوش بارزة مربعة الشكل بداخل دوائر بشكل نجوم من طراز «الآرت نوفو» الذي تم استيراده من بلجيكا. وللاستفادة القصوى من الضوء الطبيعي يقع السقف على ارتفاع يسمح لأشعة الشمس ان تغشى البيت طول النهار من خلال فتحات تحف باضلاعه الأربعة لا تحرم النور وانما تصد الحرارة ليصبح البيت وفق هذا التصميم أكثر برودة من المعتاد نتيجة الظل الكامل الملقى على الفناء واروقته كما تقوم الابواب والنوافذ المتقابلة لجهة الشمال والجنوب بتسهيل انسياب الهواء البارد خاصة ان رياح البصرة تهب اما جنوبية أو شمالية.
تحف الدور الأعلى شرفات يحميها سياج خشبي متين من ثلاث جهات يميل لونه الى البني الغامق المحروق ليتلاءم مع الخشب الداكن الذي يشكل الشرفة باعمدتها واقواسها المقروضة من الجهة الجنوبية لتعطي تخريجاً جمالياً متسقاً. بين اللون العاجي للسقف مربعات الشطرنج الارضية الفناء ولون الطابوق المنجور الذي يغلف جدران الدور الأرضي باقواس خفيفة معقودة بارتفاعات الأبواب والشبابيك المطلة على الفناء وهي بلون الخشب الساج الهندي. اما بلاط الدور الأعلى فهو بورسلان اوروبي الصنع جلب من فرنسا ويطلق عليه «بورسلان باريس» منقوشة ارضيته البيضاء الباهتة بشكل سلاسل بداخلها سلال صغيرة محملة بزهور برية رقيقة ذات الوان زاهية لتكمل التناسق بين السقف والجدران والشبابيك مع سقف الشرفة الداكن المنقوش الذي يفضي امام ثلاث غرف لواجهة زجاجية محفوفة باطارات خشبية باشكال تشبه نقوش «الارابيسك» المصرية.
الشرفة الكبيرة تطل على النهر وتتشكل من سبعة اقواس خشبية، الربع الأسفل مغلق، واجهته مشغولة، والربع الأعلى مغطى بنوافذ على الطراز الفرنسي «اللوفر» تخفف اشعة الشمس وتعطي الخصوصية في آن واحد فهي مثل المشربيات في عملها، اما النصف الباقي فهو مفتوح يسمح للهواء بتبريد الواجهات الزجاجية خلفه، وهو ما اعطى المبنى خصوصيته التي انفرد بها.. فكانت محاولة جديدة للاختلاف ولكنها ليست دعوة للعزوف عن المألوف. وهناك ميزات جديدة في هذا المبنى جديرة بالوقوف عندها وهي المرافق الصحية فالحمامات تميل لدرجة كبيرة الى التصميم الاوروبي مثل احواض الاستحمام (البانيو) وسخانات الماء والتي ربما اقتصر استعمالها على الاوروبيين المقيمين في البصرة قبل ثمانية عقود تقريباً. ولا يمكنك ان تراها في البيوت التقليدية التي تكون شرقية التصميم كالحمامات التركية مثلاً. أما بالنسبة لاثاث البيت فهو مجموعة من الطراز الانجليزي الهندي RAJ الذي تميزت به مدينة بومبي. فالطنافس والارائك مغطاة بالمخمل الثقيل مع مناضد وطاولات وكراسي محفورة بنقوش هندية رائعة تغطي واجهاتها قطع رخامية وتتناثر عليها بعض الاطباق الخزفية والمباخر الفضية.
خزائن الكتب التي تدور على قاعدة ثابتة تحتل زوايا المجلس الذي تتوسطه طاولة كبيرة ذات قاعدة محفورة على شكل طيور النحام (الفلامنغو) تعتليها كأس فضية كبيرة هي الجائزة التي حازها حصان يعود الى الباشا في سباق جرى في الهند بمدينة «مدراس» بعد الحرب العالمية الأولى. أما خزائن الملابس فواجهاتها مرايا تحفها النقوش المحفورة وتختلف الوانها من الاسود الابنوس Ebony الى البني الفاقع أو خشب الورد والصندل وعلى بعض تلك المرايا المعلقة أو الثابتة نقوش وايات قرآنية كريمة. تغطي ارضية الدور الأعلى مجاميع من السجاد العجمي الفاخر وبعضها معلق على الجدران. كما تضيء غرف الدور الأعلى ثريات من الكريستال بحجم معقول حول المراوح الكهربائية.
يمكن في هذه المحاولة الوصفية الالتفات الى ما تحويه البصرة القديمة من موروث معماري مهم هو صورة ناطقة لماضٍ ضاربة جذوره في عمق التاريخ هي الصلة التي يجب ان لا تنفصم عن استثناء تراثي يجب الحفاظ عليه لما فيه من ابعاد فنية وسياحية، فعسى ان تكون للمهتمين آذان تسمع وعيون ترى وأيد تعمل.