نحن المؤرخون نقف مثل حمار بلعام ، مترددين دون قرار بين رغبتين. نحن نريد ، من ناحية ، أن نوقظ الموتى وان نتحدث إليهم ، وأن نقرضهم طاقتنا الحية على الكلام ، كما كتب الراحل آرثر كوين إلى ” ظلال الزمن الذي مضى ، بعضها يشد انتباهنا ، وبعضها يتردد في ذلك ، وبعضها أحبط لفترة طويلة في الصمت المزري ، … بعد كل شيء يوجد هناك بطريقة أو أخرى ، العباقرة من وقت معين ومكان معين ، وجميع تلك الاحتياجات الغريبة فقط لإعادة القليل من دمائنا إلى حياة انقضت ، لتتحدث معنا وعبرنا. لأنهم ينتظروننا ، كما تعلمون ، ليس كأثر خافت لوجود اختفى لزمن طويل، ولكن كأشخاص حقيقيين ، حقيقيين وصامتين الى ان تطرح بعض الأسئلة فتنحل عقدة صمتهم. “(1) ومن جهة اخرى ، نحن أيضًا نرغب في منح الوجاهة لبعض الأصوات من الماضي – ونسميها ” مصادر – وإبعاد آخرين وإبقائهم في الصمت ، بنفس القدر من وجاهة الحجة . هذا الفعل من الانتخاب التاريخي سوف يساعدنا في مهمة “شرح التاريخ” من خلال تأسيس اتصالات ، ومشابهات ، وتوازيات بين حاضرهم وحاضرنا. “الموضوعات التي لا تعترف بهذه العلاقة مع الحاضر”، – كتب ارنست تروليتش ذات مرة – ” تنتمي [فقط] إلى الآثار المتحفية القديمة .” (2) وهكذا نحن المؤرخون ننتقي ونختار ، مانحين صوتا هنا وناكرين صوتا هناك ، ومن اختياراتنا نبني قصصا عن الماضي ونسميها ” روايات تاريخية ” ومؤهلاتها العليا هي أنها يجب أن تكون ذات معنى بالنسبة الينا.
لا أقصد الاقتراح بأن الروايات التاريخية تعسفية أو خاصة. على العكس ، فهي عامة ، وغالبًا ما تكون عامة جدًا وشعبية، وإذا كانت مثيرة للاهتمام هكذا ، فلا يمكن تغييرها دون جدال مفتوح. متانة الروايات التاريخية المتصلبة تبعث على الراحة عند بعض الناس وتثيرغضب الآخرين. أحسب ان ” ستيفن ” في رواية أوليسيس لجيمس جويس من بين هؤلاء الأخيرين ، الذي يعلن أن “التاريخ هو كابوس أحاول أن أستيقظ منه.” (3) ويشمل أيضا لدينا “هنري فورد” ، الذي أعلن أن “التاريخ هو أكثر أو أقل من كلام فارغ. إنه تقليد ونحن لا نريد تقليدا “.(4) في بعض الأحيان ، التاريخ ينسل ساخرا حول الزاوية للانتقام. حدث هذا مع الإنجليزي ،أوغسطين بيرل ، الذي رفض ذات مرة التاريخ بقوله أنه ” كومة من الغبار العظيم” وبعد سنوات ، عندما كان رئيسا للوزارة البريطانية في ايرلندا ، فان حالة الهدوء والخمود في ذلك البلد أقنعته للذهاب في عطلة من دبلن إلى إنجلترا. كان ذلك العام هو عام 1916 ، مباشرة قبل / تمرد / عيد فصح الأحد. كيف ان الكثير من القصص حول التاريخ تقترح من قبل الجدال الضاري لتغييرها فتغدو شرارة في بعض الأحيان. بالنظر في الغضب الذي أثاره دانيال غولدهاغن، فقط باعتباره الاحدث في سلسلة طويلة من الخلافات العامة في هذا القرن حول التاريخ الألماني. بالطبع ، من أجل توضيح الأسباب ، فإن تاريخ ألمانيا هو الأكثر حساسية وأثرًا أخلاقيا صادما ضمن جميع التواريخ الأوروبية الحديثة ، وأكثرها خضوعا للتمحيص بعناية. إلا أن إحدى نتائج هذا الاشتراط – على كل حال – هو عدم اجتذاب الكثير من الملاحظة. هناك تصغير وضغط للتاريخ الألماني إلى مدى عصوره الأخيرة.
