[من يصدق أن شجرة الجميز قد تتحول إلى غصن ريحان هفهاف خلال أشهر؟
هكذا قررت (نشوى) المرأة التي ما أن تخطر في الشارع حتى يتغامز عليها الناس ضاحكون، يحملقون في جسدها المرعب بسخرية وإشفاق، فقد صرعت سمنتها بإرادة وتصميم، فكيف نجحت في هذه المعركة؟؟].
بعد إنجابها الطفل الأول وانشغالها بأمور الحياة الزوجية أخذت (نشوى) تهمل جسدها الآخذ بالاكتناز، فبمجرد أن ينام طفلها تخلد إلى الراحة لأن أعباء المنزل وشؤون الزوج ورعاية الطفل تجهد قواها ناهيك عن الرضاعة التي تحرض شهيتها للحلوى وسعادتها بطفلها غيبها عن استحقاقات ذاتها كأنثى، بل وجدت نفسها تغرق في الأمومة وتنتشي برحيق طفل قبلاته كالشهد.
وحملت بالطفل الثاني ورقعة جسدها تزداد اتساعاً، فإذا بثيابها القديمة تُلقى على الخادمة كنفايات بائسة، لا تحب أن تحتفظ بها في الخزانة كعبء.
ذهبت إلى محل (إيفانز) لتشتري ثياباً بمقاسات أكبر، بدأت حركتها تثقل وحبها للكيك يتحول إلى نوع من الإدمان تخرج مع صديقاتها إلى مقاهي (ستاربكس) لتأكل كيكتها المفضلة (وشراب الكابيتشينو) متعتها الوحيدة في الحياة ومذاق السكر الذي له فعل الخدر النفسي، والتسلية التي تنتظرها بفارغ الصبر، فهي مهملة من زوجها لم تعد تحظى باهتمامه كالسابق كلما توددت إليه يعرض عنها منكمشاً، والحيرة تدفعها إلى التساؤل (ما سر إعراضه؟) فهي تحبه ومتفانية في واجباتها الزوجية، ما سر جفائه؟ وكلما تباعد عنها رمت نفسها في حضن الشلة مرتادة المقاهي، تشتكي لصديقتها (ضحى) إعراض زوجها وبرود علاقتهما الحميمة، تشير عليها (صارحيه بما تعانين فلِمَ كل هذا الانغلاق على ذاتك؟).
وفعلت (نشوى) فما كان رده إلا مقتضباً، قالت متحسرة (لِمَ لا نخرج في نزهات عائلية كسابق عهدنا، يهمني جداً أن نتصالح مع بعضنا دوماً).
وخرجوا في نزهة مع الأولاد، وكانا طوال جلستهما في المقهى صامتان، الخادمة أخذت الأطفال الثلاثة إلى الألعاب بينما بقيا لوحدهما كالغريبين يتبادلان نظرات عائمة في الفراغ، لكن حدث ما فجّر الموقف وذوب جليد الصمت، مرت شابة رشيقة ضامرة البطن، منحوتة الخصر، تميس كالطاووس زهواً ودلالاً، شدت إليها الأنظار وبقي زوجها مبهوتاً يختلس النظر إلى هذه الفتاة فور أن اتخذت مقعدها في المقهى.
عنفته زوجته:
(ألا تخجل من نفسك، لقد بات منظرك مستهجناً وأنت تلتهم الفتاة بعينيك، فلنقم من هنا).
احتقن وجهه وارتعدت فرائصه، فهب على الفور:
(هيا فلنترك المكان).
دفع الحساب دون أن يتناولا طعامهما، أخذا أولادهما ورجعوا إلى البيت.
بغيظ تؤنبه نشوى والغيرة تنهشها:
(احترم وجودي، احترم غيرتي عليك).
ضحك ساخراً:
(وهل ألقيت نظرة على نفسك في المرآة حتى لا تلوميني).
ارتبكت وصوتها يتهدج (ماذا تقصد؟).
قال متهكماً:
(ألا أظن أني متزوج من امرأة!).
التفتت إلى المرآة المعلقة على جدار الصالون وتذكرت مشية الفتاة الغزلانية القد وأحست بنفسها مرمية من شاهق، جزعت لسمنتها المستهجنة وجسدها المتراكم الشحم، ازدردت ريقها وهي لا تكاد تسيطر على أعصابها، هوت على الكنبة مطرقة... بينما تركها زوجها والشرر يتطاير من عينيه.
