إن (مِنْ) لها معانٍ عدة، من بينها:
(للتبعيض) مثل {منهم من كلم الله}، أي بعضهم، ومثل {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} أي بعض ما تحبون.
و(للبيان) مثل {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} ومثل {يحلون فيها من أساور من ذهب}.
وكثيراً ما يحدث التباس بين هذين المعنيين أي للتبعيض والبيان، ولكن سياق الكلام والقرائن توضح المعنى المقصود.
والآن لنر الآية الكريمة:
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}
أولاً: من حيث سياق الآيات الكريمة، ما قبلها وما بعدها,أي من حيث اللفظ الذي بُدئ به الخطاب في الآيات الكريمة السابقة واللاحقة:
الآيات كالتالي:
{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ... ولتكن منكم أمة ... ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا...}
إن اللفظ الذي بدئ به الخطاب في الآية السابقة هو للجمع (واعتصموا)، وفي الآية اللاحقة كذلك للجمع (ولا تكونوا)، ولكن الآية موضع البحث الواردة بين الجمعين هي خطاب بلفظ المفرد (ولتكن)، وليس (ولتكونوا).
وفي فقه اللغة إذا اختلف السياق على هذا النحو, أي لفظ جمع فمفرد ثم جمع، هذا يعني أن بدء الخطاب بلفظ المفرد هو مقصود وأنه على غير سابقه ولاحقه.
فالخطاب في الآية السابقة بدئ بلفظ جمع للمسلمين أن يعتصموا، وفي الآية اللاحقة بلفظ جمع للمسلمين أن لا يتفرقوا، وأما ما بينهما فقد بُدئ بلفظٍ مفردٍ للمسلمين, أي ليس لجميعهم.
ولا يقال لماذا قلنا عن (ولتكن) إنها لفظ مفرد, مع أنها تعود إلى (أمة), وأمة جماعة أي ليست فرداً؟
والجواب على ذلك أننا نتكلم عن الناحية اللفظية لبدء الخطاب, ولا يؤثر في اللفظ تابعُه, فمثلاً:
الآية الكريمة { هذا فوجٌ... }, فإن (فوج) هي أكثر من فرد, ولكن هذا لا يعني أن اللفظ (هذا) قد أصبح لفظ جمع, بل هو يبقى لفظاً مفرداً حتى وإن تبعه معنى الجماعة. وكذلك إن قولي لك: " أنتم أكرمكم الله عالمٌ فاضل" فإنَّ "أنتم" هنا لفظ جمع حتى وإن تبعه معنى الفرد "عالم فاضل".
وهكذا (ولتكن) فهي لفظ مفرد, فالآية { ولتكن منكم أمة ...} وليست (كونوا أمة)
ولا يؤثر في ذلك تأنيثها أو تذكيرها لتناسب كلمة (أمة) بعدها, فإنها تبقى لفظاً مفرداً: (ولتكن), وليس (ولتكونوا).
فنحن هنا نتناول الناحية اللفظية, أي نسق الكلام, فالموضوع يتعلق باختلاف نسق الكلام من حيث الألفاظ الثلاثة التي بدئ بها الخطاب في الآيات الثلاث:
( واعتصموا , ولتكن , ولا تكونوا )
وحتى تتضح صورة اختلاف نسق الكلام, خذ مثلاً قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ... إلى قوله تعالى والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس...}
إنك تلاحظ هنا أن خبر (لكن) هو مرفوع, وهكذا جاءت كلمة (والموفون), ولكن ما بعدها كان منصوباً (والصابرين), فهي جاءت بلفظ مغاير لخبر (ولكنَّ), وكذلك بلفظ مغاير للمعطوف عليه (والموفون), واختلاف نسق الكلام هذا في فقه اللغة يعني أن نصب (والصابرين) هو أمر مقصود للرفع من شأنهم, وأنهم خصوا بمدح زائد عما قبلهم, أي أن اختلاف نسق الكلام عندهم جعلهم مقصودين على غير ما سبقهم ... وهكذا في كل اختلافٍ لنسق الكلام من العربي الفصيح, فإن له هذا المعنى في فقه اللغة.
وعلى هذا النحو ما جاء في الآية الكريمة من اختلاف نسق الكلام فهو يعني أن الخطاب في الآية الوسطى هو مقصود في اختلافه عما سبقه وما لحقه من خطاب, فهو ليس خطاباً للجميع بل لجزء منهم، أي أن (من) حسب السياق هي للتبعيض وليست للبيان.