في الوقت الحاضر ، كما تميل القصة لأن تروى ، فان تاريخ ألمانيا القديم يبدأ مع نابليون ، وعصوره الوسطى من 1871 حتى 1918 ، وعصره الحديث يبدأ بالكاد قبل ثمانين عاما. هذا الازدحام في التاريخ الألماني في حدود القرنين التاسع عشر والعشرين هو شيء حديث للغاية. في قلب الذاكرة الحية يمتلك الألمان فترة أطول بكثير ، ورغم انه غير مختلف عليه فان السرد يعيد تقديم نفسه كتاريخ وطني ألماني. هذا السرد ، بإبداعاته وثروته ، يشكل خلفية هذا المقال.
موضوعي هو مكانة الاصلاح البروتستانتي في السرد الحديث للتاريخ الألماني. في الماضي ، وهذا حدث يرجع للقرن السادس عشر ، فقد شكل الفصل الافتتاحي لما يمكن تسميته (من اجل منحه لقب تقليدي) “من لوثر الى بيسمارك ” كقصة من التاريخ الألماني .(6) في تلك الأيام ، احتلّ الإصلاح ، كما كتب ياروسلاف بيليكان ، منصبًا في التعليم الألماني “مشابهًا في بعض الوجوه لمكانة الحرب الاهلية في التأريخ الأميركي ، باعتباره حاسما وأنه – بالمعنى الحرفي تماما لهذا المصطلح – (حدث دشن عهدا) – والذي من خلاله تم تعريف المجتمع وتاريخه كطبيعة وطنية كاملة ” 7 أو ” كان قد تم تعريفه ” إلى ما يقرب من خمسة وسبعين عاما مضت ، وتم الاطاحة بالإصلاح من مكانته المتميزة مع بداية أسطورة خلق ألمانيا الحديثة. سوف استكشف في ثلاث مراحل رئيسية كيف حدث هذا. أولا ، أصف كيف اكتسب الاصلاح البروتستانتي هذا المنصب في الرواية التاريخية الالمانية المهيمنة في القرن التاسع عشر8 ثانيًا ، أربط كيف فقدت حركة الإصلاح وضعها المتميز بعد الحرب العالمية الأولى. وثالثا ، أقوم بتوضيح عودة يقظة الاصلاح البروتستانتي في الدراسات التاريخية الألمانية منذ 1960. (9)
إن المكانة المميزة للإصلاح في قصة / من لوثر- إلى- بسمارك / تعكس اعتقادا قديما بأن رسالة مارتن لوثر المسيحية كانت في الأصل ولا تزال تلبية استثنائية لاحتياجات الروح الألمانية. فكرة وجود إلفة اختيارية بين المسيحية البروتستانتية والأمة الألمانية تعود رجوعا – على الأقل – إلى اللاهوتي البروسي فريدريك دانيال إرنست Schleiermacher شليرماخر. كان الألماني الأكثر تمثيلاً لمفكر بروتستانتي من القرن التاسع عشر ، والذي ، كما كتب كارل بارت ، ” في حقل اللاهوت كان في عصره “. (10) وكان أيضا السياسي اللاهوتي تمامًا الذي كما كتب جيمس جيه شيهان “مشاعر دينية وولاءات وطنية تصدر من نفس المصدر وتتدفق في نفس الاتجاه “. هذا الاتجاه أدى إلى” نوع من الرايخ الجديد ، موحدا للمجتمع السياسي الذي يجمع بين الهوية الثقافية والدولة “(11) في 1809 كتب شلايرماخر أنه ربما ” يجوز الاستمرار بوجود الكاثوليكية للشعوب اللاتينية “، طالما البروتستانتية سعىت ” بضمير مرتاح للانتشار بين الشعوب الجرمانية كشكل من أشكال المسيحية الأكثر ملاءمة لهم. “(12)
