من أسرةٍ كرديَّةٍ من أذربيجان هاجرت إلى العراق انبثق فجرُ قائدِ هذه الدولة التي لعبت بقيادته دورًا من أروع أدوار تاريخنا.
ولعلَّ "صلاح الدين الأيوبي" أروع بطلٍ قدَّمته الحضارة الإسلامية على امتداد القرنين السادس والسابع للهجرة، وبه أفلت المسلمون وأفلتت الحضارة الإسلامية من غزوٍ عالميٍّ صليبيٍّ كاسحٍ، كان يقوده أخبث صليبيٍّ عرفته أوربَّا الهمجيَّة في عصورها المظلمة "بطرس الناسك".
وقد كان لاشتراك صلاح الدين مع عمِّه أسد الدين شيركوه في الحملات العسكريَّة التي كان يُرسلها نور الدين إلى مصر، أثرٌ كبيرٌ في تعميق خبرته وإبراز مواهبه، وما إن مات عمُّه أسد الدين سنة 564هـ حتى أسند إليه الخليفةُ الفاطمي في مصر "العاضدُ" الوزارةَ، ولقَّبه بالملك الناصر، فظفر صلاح الدين بحبِّ الشعب واحترامه نظرًا إلى حزمه وعدالته.
ولم تأتِ سنة 567هـ -أي بعد توليته الوزارة بثلاث سنوات- حتى مات الخليفة "العاضد" فطُوِيَت صفحة الخلافة العبيدية (الفاطمية) في مصر وغيرها، وعادت مصر العاصمة الفاطميَّة الأولى عاصمةً كبرى للعباسيِّين تحت قيادة الدولة الأيوبيَّة وقائدها صلاح الدين الأيوبي.
كان أمام صلاح الدين تحدِّيَّات داخليَّة في مصر؛ فإنَّ الآثار الفكرية التي خلَّفتها الدولة الفاطمية كانت تحتاج إلى إعلان ثورةٍ فكريَّة.
وكان أمام صلاح الدين خللٌ اقتصاديٌّ منذ أيَّام المجاعة العظمى، أيَّام "المستنصر" وما جرَّ على مصر والعالم الإسلامي الحكم الفاطمي من ويلات تسلُّط الوزراء العظام منذ "بدر الجمالي" (464هـ) إلى شاور وضرغام.
وكان بإمكان صلاح الدين -لو أنَّه قائدٌ مخادع- أن يُعلن ثورةً اقتصاديَّةً واجتماعيَّة، ويلهي الناس عن حقيقة الخطر الصليبي الذي يُواجهونه!!
لكنَّ صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع؛ بحيث يشغل الناس لحساب الأعداء عن معركتهم الحقيقية بمعارك جانبية.
وكان بإمكان صلاح الدين أن يبحث عن "اتفاقيَّة جلاء" مع الصليبيين، أو عن "حلٍّ سلميٍّ استسلامي" حتى تنتهي فترة تثبيته في الحكم، ثم يُعلن للناس أنَّ الحكَّام السابقين يتحمَّلون المسئوليَّة، وأنَّه جاء إلى الحكم بعد فوات الأوان، وبالتالي يخضع العالم الإسلامي لهذا الغزو الخبيث!!
لكنَّ صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع.
وفي مواجهة غزوٍ صليبيٍّ عالميٍّ أعلن صلاح الدين ثورةً إسلاميَّةً عالميَّة، وأصبح هو رمزها ومحورها، وكان هذا هو الطريق الوحيد ولايزال هو الطريق.
لقد جاء توحيد العالم الإسلامي جنبًا إلى جنبٍ مع الجهاد المستمرِّ ضدَّ الصليبيَّة العالميَّة الحاقدة، ولم يكن صلاح الدين بالأبله الذي يبحث عن أيِّ حلٍّ بديلٍ للجهاد؛ فوسط الحروب التي تهزُّ الكيان المادِّي والمعنوي والفكري للأمَّة لا يُمكن إنجاح أيَّ هدفٍ بعيد عن الهدف الأول، وكل الأهداف تأتي من خلال هذا الهدف؛ لأنَّ الجماهير تعتقد أنَّها عمليَّة تلهية وخداع، وقد دخل صلاح الدين عديدًا من المعارك قبل حطِّين الشهيرة؛ كموقعة "مرج عيون" جنوب لبنان سنة 575هـ، وموقعة "مدينة صفد" في السنة نفسها، وعلى امتداد كلِّ السنوات كانت هناك معاركٌ لا تُحصى بين صلاح الدين والصليبيِّين.
وقد شنَّ صلاح الدين على الصليبيِّين حروبًا واسعةً من أجل استخلاص إمارات إسلاميَّةٍ استولى عليها الصليبيُّون وأسَّسوا فيها إمارات صليبية مضى على استيلائهم عليها قريبًا من تسعين سنة؛ كـ أنطاكية، وطرسوس، والرها، وبيت المقدس، وطرابلس. لم يكن صلاح الدين ساذجًا ضعيفًا متهاونًا فيدعو إلى حدود ما قبل "معركةٍ" ما، أو "اتفاقيَّةٍ" ما!!
لقد كان الحقُّ الإسلامي في عقيدته مقدَّسًا لا يقبل التفريط والمساومة!! هكذا كان هذا الرجل العظيم صلاح الدين الذي انتصر في حطِّين واستردَّ بيت المقدس!!
وبوفاة صلاح الدين بقيت الدولة الأيوبية التي تُنسب إليه تُؤدِّي دورها قريبًا من ستِّين سنة، لكنَّ هؤلاء الحكام كانوا أقلَّ من صلاح الدين؛ فلم يستطيعوا لعب الدور الذي لعبه، وكان بعضهم متخاذلًا يُؤمن بإمكانيَّة المفاوضات مع العدوِّ الصليبيِّ التاريخي؛ كالملك الكامل الذي استجلب سخط العالم الإسلامي كلَّه حين قام بتسليم القدس للصليبيِّين، وقد تمكَّن الصالح أيُّوب (ابنه) الذي جاء بعده من استردادها.
ومن الغريب أنَّ هذه الدولة التي بدأت بعظيمٍ من أعظم الرجال هو صلاح الدين، وانتهت بملكٍ عظيمٍ كذلك هو الملك الصالح، كانت نهايتها على يد امرأةٍ مملوكةٍ من هؤلاء اللَّائي يظهرن في عصور الضعف، ويُساعدن على سقوط الدول.
إنَّها واحدةٌ من هؤلاء النسوة القويَّات اللائي يجدن اللعب في خفاء القصور ودستورها، متجرِّدات من كلِّ خصائص الأنوثة الحقيقيَّة، مستغلَّات مظاهر هذه الأنوثة في القتل والتدمير، إنَّها شجرة الدر التي قتلت ابن زوجها "توران شاه" لكي تنفرد بالحكم، ثم شربت من الكأس نفسها حين قتلها المماليك أخذًا بثأر زوجها منها.
وعجبًا، لقد قُضِيَ على الدولة التي قامت على أكتاف واحدٍ من أعظم الرجال على يد مملوكةٍ مهما اختلفنا حولها فإنَّها كذلك من أبرز نساء العالم.
المصدر: كتاب دراسة لسقوط 30 دولة إسلامية، د. عبد الحليم عويس.