ثانياً: من حيث موضوع الآية الكريمة
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتأتى إلا من أفراد قادرين وليس من جميع الأفراد, ومع ذلك فإن الآية ليست أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر فحسب، ولو كانت كذلك لكان هذا ممكناً إتيانه من الأفراد, ولكان الخطاب للجميع. ولكن الآية أمر بالدعوة إلى الخير بالإضافة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والخير في الآية {يدعون إلى الخير} هو الإسلام وهو أي الخير محلّىً بالألف واللام فهو عام أي الإسلام كله، والإسلام كله يشمل العبادات والمعاملات وكذلك يشمل العقوبات والحدود, والدولة التي تطبق العقوبات والحدود ... وما دام (الإسلام كله) يشمل الدولة أي الخليفة لتطبيق الأحكام، وحيث لا يمكن أن تقام الخـلافة بعمل فردي بل بكتلة، وهذا واضح، فتكون الآية توجب قيام (أمة) بمعنى جماعة متكتلة من بين المسلمين تدعو إلى الإسلام كله بإقامة دولته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ومن الجدير ذكره أنه بدون الدولة لا يتأتى تطبيق الإسلام كله حيث إن الأحكام الشرعية منها ما يقوم به الأفراد كالصلاة والصيام .. ومنها ما لا بد من الإمام أو الخليفة لتطبيقه كالحدود .. فالدعوة إلى الإسلام كله تعني إقامة الخـلافة، وهذه تحتاج العمل الجماعي أي عمل كتلة وليس عمل أفراد.
ولا يقال إن الدعوة لإقامة الدولة غير العمل لإقامة الدولة, فالعمل لإقامة الدولة صحيح يحتاج إلى جماعة متكتلة , وإنما الدعوة لإقامة الدولة فلا تحتاج إلى جماعة بل تتأتى من الأفراد...
لا يقال ذلك لأن الدعوة لإقامة الدولة لا تنفصل عن العمل لإقامتها, فالدعوة في الإسلام ليست ترفاً فكرياً منفصلاً عن العمل. إن الدعوة لإقامة الدولة تلازم العمل لإقامتها, ولا تنفصل عنه. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا ... وعمل ... وطلب النصرة... وأقام الدولة... و اقتداءاً بالرسول صلى الله عليه وسلم, فنحن ندعو ونعمل بالطريقة نفسها... حتى نقيم الدولة بإذن الله.
وهكذا فإن موضوع الآية أي الدعوة إلى الإسلام كله تجعل الخطاب ليس للمسلمين أفراداً غير متكتلين، لأن إقامة الدولة لا تتأتى من دعوة أفراد يعملون غير متكتلين في جماعة, بل دعوتهم ليعملوا ضمن جماعة متكتلة من بين المسلمين قادرة على هذا العمل، فتكون (مِن) للتبعيض وليست للبيان.
ثالثاً: من حيث اللغة
إن هناك أموراً ذكرها علماء اللغة كأدلة على تمييز (من) البيانية عن غيرها، ومن هذه الأمور علامات ثلاث تدل على (من) البيانية, ولا تكون مع (من) التبعيضية, وهي:
1 – العلامة الأولى ل (من) البيانية هي أن يصح الإخبار بما بعدها عما قبلها، مثلاً:
{واجتنبوا الرجس من الأوثان} فتصلح الأوثان خبراً عن الرجس فتقول: الرجس هي الأوثان.
{أساور من ذهب} فتصلح كلمة (ذهب) خبراً للأساور فتقول: الأساور هي ذهب.
ولكن في الآية موضوع البحث لا تصلح هذه العلامة:
(ولتكن منكم أمة)، فما بعد (مِنْ) هو الضمير (كم) المخاطب، وما قبلها هي من أخوات كان (ولتكن)، و(كم) لا تصلح خبراً لكان السابقة بل تصلح اسماً لها أي لتكن أنتم أمةً. وعليه فلا تكون (مِنْ) هنا للبيان.
هذه هي العلامة الأولى.
2 - العلامة الثانية
[(مِنْ) ومجرورها في موضع الحال لما قبلها إذا كان معرفةً، وفي موضع النعت لما قبلها إذا كان نكرةً].
فمثلاً (أساور من ذهب), فإن (من ذهب) تصلح أن تكون في موضع وصف فتقول هذه أساور مذهبة أو نحو ذلك, لأن أساور نكرة.
وكذلك (الرجس من الأوثان), فإن (من الأوثان) تصلح أن تكون في موضع حال لـ (الرجس) لأنه معرفة, فتقول (الرجس وثناً أمر منكر), فإن (وثناً) هو لبيان هيئة الرجس.
ولا يقال إن (وثناً) لفظ جامد فهو أقرب للتمييز, وليس حالاً لأن الحال وصف مشتق... لا يقال ذلك لأمرين :
الأول أنه صحيح أن الحال في الغالب وصف مشتق { فخرج منها خائفاً}, {وأرسلناك للناس رسولا}... لكن الحال يأتي أحياناً لفظاً جامداً (بعه مداً بدرهم), فإن (مداً) حال. وكذلك ( كر زيدٌ أسداً) , فإن (أسداً) حال ... ولكن الغالب في الحال أنه مشتق.
وكذلك فإن التمييز يأتي جامداً , وهو الغالب (عشرون درهماً) , ( رطلاً زيتاً)... ولكنه يأتي أحياناً قليلة مشتقاً (لله دره فارساً) , ( لله دره راكباً).
هذا هو الأمر الأول, أن ليس بالضرورة أن كل جامد يكون تمييزاً ولا يكون حالاً.
