هو و هي
هي تلك الذرّة الحيرى التي تاهت خطاها
في قفاز الزمن الجبّار ، في لامنتهاها
ذرّةٌ ضاعت فما تعرف في الكون اتجاها
هي والمصباح ، عتيق نصف موقد
شاحب الضوء من الجوع ، على الليل مسهّد
مدّ في المخدع طرفاً
راعش النظرة مجهد
كلما أنبّت على النافذة الريح تنهّد
هي والمصباح والليل رفيق الحائرين
فيلسوف الزمن الوامي تحاريب القرون
لفها تحت جناحيه برفق وسكون
واحتواها ابنة أشواق وفنّ وشجون
لم تزل غائبة تصغي الى صوت فريد
صوته النفّاذ يسترسل في نبر شديد
ضمّ سرّ الأبد الخافي ، حوى لغز الوجود
وطوى الآماد يدعوها لمجهول بعيد :
- : أنا من يناديك هل تسمعيني
أنا من رماني عليك القدر
طويت حياتك نفساً تلوب
وروحاً محيّرة تنتظر
وكنت بقلبك لم تعرفيني
سوى حلم في الضباب اغتمر
تحسبينني ظمأً في وجودك
شوقاً إلى مبهم منتظر
وكم هفّ حولك منّي عبير
وكم ضمّ حلمك منّي صور
وها أنا يا ليل ها أنا جئت
كيأناً تجسّد ، روحاً حضر
أجيبي ندائي أنا من يريدك
جسماً وروحاً ، خيالاً وشعر
أنا فافهميني ، اسمعيني ، أجيبي
حرارة صوتي بصوت أحسرّ
قرأتك يا ليل شعراً تفجّر
ناراً مدوّمة زافرة
فأدركت أيّة روح جموح
وراء أناشيدك الهادرة
تحدّيت مجتمعاً زائفاً
يمثّل اكذوبة ماكرة
فضيلته خدعة ضخمة
وتقواه شعوذة فاجرة
خرجت على الناس يا ليل نفساً
كما هي عارية سافرة
فلم تلبسيها ثياب النفاق
ولم تخدعي نفسك الطاهرة
وكنت كما أنت ، بنت الطبيعة
كنت حقيقتك الباهرة
فأحببت صدقك يا ليل في شعرك . .
الحيّ ، في روحه الفائرة
وأقبل يوم رأيتك فيه
يظلّل وجهك لون الألم
بأمواج عينيك تدنو وتبعد
أصداء لحن حزين النغم
فأحسست جذباً غريباً اليك
يشدّ كياني روحاً ودم
ومرّ بقلبي نداء العناصر
في خطفة عبرت كالحلم
بأن المقادير قد وضعتني
أمامك .
يا ليل هذا قسم :
سيهواك قلبي ، سيهواك ما
تنفّس عرق به واضطرم
هوى سوف يرويه جيل لجيل
قصائد حب تحدّى العدم
الا فاعلمي الآن انك لي ، لي
لأنانيتي ، لهواي العرم
وقفت وارتفقت نافذةً غرقى بأنفاس القمر
وعلى أهدابها رفات حلمٍ مستمر
كامنٍ يرسب في أعماقها
جائع يقتات من أشواقها
وأطلّت والدجى المقمر غاشٍ صمته
لم يكن في قلبها ينبض إلا صوته
كانت الدنيا بعينيها نداءً يترامى
فيه من رقة انداء السماء
فيه من دفء قلوب الشعراء
وأطلّت وبعينيها مع الحلم ظلال
تتكسّر
لجواب لاهثٍ يطفو على وعي مخدّر :
خذني بعيداً ، انطلق بي على
أجنحة الأشواق ، خذني إلى
ركن من الدنيا وراء البعيد
خذني إلى ركن ٍ من الأرض
لم تنطلق في جوه الفضّيّ
هذي الظلال السود من حولي
ركن نقيّ الافق لا تحبو
للآدميين عليه ظلال
سكانة الطير وأنفاسه
النور والسلام والحبّ
ملوّن حرّ كدنيا الخيال
خذني إلى الركن من الأرض
لم يمش فيه شبح البغض
لا أعين بسمّها تنضح
فيه ولا ألسنة ٌ تجرح
هناك في الصفاء تبني لنا
يد الهوى منزلاً
مثل عشاش الطير ثرّ الغنى
ينهل من جدرانه الضوء
و العطر و الدفء
خذني بعيداً انطلق بي الى
ركن من الدنيا وراء البعيد
. . . . . . . . . .