عاجلا بما فيه الكفاية ، فان كلمات شلايرماخر تلك حول حاجة الأمة الألمانية للوحدة الروحية اخذت شكلا سرديا على يد ليوبولد فون رانكه ،المؤرخ الأوسع قراءة على نطاق واسع لألمانيا القرن التاسع عشر ، وربما يمكنني ان أضيف ، ولأوروبا. في عمله الرئيسي الثاني ، ” التاريخ الألماني في عصر الاصلاح “، رانكه يقول ما الذي كان ينبغي على الاصلاح البروتستانتي ولم ينجزه من اندماج الهوية الثقافية والدولة الألمانية. لقد بدأ من لحظة التقاء قصيرة بعد فترة وجيزة من عام 1500 بين حركتين منفصلتين هما حركة الوحدة القومية وحركة لإصلاح الديني ، واللتين كانتا موحدتين برغبة مشتركة لكل منهما في التحرر من روما. في هذه اللحظة – ويعني رانكه عام 1521 ، عندما انفجر “لوثر” في الرأي العام – “أهم شيء بالنسبة لمستقبل الأمة الألمانية هو ما إذا كانت الأمة ستنجح في الابتعاد عن البابوية دون ان تعرض للخطر كلا من الدولة ومن ثقافتها المكتسبة ببطء وألم “(13). مهمة لوثر العامة انطلقت مع أعظم التوقعات للاندماج بين الحركة السياسية القومية وحركة الإصلاح. بالكاد بعد عامين ، في عام 1523 ، خرب التاريخ بوحشية امل التجديد الوطني هذا. “قبل أي نوع من الدستور الجديد للبروتستانت يمكن حتى أن يتخيلوه ، “كتب رانكي”، نشهد ظهور تنظيم المعارضة لصالح الهيئة الكاثوليكية ، والذي يحمل مغزى خطيرا بالنسبة لمصير بلدنا “. (14) من هذه النقطة فصاعدا ، فان المقاومة الكاثوليكية ، التي وقفت وراءها روما ، منعت تحقيق الإصلاح كمهمة وطنية وبالتالي حرمان الألمان من التوحد القومي سواء بالمعنى السياسي او الديني . وكان رانكه يؤمن أن ” انتصار النظام البروتستانتي في كل ألمانيا كان سيعتبر أفضل شيء بالنسبة للتطور الوطني لألمانيا “. (15) ولكن هذا لم يحدث ، وهزيمة الإصلاح من قبل روما وعملائها الألمان قد حكمت على الأمة الألمانية بالانقسام الداخلي وضعف مناعتها أمام خصومها الأجانب خلال الـ 300 سنة التالية.
بعض الأشخاص أكثر حظاً من الآخرين ، وكان رانكي محظوظاً جداً. لقد عاش طويلا بما يكفي لرؤية التاريخ وهو يقوم بتصحيح ما كان قد اخطأ به في القرن السادس عشر. في هذا الضوء شاهد رانكي ، وهو في السبعينات من عمره ، الحدثين الذين وقعا معا في سنة 1870 الإعجازية . فمن ناحية ، جعلت هزيمة فرنسا ان من الممكن توحيد المانيا تحت بروسيا. ومن ناحية اخرى فان قرار الفاتيكان حول العصمة البابوية جعلت من الضروري ، كما ظن رانكه ، ان تنتهي 350 سنة من التعايش الديني في ألمانيا. ” لان البروتستانت قد يقولون بثقة ، كما كتب رانكي ببراعة : ” هذه النتيجة كانت قرارا ربانيا ضد ادعاء البابا بأن يكون المفسر الوحيد للإيمان على الأرض وللسر الإلهي “. (16)
– 2 –
لقد رأى العديد من المواطنين البروتستانت في المانيا الجديدة رؤية رانكي (17) وقد بدت هذه مجرد خطوة طبيعية لاستكمال الانتصار العسكري على فرنسا مع النصر في “النضال من أجل الحضارة”، أو الكفاح الثقافي / Kulturkampf / ضد روما. (18) هذه الحملة لم تمثل انتصار بسمارك على الليبراليين الألمان ، كما يزعم في بعض الأحيان ، لأنها ، اذا استخدمنا كلمات ديفيد بلاكبورن ” ترمز أفضل من أي شيء آخر لما كان يريده أنصار التقدم” (19) وكما احتفلوا بالنصر التاريخي المزدوج على فرنسا وروما ، فان عاهل ألمانيا شاركهم فرحتهم. الامبراطور فيلهلم كتب الى اللورد جون راسل ، وهو عميد معمر للبرلمانيين البريطانيين ، انه كان معنيا بشن الحرب على ” السلطة التي لا تعتبر سيادتها على أي بلد في العالم كله متوافقة مع حرية ورفاهية الأمم ؛ حربا ضد القوة التي، إذا كانت منتصرة في أيامنا هذه ، فانها سوف تشكل تهديدا ، ليس فقط لألمانيا ، بل ولبركات الإصلاح ، وحرية الضمير ، وسلطة القوانين..