يعرض الأكاديمي الفرنسي ميشيل دوس لكل ما يتصل بمريم في التنزيل الحكيم، ملقيا أضواء جديدة على وضع المرأة في نظر الله، وعلى العهد والاصطفاء والنذر، والعلاقة الفعالة بين المعبد والبرية، وتبرز صورة مريم لدى الانتهاء من تحليله الدقيق، أحد المفاتيح الرئيسة في تفسير القرآن.
يرى الباحث ان القرآن يتوقف، بخلاف التوراة، توقفا عميق الدلالة عند مولد مريم، بل وقبل مولدها، حيث نذرت لله، مستخلصا من تلك الأحداث اشارات اساس للمشروع الالهي. ان مريم القرآنية هي بنت امرأة عمران، دونما لبس، وهي الولد الأول لتلك الأسرة التي ذكرت عنوانا للسورة الثالثة. وتأتي الآية 37 من سورة آل عمران حاسمة بصفائها المضيء، وهي التي تناسب من جانبها ذلك المكان المقدس: الهيكل حيث يستقبل الرب الطفلة المنذورة له: {فتَقَبَّلها ربُّها بقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَريَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَريَّا الْمحْرَابَ وَجَدَ عنْدَهَا رزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَك هَذَا قَالَتْ هُوَ منْ عنْد الله إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بغَيْر حسَابٍ} (آل عمران 3:37).
يتحقق تكريس مريم وفقا لعرض هذه السورة على نحو رسمي جدا. وقد أُخذت من العالم وخُصصت للرب، وأُوكل أمرها في قدس الاقداس لرعاية زكريا وكفالته. فالاطار اذن هو اطار الهيكل الضخم بمرتبياته وتأملاته المعروفة. سوف نرى من بعد في السورة 19، سورة مريم، ان الملاك الذي جاء مريم يحمل البشارة لم يوافها في الهيكل، وانما وهي على الدرب، حين بادرت إلى قطع الصلات بقومها وتوجهت صوب الصحراء. وفقا لتماسك الرمزية المقدسة في التوحيد الابراهيمي، تكفل الصحراء معبد الاله الواحد الأحد. ولا يقل أهمية عن ذلك ان يكون للصحراء هيكل. وهذا بمنزلة اعتراف تأملي بالحضور الالهي في زهد المخلوق وجدبه وتبعيته الفورية حيال خالقه. وليس لنا ان ننسى ما جاء في القرآن من ان ابراهيم واسماعيل هما اللذان رمّما معبد الصحراء، اي الكعبة، في وادي مكة، في مكان مقدس يتوسط الحجر الأسود، والحجر هنا رمز إلهي وليس صنما. ووفقا للرمزية نفسها،، تأتي الرحلة الليلية (الإسراء) العجائبية التي قام بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى (في القدس) تصديقا لبعثته بجمع موقعي المدينة والصحراء وقطبيهما العباديين.
في صفحة أخرى من كتاب ميشيل دوس، يعود خطاب الملائكة ليستأنف مجراه. وتتخذ تعابيره قوة وثراء فقهيا مدهشا: {إذْ قَالَت المَلائكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ يُبَشّرُك بكَلمَةٍ منْهُ اسْمُهُ الْمَسيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيهًا في الْدُّنْيَا وَالآخرَة وَمنَ الْمُقَرَّبينَ} (آل عمران 45:3).
انها قصة البشارة الوحيدة في القرآن المتعلقة تعلقا واضحا بميلاد «كلمة من الله». فلم يدر الحديث لدى البشارة بيحيى (يوحنا) سوى عن ولادة صبي (غلام أو ولد) سواء ذُكر اسمه أم لا. أما هنا فكلمة الله هذا، الذي تجسد في مريم، له اسم ولقب، منذ الأزل، ويُنطق به لأول مرة في التاريخ (على لسان ملاك): «المسيح عيسى بن مريم». فلنول اهتماما هذه التعابير التي تعرف بهوية الطفل المولود:
- كلمة من الله (لنلاحظ الصيغة: كلمة الله، وهي بخلاف انجيل يوحنا الذي يتحدث عن «الكلمة» الوحيد الذي كون به كل شيء.
- وفي المقابل يقول القرآن «المسيح» (ولا يقول مسيح) الوحيد المبشر به والمنتظر عبر التاريخ التوراتي كله.
- «عيسى بن مريم»، ان اسمه مقرون على الدوام ومنذ الأزل باسم امه مريم التي يأخذ منها هويته على الأرض، ما دام مولودا بلا أب. وهذا التعريف وحده قوي جدا بذاته حتى ان النعوت التي تليه تغدو بجانبه شبه باهتة.
هذه الكلمة التي صارت انسانا في مريم ليست ولدا بالمعنى التأثيلي (لا يقوى على الكلام) ما دام امره كما أعلن الملاك في أثناء البشارة: {وَيُكَلّمُ الْنَّاسَ في الْمَهْد وَكَهْلاً وَمنَ الْصَّالحينَ} (آل عمران 46:3). فقدرته على الكلام ليست منوطة اذن بتقدم السن به. وتأتي الآية 48 لتؤكد ذلك: فالله هو نفسه الذي سيعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل من غير وسيط. ويبرز الطابع الاستثنائي لهذه البكورية بوضوح أكبر اذا ما قارنا كلام الملاك بما قيل في موقع آخر بشأن يوسف بن يعقوب في سورة يوسف 22:12 : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًًا وَعلْمًا وَكَذَلكَ نَجْزي الْمُحْسنين}. فالحكمة والعمل في هذه الحال يأتيان في ميعادهما، حتى وهما هبة من الله.
