من تراث كربلاء.. الأبنية القديمة تميز وإبداع
يتميز التخطيط العمراني لمدينة كربلاء منذ نشوئها عام 61 هـ (680م) بكثافة البيوت التي تمركزت بصورة رئيسة حول جامعي ومرقدي الإمام الحسين وأخيه العباس (ع ) – الروضتين الحسينية والعباسية –. ويعود ذلك إلى العلاقة الروحية التي تربط الناس بالروضتين.
وتزداد كثافة البيوت كلما اقتربت منهما وتقل كلما ابتعدت عنهما.ولذلك نلاحظ أن أكثر البيوت متلاصقة ، أما الممرات والأزقة المتفرعة من المحاور الرئيسة المؤدية الى الروضتين المقدستين فتكون في أكثر الأحيان ملتوية وذات أشكال متعرجة، وقد تنتهي أحيانا بنهايات مسدودة لا مخارج لها.
ومن الأسباب الموجبة لأتباع هذا التخطيط من البناء في ذلك الوقت – كما يبدو – عمق الروابط الاجتماعية والحفاظ على أمن المدينة من عمليات السطو والاعتداء وكذلك اتقاء البرد القارس والحر الشديد.
والبيوت التراثية في مدينة كربلاء تحمل صفات وخصائص البيوت العربية والإسلامية المنسجمة مع التقاليد الاجتماعية، وكما يصفها جون وارن في مجلة أور التي صدرت في بغداد عام 1983:« تتميز حياة المسلمين التقليدية بالفصل التام بين حياتهم العامة والخاصة وكذلك بين الرجل والمرأة ».
العناصر المعمارية الأساسية للبيوت التراثية تحتوي البيوت التراثية في مدينة كربلاء على مجموعة من عناصر معمارية أساسية أهمها:
الساحة الداخلية المكشوفة (الحوش)
البيوت التراثية في مدينة كربلاء، شأنها شأن مثيلاتها في المدن العراقية الأخرى، تتميز بخصائص تخطيطية وإنشائية ذات طابع معماري واحد، يتمثل في إحلال الساحة الداخلية المكشوفة التي يطلق عليها بالعامية (الحوش) المكان الأول في التخطيط. وتأتي الغرف السكنية وبقية المرافق والمداخل والممرات لتأخذ مكانها حول تلك الساحة. ومن الواضح تماماً أنّ هذا التخطيط تقليد بنائي عراقي قديم تعود بداياته إلى مدة العهد البابلي القديم (مطلع الألف الثاني قبل الميلاد)، حيث عثر على بقايا دور سكنية في أحد أحياء مدينة أور الأثرية في جنوب العراق تظهر الساحة الوسطية المكشوفة في مقدمة العناصر التصميمية.
وتعدّ الساحة الداخلية المكشوفة (Open Courtyard) من أهم مميزات عمارة المساكن التراثية في المدن الإسلامية، فإنها تجعل الإنسان المسلم يعيش أسعد لحظاته لأنها مكشوفة على السماء حيث يشعر الإنسان أن لا حاجز بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ومن هذا المنطلق كانت هذه الساحة أحد العناصر الرئيسة للبيت العربي الإسلامي.
وعلى رغم التأثيرات الواضحة التي تركتها تقاليد فنون العمارة الفارسية والتركية والهندية في البيوت الكربلائية، إلا أنّ التخطيط الأساس لها لم يصبه التغيير خلال العصور الإسلامية المختلفة، بل ظلّ محافظاً على طابعه التقليدي الذي يشبه إلى حدٍّ بعيد الطراز المعماري الحيري (نسبة إلى مدينة الحيرة القريبة من الكوفة)، وهو الطراز المعماري السائد آنذاك، والمتمثل بإحلال الساحة الداخلية المكشوفة المكان الأول في التخطيط. وتأتي الغرف ومرافق البيت الأخرى لتحتل مكانها حول الساحة. وتكاد هذه البيوت تكون شبيهة إلى حدٍّ كبير مع البيوت القديمة في مدن وسط وجنوب العراق من جهة التصميم الهندسي ومواد البناء والزخارف.
ويختلف البيت الكربلائي في مساحته باختلاف المراتب الاجتماعية للناس. إذ تتكون البيوت عادةً من ساحة مكشوفة تبدأ بمجالس الضيوف ومرافقها وتقع في مقدمة البيت وتعرف بـ(البراني)، ثم تنتقل إلى الغرف المخصصة لأفراد العائلة والمرافق الملحقة بها والتي تحيط بالساحة المكشوفة ويُطلق عليها بـ(الدخلاني). ويتراوح شكل الساحة المكشوفة ما بين المربع والمستطيل.