أقبل الآن المعركة التي وضعت على عاتقي”. (20) ولا يزال هناك شيء مستمر من الغموض حول لماذا اساء هذا الملك استخدام حكمه بشكل سيء للغاية لاستعادة تشكيل ولاء ثلث رعاياه. بلغ الهجوم البهيج على روما نقطة عاطفية عالية في يوبيل لوثر لعام 1883 ، والذي افترض طابعا لنوع من عيد ميلاد متأخر لألمانيا الجديدة . (21) المؤرخ هاينريش فون ترايتشكه – وهو ساكسوني مثل رانكه (22)- أعلن أن ” التقسيم الطائفي اقترب من نهايته. لأن الكنيسة الرومانية قالت كلمتها النهائية على العصمة البابوية ، ونحن نشعر بألم اكثر من أي وقت مضى من الشرخ الذي يفصل بين أجزاء أمتنا. ولإغلاق هذه الشرخ ، وبالتالي لتنشيط المسيحية البروتستانتية مرة أخرى ، وذلك لكي تصبح قادرة على حكم أمتنا بأكملها – هذ واجب نقرّ به ، والذي ستكمله لاحقًا الأجيال. “(23) ولكن أسفا ، وبينما بدت لحظة الانتصار قريبة ، فقد انتزعها التاريخ بعيدا بدهاء ، تماما كما حدث في 1523. بل حتى كما تحدث ترايتشكه ، من ان النضال لأجل الحضارة ضد روما كان متعثرا ، أما بحلول عام 1887 فقد كان ميتا. وما هو أسوأ اتى بعد ذلك ، لأن المحنة مثل الحظ تبدو وكأنها تتغذى على نفسها فالفشل ضد روما تبعه فشل ثاني ضد شبيبة المانيا الاشتراكية الديمقراطية ، التي أضافت “إهانة إلى الجرح” ، لأنها قد شكلت نفسها إلى حد كبير من الجسد الاجتماعي للبروتستانت الالمان. بحلول أوائل تسعينات القرن التاسع عشر كان الابتهاج من الانتصار قد بدأ يفسح المجال في الدوائر البروتستانتية للشعور بعدم الارتياح. الفيلسوف فيلهلم دلتاي حذر زملاءه البروتستانت من أنهم عالقون بين نارين، الكاثوليكية والاشتراكية، و” الفقر الروحي” الخاص بهم هو ما جعلهم عرضة لخطرهما معا. “إنها ليست عناصر من المشاعر فقط ولكن أيضا أنظمتها الفكرية المتكاملة التي تعطي الاشتراكية الديمقراطية وما فوق المونتانية / مذهب مسيحي مبتدع / هيمنة لغرائزها على جميع القوى السياسية الأخرى في زماننا “24 كان ديلتي ببساطة يردد ذلك على الرغم من أنه أقل مباشرة ، لان مقولة بسمارك هي أن ” العنصرين معا ، المونتانية المتطرفة والاشتراكية ، ولدتا كعدوين لألمانيا “. (25) ومع ذلك ، لم يصب بورجوازيو المانيا ويلهلم البروتستانت بالذعر . لانهم تعلموا العيش مع هذا الشعور من الوقوع روحيا وسياسيا بين عدوين مثلما ان “دولتنا” ، كما أعلن بسمارك قبل قيام البيت البروسي في عام 1875 ، “هي الآن دولة بروتستانتية ” (26) ذلك كان السبب الحاسم الذي جعل رواية / من لوثر- الى بسمارك / قد أصبحت نمطا من الأرثوذكسية ولهذا ايضا فان الإصلاح ، في وعي البورجوازيين البروتستانت الألمان ، المؤمنين أو غير المؤمنين ، ” لم يكن أبداً بعيدا عما تحت سطح الخطاب التعليمي” (27) ورغم ان المانيا اهتزت من قسوة اعدائها ، فقد احتفظ السرد بقوته في وسط الحرب العالمية الأولى ، في خدمة ما هو موضع التقدير كحجة على القيمة العليا للحضارة الألمانية (28). ومع ذلك ، فإن حظوظ الحرب معروفة ، غير مأمونة وقاسية والشعور بهلاك وشيك يميل إلى تشجيع إعادة تثمين الطرق الموثوقة للربط بين الماضي والحاضر. هذا النوع من إعادة التفكير بدأ في ألمانيا بحلول عام 1917 – وهو عام يوبيل آخر للإصلاح – عندما بدأت الشقوق تظهر في رواية / من لوثر- الى بسمارك / . (29)