وحين تتساءل مريم: كيف سيكون لي ولد وأنا منذورة للرب، يجيب الملاك: «كذلك الله يخلق ما يشاء اذا قضى أمرا فانما يقول له كُنْ فيكون». حسب الله ان يقول لشيء ان يكون حتى يكون بقوة كلمته فقط.
يتوقف الباحث مليا عند صفة «قصيّ». وردت هذه الصفة بصيغة التفضيل: «أقصى» في الآية الأولى من سورة الاسراء. وهي تتعلق بمعجزة السُّرى بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى، وهو البعيد بالمطلق، أو مسجد القدس كما جاء في التفاسير. فيمثل ذلك الانتقال الليلي والمعجز للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) من مسجد الصحراء في مكة الذي اقامه ابراهيم واسماعيل إلى مسجد القدس، مكان بشارة مريم، تصديقا للوحي الجديد في شموليته.
في ذلك المكان القصي من الصحراء مكان افتتاحي للخلق والموت والبعث، تباغتها الآلام فترغمها على ان تسند ظهرها إلى جذع «النخلة» كما يقول القرآن، وليس إلى جذع نخلةٍ ما. ان صيغة المفرد المعرف تجعل من تلك الشجرة كأنها فريدة ولا مناص من ان تذكرنا بالشجرة التي حُرم على آدم وزوجته ان يقرباها. انه آخر عمل في مرحلة الحمل، وآخر تخلص من ذلك الحمل، كيما تتمكن حياة جديدة من ان تتجلى. وهنا يسند القرآن إلى مريم قولها: {يَا لَيْتَني متُّ قَبْلَ هَذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسيًّا} (مريم 23:19).
القرآن يريد، وبصورة أكثر وضوحا، تأكيد الصورة الثنائية لمريم بوصفها أم عيسى وبنت عمران، فيروي كيف انها حين رجعت إلى قومها تحمل الطفل عيسى تصدوا لها قائلين: {فَأَتَتْ به قَوْمَهَا تَحْملُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جئْت شَيْئًا فَريًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبوُك امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّك بَغيًّا} (مريم19 : 28/27).
يرمي القرآن عبر رواية تلك الواقعة الى ان يشير إلى رفض بني اسرائيل الاعتراف بعيسى. وهذا ما يجد تأكيدا له في سورة النساء 4 : 156 - 157، حيث يدينهم الله بكل وضوح لانهم قالوا على مريم بهتانا عظيما وزعمهم انها قتلت ابنها عيسى.
وينتهي المقطع الطويل المخصص لمريم وابنها في سورة مريم بالآية 34 التي تشكل خلاصة القول: {ذَلكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الْذي فيه يَمْتَرُونَ}.
وتحت عنوان «عدم موت عيسى» يقول الباحث ان الصيغة الكاملة «المسيح عيسى بن مريم» لا تظهر الا في ثلاث آيات من النص القرآني. يلوم الله في سورة النساء 4 : 158/155 اليهود الذين كفروا بآياته ونقضوا ميثاقهم فقتلوا الأنبياء: «وقتلهم الأنبياء بغير حق»، وعلى كفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما: {وَقَوْلهمْ إنَّا قَتَلْنَا الْمَسيحَ عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكنْ شُبّهَ لَهُمْ، وَإنَّ الَّذينَ اخْتَلَفُوا فيه لَفي شَكٍّ منْهُ مَا لَهُمْ به منْ علْمٍ إلاَّ اتّبَاعَ الظَّنّ. وَمَا قَتَلُوهُ يَقينًا} (النساء 4 : 157).
يغتني هنا لقب عيسى بن مريم بإضافة «رسول الله»، وهو تعبير يضع عيسى بكل وضوح ضمن فئة الأنبياء، لا فئة الملوك والكهنة. لكن هذه الآية توحي بشكل خاص في نظر القرآن بأن زعم اليهود أنهم قتلوا المسيح هو ذنب أكثر خطورة حتى من القيام بذلك حقا. فالقرآن يقرن بشكل ما عدم إعتراف القوم بآية مريم العذراء الأم وعدم الإعتراف بآية إبنها عيسى وسره، الذي زعموا انهم قتلوه.
يقوم الباحث في كتابه الموضوع أصلا بالفرنسية والمنقول حديثا إلى العربية بجولة واسعة في القرآن الكريم، وبخاصة في السور التي تتصل بمريم، ليقول في آخر الكتاب: لابد من الاعتراف لدى نهاية جولتنا عبر النص القرآني بجمال صورة «مريم المسلمة» وقوتها وأصالتها وعظمتها الإستثنائية. وسوف يكون إنتقاصا أن نجري تماثلا بينها وبين النسخة الباهتة لصورة مريم في الأناجيل».