جاءت إليها الخادمة بكوب (الكابتشينو) المفضل عندها كل مساء، نهرتها بشدة:
(خذيه لا أطيقه الآن).
دخلت حجرتها وخلعت ثيابها وتفحصت جسدها على مهل ويالهول ما رأت، أكداس من الشحم المقرف على البطن والزندين والفخذين وسمنة أضافت لعمرها الفتي سنين، بكت بحسرة بعد أن استوعبت مظهرها تماماً واستلقت على فراشها تفكر ملياً في حياتها الزوجية إذ أخذتها حياة الدعة والراحة وصمت زوجها المتواطئ مع إرادتها الضعيفة فنهمت الطعام وشرهت إلى الحلوى بجنون.
دخلت الحمام ووقفت على (جهاز الوزن) الإلكتورني الذي زلزل أعصابها حينما فاجأها برقم خيالي (105) كيلوا المتنافر مع طولها (160 سم)، اندلعت داخلها نيران الحسرة والندامة ما بها نست أو تناست رشاقتها في خضم شعورها الأمومي؟ ما بها استرخصت أنوثتها مبررة أن الذرية تلزم الزوج على التعفف؟ نسيت أن هناك وصلاً من التفاعل الكيميائي بين أنوثة المرأة وذكورة الرجل وهذا الوصل تغذيه عوامل الجمال والجاذبية والغواية الفطرية، لَِمَ تركت أولادها يغيبون شواردها ويستحوذون عليها كاملة؟ إنها امرأة مرهونة لذلك الزوج الذي انتخبها دون غيرها لإشباعات حسه الذكوري، تذكرت وهي غائمة الإحساس محبطة المشاعر أنها ينبغي أن تخسر كل هذه الشحوم المقيتة وأدعى لها أن تهجر الأطايب والحلوى الروعة التي تدغدغ مذاقها بالسكريات، المقاومة صعبة جداً، تغمرها التعاسة إن لم تأخذ حصتها في اليوم، حتماً ستعاني، ستكابد صراعاً نفسياً حاداً، إذ كيف تقمع هذه الرغبة عند نزهتها مع الشلة في المقاهي؟!
قررت أن تتبع حميّة قاسية قرأتها في مجلة، وباشرت في إعداد وجباتها حتى تخسر 10 كيلو في الأسبوع كما هو مفترض في هذا البرنامج.
وكان اليوم الأول عذاب وهستيريا، الشاي دون سكر وحبة توست جافة، بيضة مسلوقة، ورغبتها في الحلويات تنهشها كما حاجة المدمن إلى المخدر بعد طول إدمان، انتابتها حالة من العصبية وضجر قاتل دفعها إلى النوم والخمول، تنفجر على زوجها كالإعصار كلما لاطفها بعبارة (كاملة الدسم) كأنه المتهم الذي قتل متعتها في الحياة وحبسها في سجن الحرمان، ومضت تراقبه موسوسة وكأنه سيخونها مع كل امرأة رشيقة، تدخل معه في مشاجرات بسبب العارضات والممثلات (هن من أدرن عقول الرجال، هن من أفسدن الذوق، أشارت إلى عارضة في التلفزيون غاضبة: هل هذه الممصوعة أجمل مني؟!).
يلوي شفتيه متهكماً!
بعد معاناة أسبوع وقفت على (جهاز الوزن) فإذا بفرحتها تتبدد فقد خسرت (3 كيلو فقط) نتيجة خائبة ومريرة أمام غول الحرمان وهو يفترسها بتباطؤ ثقيل وبررت فشل النتيجة أنها في بعض المرات تناولت قطعة حلوى مضطرة لأنها شعرت بالدوخة والوهن!
وفي إحدى الزيارات اضطرت أن تجامل حماتها فأكلت قطعة صغيرة من البسكويت والاضطرار أحياناً يبيح المحظورات!!
عادت سيرتها الأولى بعد أن حنت إلى شلة الصديقات ومقهى ((ستاربكس) هنا التهمت الحلويات بأثر رجعي!
وتتفجر معاناتها من جديد وشعورها بالحرج خصوصاً عندما سافروا إلى منتجع صيفي يقتضي منهم الركض والحركة والنشاط كان زوجها يبدوا أصغر سناً منها، رشيقاً متناسق الجسد، تنكمش محبطة، عزّت عليها نفسها كيف تهوى إلى هذا الدرك من الرغبات الدونية، كم تشعر بالنقص وهي تسحب ثقلها بمشقة وسط سرب من الظباء يتهادين في المنتجع بثقة وابتهاج.