يمكننا معاينة بعض منها في كلمة اليوبيل من قبل ايريك ماركس ، وهو مؤرخ ساكسوني آخر ومؤيد مخلص لرانكه والذي كان إيمانه بالرواية القديمة اهتز بشدة بسبب الحرب. (30) وقد اقترح رؤية جديدة لدور الاعترافات ، وتشكيل أكثر دقة وانضباطا عابرا للمجتمعات الدينية ، في نهضة ألمانيا الحديثة ، رؤية لا تقوم على العداء ولكن على التعايش المثمر. “كلا هذين الحزبين العريقين ، عظيمان ، بل ربما أعظم الأحزاب الروحية ” قال ، وانه يجب العيش في المستقبل” في إطار كامل ، هو الذي جاء بها اليوم هي نفسها بشكل رائع ولا يقاوم ، واعني الأمة والوطن “. (31)
وبعيداً عن كونه مجرد لعنة على ألمانيا ، شعر ايريك ماركس ، أن الانقسام الديني التاريخي قد أعد الألمان للتوحيد الوطني لأنه “ربط البروتستانت معاً في جميع أنحاء ألمانيا ، والكاثوليك أيضًا ، [وأصبح ،] بشكل مفاجئ مثلما قد يبدو هذا، قوة موحدة. ولاية فيرتنبورغ و ساكسونيا ، بافاريا و كولونيا وقفت جنبا إلى جنب بشكل قوي ، وفي جميع الانقسامات ، القديمة والجديدة ، كان هناك أيضا تضامن جديد. ” (32) لم يكن الاعتراف بالانقسام نقيضا للوحدة الألمانية ولكن مجرد مرحلة واحدة على الطريق إلى ادراك سياسة بسمارك العظيمة. بالنسبة لرانكي كان هذا التقسيم هو وحش الظلمة / bête noir / للتاريخ الألماني ، وبالنسبة إلى ماركس فقد جاء ، في خضم الحرب العالمية الأولى ، ليس إلى تمثل الكارثة بل الى تمثل ” مضاعفة طريقة الحياة الألمانية ” (33)وبقدر ما هي مثيرة للاهتمام ، فانه يجب أن يقال أن تنقيحات ماركس لم يكن لها تأثير على الكتابة عن الاصلاح البروتستانتي في التاريخ الألماني (34)هزيمة ألمانيا في عام 1918 سلبت رواية / من لوثر الى بيسمارك/ معقوليتها تماما . وأصيب الاهتمام التاريخي بالإصلاح بالانهيار ولم ينهض لأكثر من أربعين سنة تالية. (35) فمع الحرب العظمى فان قصة ألمانيا “من لوثر لبيسمارك” ، والتي هيمنت ذات مرة على سردية كيف ولدت ألمانيا الحديثة، وصلت الى نهايتها. بالنسبة لجيرهارد ريتر ذلك كان يعني ” بلوغ النهاية لدور شعبنا في التاريخ العالمي ” (36)
– 3 –
كان للاشتراكيين الوطنيين استخداماتهم لمارتن لوثر ولكن ليس لإصلاحه ، وقد أدى تأثير نظامهم على الكتابة التاريخية إلى تعميق المنفى البروتستانتي الطويل من قصة التاريخ الألماني. أدى تحطيم ألمانيا إلى نشوء المانيتين في عام 1949 ، ومع مرور السنين ، حتى أوائل الستينيات من القرن الماضي ، كان الاصلاح البروتستانتي ما يزال قائماً ، صامتاً مثل شبح بانكو ، على مائدة التاريخ الألماني (37). وكموضوع أصبح غير موضع ملاحظة مما حدا في أوائل الستينات من القرن العشرين بتحرك مؤرخ الكنيسة بيرند مولر ليشكو من ان تاريخ الإصلاح قد فسد وانحل إلى ما أسماه ” تمرينا اثريا قديما” 38 في