و أتاه صوتها النابض بالشوق بنجوى حبه
ينشر الفرحة يلقي نورها في قلبه
و انثنى منفعلاً جذلان مهتزاً بأفراح هواه
ينشد الدنيا على قيثارة لحن الهوى لحن الحياة
و مضى مسترسلاً عبر صحارى
و جبال و فضاء
ضارعاً يسألها في نبرة ملهوفة هذا الرجاء :
اجلسي ليلى إلى مرآتك الآن و شعري
في يديك
اقرأيه و اشعري بي
اشعري يا ليل بالقلب الذي يصرخ :
ظمآن إليك
قلب فنان غريب
أشعري بالوهج اللافح يسري في سطوري
من شعوري
فإذا أبصرت لون الورد في خديك مرّ
من حياء و خفر
فاعلمي ان بأعماقك أغلى خمرة
بين خموري
لم أزل أنشدها منذ بعيد
خمرة يسأل عنها ألمي
خمرة يطلبها روحي الظمي
ليل ، يا كرمتي الخضراء ، يا كنزي الوحيد
ليل ، يستحلفك القلب الشريد
بالحنان الثرّ ، بالرحمة فيك
رحمة الانثى التي في قلبك الخصب الفريد
احفضي خمرتك العذراء حتى نلتقي
احفضيها لي ، فقد أفزعت كأسي
و ستبقى أبداً فارغة
في انتظارك
أنا مهما رمت و الاقدار بي حائلة
دون مزارك
فهنا ملء شعوري ملء حسيّ
املٌ يحيا معي ، تحياه نفسي
أمل يهتف بي انك لي
يا أملي
. . . . . . . . . . .
و هنا اعتنق الروحان في سكر غريب لغريبه
هي في (جرزيم ) تقصيها النوى و هو (بطيبه )
و على حلم الفراديس البعيده
خلف أسوار السماء
و هناك
بي روء ى حلمها رفّت غلالات صباح لؤلؤيّ
و بدا عشّ على تفاحة خلف سياج ذهبيّ
عند ينبوع ضياء
طفقاً بالظن و الوهم يعبّان رحيقه
و يغيبان مع السكرة في دنيا سحيقه
. . . . . . . . . .
مرّ عامان وما زال الهوى حلماً غريب
يصل اثنين على نأي ، حبيباً بحبيب
المدى أقصاهما جسمين لا يلتقيان
والهوى ضمّهما روحين في كل مكان
. وأخيراً جمعت بينهما قوة حبّ لا تلين
قوة أقوى من البعد وجدران السجون
تحطم الأقفال و الأبوب ، تلوي القيود
تغلب السجان ، تدني نحوها كل بعيد
لم تكن لقياهما في الشطّ وهـمْا ً وخيال
لم تكن لقياهما رؤيا على أفق الليال
ها هما الآن على النهر الكبير الخالد
شاعران اعتنقا واتحدا في واحد
. . . . . . .
وفي غبطة سمّرت مقلتيها
على وجهه الصارم الاسمر
وقال وفي همسه رفّه –
الهناء وهف الغرام الطري :
أحقاً سخا باللقاء الزمان
أحقاً نحن هنا جنباً لجنب !
وراح يمرّ يداً تتندّى
على خدّها بافتتان وحبّ
وعانق فيها اشتعال الشباب
وعانق فيها اضطرام الحياة
ونيسان حولهما يتنفّس
في الشطّ عطراً نموهماً شذاه
وقد سكنت في المكان الظلال
واضطجعت فوق مهد الضياء
وأغفت دروب الحدائق في الشمس
ناعمة ، وارتخت في انتشاء
وكان هنالك برعم زهرٍ
يفتّح قرّت عليه فراشه
ومدّت عليه جناحين تعرو
سكونهما رجفة وارتعاشه
مشاهد حين استراحت عليها
عيون الحبيبين عبر الضياء
بدت لهما صورة لتفتّح
نفسيهما للهوى والهناء
............................