عادت لحجرتها مغتمة فارة من عيون الناس الساخرة وتعليقات الأطفال الجارحة وزوجها المتهارب عنها يفتعل الانشغال بالأولاد درءاً لحرجه من سمنتها.
الوزن في ازدياد والإحباط ينخر في إرادتها فاعتزلت الناس ولفتها كآبة مضنية ولفرط خجلها من زوجها انطوت على نفسها في حجرة خاصة، يؤلمها أن تقع عينيه على جسدها المشوّه فيستنكر في قرف، تجرحها تعليقاته السمجة حينما يصفها (امرأة كاملة الدسم).
فكرت في إجراء عملية (شفط الدهون) وأخذت تسأل وتتصل وتبحث في هذا الأمر حتى عرفت أنها مخاطرة فبعض المرضى توفوا!.. تعاطت الأعشاب الملينة لفترة حتى تعب عندها القولون، وبقيت تتخبط في حميات مختلفة ووزنها في صعود وهبوط واليأس يفترسها ويدمر كل أحاسيس الأمل داخلها.
وفي وحدتها البائسة قررت أن تنتشل نفسها من هذا الانهيار وأن تحارب ضعفها وتصارع رغبتها وتجتهد كي تستعيد رشاقتها، انتفضت مستدركة بوعي كان ينقصها الإصرار والمثابرة، عاهدت زوجها أنها لن تطأ فراشه إلا وقد ولدت من رحم المعاناة والحرمان (نشوى جديدة).
وأصرت هذه المرة وتحدت نفسها، جمعت قصاصات من المجلات وألصقتها على الثلاجة أطباق شهية من الحلوى والكيك وإلى جانبها (المحصلة) دهون مشفوطة من جسد امرأة بدينة وألصقت صور العارضات والرشيقات في حجرتها وعلى مرآتها وفي الحمام.
ذهبت إلى طبيب متخصص في الرجيم والغذاء جمع كل البيانات الخاصة بوضعها الصحي من وزن وطول ونسبة ماء ودهون وعضل وسلولايت ونسبة السكر والأملاح في الدم، ثم قدم لها برنامجاً غذائياً مناسباً وقررت أن تمشي على ساحل البحر كل يوم ساعة وكلما زادت لياقتها تضيف نصف ساعة والتزمت به كفرض وواجب لا تهمله مهما كان السبب والعائق، وكانت المعاناة مريرة وعذابها شديد، خصصت الاثنين والخميس لصيام الاستحباب كي تصقل إرادتها، ثم قرأت كتب كثيرة عن النجاح والإرادة والإصرار، أخذ مزاجها ينشرح بالتدريج بعد أن انتصرت في معركتها الشرسة فعندما قطعت الشوط الصعب في المرحلة الأولى هانت عليها المراحل الأخرى، استعانت بالرياضيات الروحية والنفسية فشهوة البطن البهيمية أخذت تتهذب في ذاتها وشعرت بسعادة روحية بالغة لأنها قمعت هذه الملذات التي كانت تأسرها في نطاق ضيق، وتذكرت نعمة الجمال والرشاقة وحب زوجها ونشوة النصر على ضعف النفس وقوة الإرادة.
أخذ وزنها في الانخفاض التدريجي وبشكل طبيعي وصحي ودون أية مؤثرات سلبية أخرى، وحماستها تتقد ودوافعها تشتد وحافزها ينشط، بعد ثمانية شهور تسترد (نشوى) وزنها (65 كيلو) مبتسمة بثقة، مبتهجة، متصالحة مع نفسها، يدخل زوجها البيت فتبهره بشكلها الجديد، شابة رشيقة ترتدي الجينز الضيق قد لف خصرها النحيل ونحت استدارتها بأنوثة بديعة، تسمّر مدهوشاً فاغراً فاه:
(أحقاً هذه نشوى؟)
(عدت أجمل من السابق، أقصد يوم خطبتكِ!)
تغمز عينيها بدلال:
(بل وأجمل من فتاة المقهى!)
بتخابث يسأل (أية فتاة؟)
هزت كتفها متغنجة (التي نبهتني إلى علامة الخطر!).
الأديبة خولة القزويني