هذا الوقت كان هناك شيء مثير ، ليس في ألمانيا مولر ولكن أبعد نحو الشرق ، حيث كانت جمهورية المانيا الديمقراطية او المانيا الشرقية (GDR) تبحث عن هوية وطنية. الحاجة إلى أرضية لهذه الهوية تاريخيا خلق أول مكان جديد للإصلاح البروتستانتي في رواية ما بعد الحرب عن التاريخ الألماني (39) وقد جاءت ولادة الاعلان في أوائل عام 1961 في مدينة Wernigerode في تورينغن ، على مسافة قصيرة جدا من دراسة موللرفي غوتنغن. مؤرخ لايبزغ Leipzig ماكس شتاينميتز قدم قائمة من الأطروحات – ليست خمسة وتسعون* ولكن مجرد ثلاثين – عن الاصلاح الالماني. وبعد سابقة فريدريك إنجلز قبل قرن من الزمن ، أدرج شتاينميتز الإصلاح في ما أسماه “الثورة البرجوازية المبكرة “(40) ساعيا بذلك إلى تضمين الإصلاح ، كما قال ، في ” تحليل مقنع للوضع الاقتصادي والطبقات الاجتماعية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة ” بجعله جزءًا من حركة أكبر استمرت من عام 1476 حتى عام 1535. عند أعلى نقطة في الحركة يقف ليس لوثر ، الذي خان الشعب العادي ، لكن اللاهوتي توماس مونتزر. في أطروحات شتاينميتز ، جاء الاصلاح البروتستانتي مرة أخرى ليقف عند نقطة تحول في التاريخ الألماني
على مدى اكثر من عقدين تاليين فان تفسير الإصلاح الألماني كثورة برجوازية مبكرة اصبح واحدا من أكثر المفاهيم تميزًا في البحوث الدراسية التاريخية في المانيا الشرقية . (41) من وجهة نظر حقبتنا يمكن أن تبدو الى اي حد كانت فكرة رانكه رائعة، مع حكايتها تلك عن حركة وطنية لاقت في وقت مبكر ، مقاومة شديدة ، تلاها الانهيار السريع. و قد يقول قائل أن شتاينميتز قام بتركيب المحرك الماركسي عن الصراع الطبقي في عربة رانكي الفخمة عن الاصلاح البروتستانتي باعتباره ثورة وطنية ألمانية فاشلة. ومع ذلك ، كان هناك اختلاف : فما فشل في عام 1525 ، كتب شتاينميتز، كان “أول محاولة من الجماهير الشعبية لإنشاء دولة قومية موحدة تأتي من الأسفل “(42)وهذا بالتأكيد لم يكن رانكه ، وذلك كما قال ماركس عن هيغل ، فان شتاينميتز وجد رانكه واقفًا على رأسه وأعاد ايقافه على قدميه. على الرغم من المكانة القانونية التي اكتسبها في علم التاريخ الألماني الشرقي ، فان مفهوم شتاينميتز اعتبار الإصلاح كثورة برجوازية مبكرة أثبت عدم استقراره. وسرعان ما بدأ المؤرخون ، وبعضهم من طلابه ، في إخضاعه إلى نقد ثلاثي: أولا ، رفضوا مطابقة شتاينميتز لبورجوازيي ما قبل الحداثة كمؤسسين للبرجوازية الحديثة ؛ ثانيا ، دمجوا الإصلاح الألماني في التاريخ الأوروبي من خلال نظرية الثورات الاجتماعية وثالثا ، طوروا ادراكا جديدا لدور الدين في الإصلاح الألماني(43) هذه التنقيحات وصلت إلى ذروتها خلال يوبيل لوثر عام 1983 ، والتي أعادت مارتن لوثر والإصلاح إلى مكان إيجابي في السرد الرسمي للتاريخ الألماني (44) ومع ذلك ، كان مكانًا مقيَّدًا بشدة بالحاجة إلى تحديد نسبة كل شيء في التاريخ. “فهمنا للتاريخ ، أيضا ” كتب أحد كبار الباحثين في المجلة التاريخية الأولى في جمهورية ألمانيا الديمقراطية ، ” يجب تأريخه “45 وهو تقريبا ما قاله إريك ماركس في عام 1917 عن الانقسام الطائفي لألمانيا.