رجعت ترنو الى وجه فتاها
كان في الوجه الرقيق الضامر
طائف من ألم حيّ ومن حزن بعيد
قنّعته الكبرياء
في تحدٍ وإباء
وكسته قسوة الصخر العنيد
والجبين العربي المتعالي
حفرت كف النضال
فوقه قصة عمرٍ عاصفٍ جهم الظلال
جامح خشن ، جريء كالرياح
دوّمت فيه أعاصير الكفاح
قصة نارية الأحرف شعثاء السطور
يتوارى تحتها ينبوع شعر وشعور
ورأت في شعره الجعد تهاويل غريبه
غابة صامته ، غامضة الجو كئيبة
لوّحتها الريح والشمس على صحراء ( طيبة )
رآها تحدّق في وجهه
وقد رسمت مقلتاها سؤال
أحسّ به ، فمضى بانفعال
يفضّ صحائف أيّامه
وينفض عالم أحلامه
ويكشف بين يديها زوايا د
حياة متوّجه بالنضال
حياة تعمّقها التجربة
ويخصبها الفن والموهبة :
هو - : حياتي يا ليل قصة كدح
طويل أسلحه بالجلد
فلست كمن ولدوا في مهاد –
الحرير وفوق أكفّ الرغد
أتيت الحياة فقيراً ورحت
طريداً على نارها أحترق
وأركض خلف رغيفي وقوتي
وفوق جبيني الضنى والعرق
وكان لي الفنّ والشعر صوتاً
يجلجل في ثورة لا تلين
على الغاصبين حقوق الفقير
على السارقين جنى الكادحين
وفتحت عيني على أمّة
نمتني وفي عنقها ألف نير
تناضل رغم قيود الجديد
لأجل الحياة لأجل المصير
فكنت ابن جيل حبا فوق أرض
يخصّبها كل يوم شهيد
ضحايا يعبّ دماها الطغاة
ويروي بها الحاكمون العبيد
وقمت أثور مع الثائرين
لأحطم نير عبوديتي
وارخص تحت عجاج الكفاح
دمائي من أجل حريتي
وحاربت يا ليل ، حاربت من أجل
حرية الوطن العربيّ
وهذي جراحي فلسطين تعلم
كيف سقتها بكأس رويّ
سأبقى أكافح صلب الجناح
بوجه الحياة جريء القدم
وان حطمتني الحياة فحسبي
أني صمدت فلم أنهزم
حياتي قصة جيل شقيٍ
وعى ذاته فهو ما يأتلي
يكافح مثلي لأجل الخلاص
ويرنو إلى عالم أفضل
وطغى بينهما صمت عميق مفعم
وهي في استغراقها يحتاجها موج شعور أبكم
فيه ألوان من الرحمة والعشق وتقديس البطولة
فيه إحساس العبادة
والتقت عيناهما في نظرة دامعة جذلى طويلة
حين مرّت بحنو راحتها
فوق جرح كم تمنّت لو يداه
لفتّا في ساحة الحرب ضماده
مرّ حينٌ ، رفّت بسؤال شفتاها
همسته في حياء :
هي - : والنساء ؟!
هو - : عرفت النساء وليمة لهو
أعدّت لإشباع جوع الجسد
كرعت هواهنّ خمراً رخيصاً
وأدمنتهن شراباً فسد
ولكن روحي ظلّ يحوم
بعيداً كطير أضاع ربوعه
فما كان يا ليل حبة برٍ
هنالك لديهنّ تشبع جوعه
وما زال يقطع أيامه
على ظمأ في هجير الحياة
يهيم يتيماً بفقر سحيق
المجاهل ، ليس يرى منتهاه
إلى أن طلعت على الافق روحاً
غريباً كغربته الحائرة
فكنت له الزاد والخمر والنور
والواحة الخصبة الباهرة
ورحت ، وأنت خيال بعيد
وشعر أراك بمرآة نفسي
فجسدت روحك في لوحةٍ
ولونته بشعوري وحسّي
سكبت بعينيك حزني وأسقيت
خدّيك من فرحي المفعم
وفي شفتيك صببت حنيني
وروّيت لونهما من دمي
ستأتي سنون وتمضي سنون
ونطوى مع الأعصر البائدة
ووجهك يا ليل باقٍ يرف
مدى الدهر في لوحتي الخالدة
لقد كنت أول حب نقي
لقلبي ومطهر ماضٍ ضرير
على عتبات هواك غسلت
خطاياي في ندم مستجير
وما كان يملأ غربة روحي
ويرضي هواي الكبير الطموح
سوى أن تكوني لقلبي وحبي
بكل كيانك جسماً وروح
تتمّ حياتك لحن حياتي
فقد كنت نغمته الضائعة
وان نحن متنا احتواها الدهور
أنشودةً فذةً رائعة
لقد جمع الشعر ما بيننا
ولاقى به كل روح قرينه
وكان الهوى وطناً في حماه –
الامين عرفنا الرضى والسكينة
فيا ليل عيشي معي قاسميني
حياتي ، فنحن هنا توأمان
كلانا يلجلج عبر زحام –
الوجود وحيداً غريب المكان
كان في نبرته صدق وإحساس مليء
عبّ منه قلبها دفئاً ربيعياً مضيء
واستفاضت في حديثٍ عاشق عينيهما
لغة صامتة فهمها روحاهما
فترة ، ثم طواها في جناحيه وأدناها إليه
واستكانت نفسها في راحة بين يديه
وترامى صوتها في سمعه همساً نديّ النبرات :
هي : - أنت تحيا العمر في ملحمة صاخبة أما حياتي . .
هو - : حدثيني ليلى فما زال في عمرك شيء
ملفّع تكتمينه
ان في شعرك الجريء ظلالاً
كمنت خلفها شجون دفينة
كم تساءلت كلما حركت قلبي أصداء
شعرك المحزونة
ما الذي لفّ بالكآبة أيامك ما سرّك الذي
تطوينه
حدثيني ليلى . .