وأما الأمر الثاني, وهو المهم , فهو أن الحال هو لبيان الهيئة لصاحبه أي هو هيئة من هيئاته وليس منفصلاً عنه لتمييزه عن غيره.
فمثلاً: (عشرون درهماً) ف (درهماً) تمييز لأنها لا تبين هيئة العشرين بل هي أمر آخر يميز العشرين من غيرها. وكذلك (رطلاً زيتاً) فهنا (زيتاً) تمييز لأن الزيت ليس هيئة الرطل بل هو شيء آخر مفصول عن الرطل وإنما يميزه.
في حين أن (وثناً) في (الرجس وثناً أمر منكر) هو لبيان هيئة الرجس فإن الرجس هنا هو الوثن , وليس الوثن أمراً آخر غير الرجس كالدراهم غير العشرين, والزيت غير الرطل.
هذه هي العلامة الثانية
وفي الآية الكريمة ما قبل مِنْ ومجرورها كلمة (ولتكن) والضمير فيها يعود إلى (أمة) أي إلى نكرة، ولا تصلح (منكم) لتكون في موضع نعت لأمة.
ولا يقال إن (أمة) معرفة لأنها نكرة موصوفة, ومع أن المسألة ليست في كون (أمة) معرفة أو نكرة , بل في صلاحية (من) ومجرورها لتكون نعتاً إذا اعتبرت (أمة) نكرة , أو حالاً إذا اعتبرت (أمة) معرفة . و (منكم) لا تصلح حالاً لـ (أمة) ولا نعتاً لها, فمهما اعتبرت (أمة) نكرة أو معرفة فإن (من) ومجرورها لا يصلحان لا نعتاً ولا حالاً. فالمسألة هي في صلاحية (من) ومجرورها لتكون حالاً إذا كانت (أمة) معرفة أو نعتاً إذا كانت (أمة) نكرة, وليست في تعريف أو تنكير (أمة).
ومع ذلك , ومع أن البحث في كون الوصف الذي يجعل النكرة معرفة, هو ليس موضوع البحث, ولكني أقول إن الوصف الذي يجعل النكرة معرفة هو الوصف الخاص وليس الوصف العام, فلو قلت: جاء رجل كان ينادي في السوق على بيع السلع, فهذا الوصف لا يجعل كلمة (رجل) معرفة بل تبقى نكرة لأن الوصف عام لكل من ينادي في السوق على بيع السلع وليس خاصاً برجلٍ معين.
وفي الآية الكريمة, فإن الوصف الذي تبع (أمة) هو وصف عام, ولذلك فهو لم يخرجها عن كونها نكرة, وهذا واضح من معنى (أمة) في كتب التفسير, فستجد اختلافاً كبيراً في معناها.... ولذلك فإن الراجح في كلمة (أمة) هو أنها نكرة وليست معرفة, مع أن علامة (من) البيانية هنا ليست هي كون التابع لها نكرة أو معرفة بل صلاحية (من) ومجرورها لتكون نعتاً إن كانت (أمة) نكرة, أو حالاً إن كانت (أمة) معرفة , و (من) هنا ومجرورها لا يصلحان لا حالاً ولا نعتاً, فإذن (من) ليست بيانية بل تبعيضية.
3 - العلامة الثالثة, وهي علامة مرجحة أي إذا استوت كل العوامل الأخرى بين (من) البيانية و(من) التبعيضية, فهذه العلامة إذا وجدت ترجح (من) البيانية, لأن هذه العلامة لا تأتي مع (من) إلا أن تكون بيانية. والعلامة هي: إذا سبقتها (ما، مهما) فإنهما يرجحان (مِن) بيانية] مثل {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} فهنا سبقها (ما) فترجح أن (من رحمه) للبيان.
ومثل {مهما تأتنا به من آية}، فهنا سبقتها (مهما) فترجح أن (من آية) للبيان.
ونقول عامل مرجح لأنه ليس بالضرورة أن تسبق (ما، مهما) مِن البيانية.
وفي الآية الكريمة موضع البحث فإن عوامل (من) البيانية والتبعيضية ليست مستوية, بل هي تدل على أن (من) هي تبعيضية وفق الأدلة المتعلقة بسياق الخطاب أي اللفظ الذي بدئ به الخطاب, والمتعلقة بموضوع الطلب في الآية. ومع ذلك فحتى لو تساوت (جدلاً), وأشكل معرفة (من) البيانية من التبعيضية, فإننا نعمد إلى هذه العلامة المرجحة (ما , مهما), فنجد أنه لم يسبق (منكم)، لا (ما) ولا (مهما) لتكون مرجحةً للبيان.
ونكرر هذه العلامة هي علامة مرجحة استعملها العرب للتفريق بين (من) التبعيضية والبيانية إذا تساوت كل العوامل الأخرى, وأما إن لم تتساو, فلا يعمد لهذه العلامة المرجحة.
بناءً على هذه الأمور، فإن (من) في الآية الكريمة: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، هي للتبعيض أي لتقم من المسلمين أمة (جماعة متكتلة) لأداء الفروض المذكورة في الآية.