عبر الحدود في ألمانيا الغربية، أيضا، كان عام 1960 هو وقت التراجعات الفكرية والبحثية الجديدة. على الرغم من أنهم استخدموا مفاهيم مختلفة فانه هنا، أيضا، بدأ المؤرخون ايضاح فضاء الاصلاح البروتستانتي في رواية التاريخ الألماني. وعلاوة على ذلك، وهذا لايفاجىء دارسا للعلاقات الألمانية – الألمانية فان تفكيرهم مال إلى التلاقي مع افكار الألمان الشرقيين. بالسير عبر نفس أرضية التاريخ الألماني ما قبل العصر الحديث ، التي تحررت الآن من العبودية الطويلة لقصة صنع بروسيا ، فانهم اعادوا اكتشاف الإمبراطورية الرومانية المقدسة، الإطار إلى ما دعوه الاصلاح البروتستانتي لحياة جديدة. ومثل الألمان الشرقيين، لم يضعوا الإصلاح اساسا في نشأة العصر الحاضر تلك المكانة في رواية من لوثر إلى بسمارك، ولكن في منتصف فترة تاريخية طويلة لما اسموه ” أوروبا القديمة “. وهم يقصدون فترة قرون بأكملها بين 1200 و ازمنة نابليون، عندما ألمانيا، مثل بقية أوروبا، نظمت اجتماعيا من قبل جماعات لها شرعية محددة ، ودعيت “مقاطعات”، بدلا من “طبقات” مصممة اقتصاديا وفق النوع الحديث. (46)في نهاية هذه الحقبة وقفت الثورة الثلاثية – الديموغرافية والصناعية ، والفرنسية – التي جلبت العصر الحديث. واستكمل هذ التحقيب قصة أوروبا ، حيث تم إعادة تشكيلها في فرنسا بقوة مدرسة التاريخ المرتبطة بالمجلة المعروفة باسم Annales. وليس من قبيل المصادفة ، أن توافقا تم أيضا مع إجماع واسع من المؤرخين الاجتماعيين حول متى بدأ العصر الحديث (47). عندما اطاحت هذه الريح الجديدة بالأجزاء البالية من الرواية القومية القديمة ، فإنها كشفت في التاريخ الألماني ما قبل الحديث عن شيء غريب للغاية. هنالك وضع لبلد قديم متداع هذا الذي أطلق على نفسه اسم “الإمبراطورية الرومانية المقدسة “. التعددية السياسية للإمبراطورية ، التي كانت موضع احتقار الرانكيين كسبب مؤسف وكدليل مخجل على الضعف الألماني ، أصبحت تعتبر الآن دليلاً مشرفاً على الحيوية السياسية الألمانية (48) في هذا الإطار وجد الاصلاح البروتستانتي مكانه الجديد في قصة التاريخ الألماني ، حيث ظهر أكثر فأكثر بأنه ليس بداية للحداثة بل كان تتويجا للتغيرات التي بدأت منذ القرنين الثالث عشر والرابع عشر.