هي - : حياتي يا عباس حلم
مروّع الاشباح
حلم أطبقت عليّ به جدران سجن
داجٍ رهيب النواحي
عشت فيه مخنوقة الروح ظمأى
لندى الفجر ، للشذى ، للنور
الهواء الثقيل يكتم أنفاسي وقيدي
يغل دفق شعوري
كلما ضقت بالظلام وبالكبت تلفتّ
مثل طير مكبّل
علّ فجر الخلاص يلمح ، لا شيء سوى الليل
ليل سجني المقفل
وإذا انشقّ باب سجني أطلّت
منه عينا وحش رهب كبير
هو جلّادي اللئيم ربيب الحقد
والعنف والأذى والشرور
مستبد بالحكم ن يسكره الشّر
وتعذيب كل روح ضعيفة
كان لي من شذوذه كلّ يوم
محنةٌ سلّطت عليّ مخيفه
ولقد كنت انزوي و الأسى يطحن
نفسي الطموحة المخذولة
و وراء الجدران تصخب دنيا الأنطلاقات
و الحياة الجميلة
الحياة التي بملء اندفاعات خطاها
تسير نشوى غنيّه
لا تبالي بنا ، تسير و لا تثني خطاها
مأساتنا الفرديه . .
و تعلمت كيف تختلط الثورة و البغض
في دم المظلوم
و بأعماقي التربّص يخفيه هدوئي
في صمته المسموم
أرقب اللحظة التي كم تطلعت إليها
في شوقي المكبوح
لحظة العتق و الفرار إلى آفاق حريّتي
و دنيا طموحي
هو _ : و عرفت الهوى بسجنك ؟
هي : لم لا
و لقد كان رحمة لحياتي
أيّ سجنٍ لا يقحم الحب يا عبّاس
أبواب سوره المغلقات
كان لي الحب مهرباً أحتمي فيه
إليه أفرّ من مأساتي
كان دنيا في أفقها الرحب أسترجع حريتي
أحقّق ذاتي
يا لقلبي المؤتور كم رنّحته
نشوة الانتقام من جلادي
و أنا في مشاعر الحب غرقي
و هو خلف الأبواب بالمرصاد
أبوسع السجون خنق الأحاسيس
و قتل الحياة في الأعماق ؟
من يصد الشلال عن سيره الكاسح
عن اندفاعه الدفاق ؟
هو - : عبثاً . . .
هي -: وانطلقت أودع شعري
خلجاتي الحرّى ونبض شعوري
وأغني الحياة أشواق روحي
من وراء الأغلال من تحت نيري
أتحدى السجان ، أسخر بالعرف
بما شادت التقاليد حولي
من جدار ضخم مضت أغنياتي
تتخطاه في تحدّ مثلي
كم فتاه رأت بشعري انتفاضات
رؤاها الحبيسة المكتومة
كان شعري مرآة كل فتاه
وأد الظلم روحها المحرومة
هو -: سوف لا تعرف المخاوف والآلام درباً
إلى حياتك ليلى
سوف تنسينها ، ستنزاح عن عمرك
تلك الأشباح ظلاً فظلاّ
فيرفّ الهناء حولك في عشّي
وتهفو روح الهوى والحنان
وتغنّين للصفاء ، لنور الفجر
للحبّ ، للرضى ، للأمان
وسنمضي معاً ، ضياؤك يهدي
خطواتي إلى طريق صعودي
وحناني يسقيك من نبعه الثرّ كحبّي
هي -: عباس
هو -: كلّ وجودي
سوف ألقيه في يديك ، حياتك ومصيري
هي -: عباس حسبك حسبي
هو -: ليلى ماذا أرى بعينيك ، دمع؟
فيم تبكين
هي -: لست أدري ، بقلبي
ندمٌ حارق أحس به يأكل قلبي
يمرّ طعم هنائي
يا حبيبي تراك تغفر لي حباً بريئاً
ثوى رفاتاً ورائي
هو -: ليل لا تحزني ، ألم تغفري لي
لن تكوني يا ليل أسمح منّي
أمس متنا فيه ومات ونحن اليوم
نحيا بعثاً جديد اللون
حبنـــــــــــا الحبّ ، كل حبّ سواه
كان وهماً يطوف في قلبينا
نحن كنّا من قبل نبحث عنّا
في سوانا يا ليل حتى التقينا
اضحكي ليلى ، اضحكي لي .
وأهوت
شفتاه على ندى جفنيها
في هوى تمسحـــان آخــر ظلّ
مدّه أمسهــــــا على مقلتيهــــــا
للشاعر فدوى طوقان - العصر الحديث