وتعدّ الساحة الوسطية قاعة مكشوفة ومحجوبة عن الأنظار في آن واحد، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه في توزيع الإضاءة والتهوية الطبيعية للغرف المحيطة بها. وتطل الشبابيك الواسعة للغرف على الساحة الوسطية فتكون في هذه الحال واجهات لغرف الطابق الأول، وتتحقق عن طريقها الإضاءة والتهوية الطبيعيّتان. ويتم عادةً تبليط أرضية الساحة الداخلية المكشوفة بالطابوق (الآجر) المسطح المعروف بـ(الفرشي). وفي بعض الأحيان تزرع هذه الساحة بشجرة واحدة أو أشجار عدة توضع في وسطها نافورة جميلة تسمى (الشاذروان).
وتنعزل الساحة الداخلية المكشوفة عن الشارع أو الزقاق في مثل هذا التكوين الإنشائي الذي يحقق ضمن مساحات قليلة مرافق كافية لسكن عائلي متعدد الأشخاص. وفي بعض الأحيان نجد أن مساحة الدار لا تتجاوز 50 متراً مربعاً مما يظهر براعة المعمار أو المهندس في استغلال المساحات إلى أقصى حدودها لتأمين بيت ذي ساحة داخلية مكشوفة وفي حدود ضيقة.
المدخل (الباب الرئيس)
وهو حلقة الوصل الرئيسة بين البيت والخارج، يطل على الزقاق أو الشارع ويكون الاستخدام الواسع للبيت. ويؤدي المدخل من خلال مجاز منكسر في أكثر الأحيان إلى الساحة الداخلية المكشوفة، ويزود عادة بباب من الخشب تتناسب عادةً وحجم البيت.
وفي أكثر الأحيان تتميز الأبواب بكثرة التحليات الزخرفية الخشبية والحديدية وتحيط بها إطارات من الزخارف الجبصية. وأحياناً يعلو المدخل قوس من الآجر والجص على شكل نصف دائري في أكثر الأحيان، يتضمن كتابات من الآيات القرآنية الكريمة وبعض الزخارف المتنوعة. والأبواب غالباً ما تكون من مصراعين (فردتين) ويتراوح ارتفاعها ما بين 1.80 – 2.00 متر وعرضها ما بين متر واحد إذا كانت من فردة واحدة و1.40 متر أو أكثر إذا كانت من فردتين . وعادةً ما تحتوي الباب على مطارق معدنية بأشكال ووضعيات مختلفة.
المجاز (المدخل المنكسر)
ومن الخصائص المميزة للبيوت التراثية في مدينة كربلاء وجود المدخل المنكسر المعروف بـ(المجاز) الذي يوصل المدخل أو (الباب) بالساحة الداخلية المكشوفة (الحوش). وهو ابتكار إسلامي ظهر للمرة الأولى في دار الإمارة في مدينة الكوفة عام 17هـ (638م) وكذلك في بعض دور سامراء العباسية. وكان يستهدف غرضاً اجتماعياً بحتاً يتلاءم والتقاليد الإسلامية، وهو عزل فضاء الساحة الداخلية المكشوفة عن الشارع أو الزقاق، وترطيب الهواء عبر اختراقه المجاز.
الإيوان (الطارمة)
ومن العناصر الأساسية في تصميم البيت الكربلائي توفير ما يسمى بالإيوان (الطارمة). والإيوان (Iwan) كلمة فارسية الأصل مأخوذة من (إيفان) بمعنى قاعة العرش. وهو بناء له ثلاثة جدران وسقف ويكون مكشوفاً من واجهته الأمامية المطلّة على الساحة الداخلية المكشوفة (الحوش)، وغالباً ما يكون سقف الإيوان مغطى بقبو.
السرداب
ويتميّز البيت الكربلائي بوجود مكان للراحة والاستقرار يُطلق عليه السرداب. وهو اصطلاح فارسي مؤلف من مقطعين (سرد) أي بارد و(آب) وتعني الماء. وتقضي فيه العائلة ساعات طويلة في أيام الصيف الحارة. ويمتاز بجدرانه السميكة وانخفاض مستوى أرضيته عن مستوى أرضية البيت، إذ قد يصل انخفاضه في بعض الأحيان إلى أمتار عدة مما يساعد في حمايته من الحرارة الشديدة في فصل الصيف.
المصدر ... صحيفة المراقب العراقي