مملكة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(صلوات الله وسلامه عليه)
*
عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ :
كُنْتُ أَنَا وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) .
فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) سَأَلَ رَبَّهُ مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ ، فَهَلْ مَلَكْتَ مِمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ شَيْئاً ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الْمُلْكَ فَأَعْطَاهُ ، وَإِنَّ أَبَاكَ مَلَكَ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَ جَدِّكَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ .
فَقَالَ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : نُرِيدُ تُرِينَا مِمَّا فَضَّلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ...
فَقَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِدَعَوَاتٍ لَمْ نَفْهَمْهَا ، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَوَقَفَتْ عَلَى الدَّارِ وَإِلَى جَانِبِهَا سَحَابَةٌ أُخْرَى ...!
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَيَّتُهَا السَّحَابَةُ ، اهْبِطِي بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ...
فَهَبَطَتْ وَهِيَ تَقُولُ : ﴿أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّكَ خَلِيفَتُهُ وَوَصِيُّهُ ، مَنْ شَكَّ فِيكَ فَقَدْ هَلَكَ ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِكَ سَلَكَ سَبِيلَ النَّجَاةِ﴾ .
ثُمَّ انْبَسَطَتِ السَّحَابَةُ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى كَأَنَّهَا بِسَاطٌ مَوْضُوعٌ .
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : اجْلِسُوا عَلَى الْغَمَامَةِ .
فَجَلَسْنَا وَأَخَذْنَا مَوَاضِعَنَا فَأَشَارَ إِلَى السَّحَابَةِ الْأُخْرَى فَهَبَطَتْ وَهِيَ تَقُولُ كَمَقَالَةِ الْأُولَى ، وَجَلَسَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَلَيْهَا مُفْرَدَةً ، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَأَشَارَ إِلَيْهَا بِالْمَسِيرِ نَحْوَ الْمَغْرِبِ ، وَإِذَا بِالرِّيحِ قَدْ دَخَلَتْ تَحْتَ السَّحَابَتَيْنِ فَرَفَعَتْهُمَا رَفْعاً رَفِيقاً فَتَأَمَّلْتُ نَحْوَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَ إِذَا بِهِ عَلَى كُرْسِيٍّ وَالنُّورُ يَسْطَعُ مِنْ وَجْهِهِ يَكَادُ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ...!
فَقَالَ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ مُطَاعاً بِخَاتَمِهِ ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا ذَا يُطَاعُ .
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَنَا عَيْنُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ، أَنَا لِسَانُ اللَّهِ النَّاطِقُ فِي خَلْقِهِ ، أَنَا نُورُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُطْفَأُ ، أَنَا بَابُ اللَّهِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ .
ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَتُحِبُّونَ أَنْ أُرِيَكُمْ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ؟
قُلْنَا نَعَمْ ...
فَأَدْخَلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَدَهُ إِلَى جَيْبِهِ فَأَخْرَجَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَصُّهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ : ﴿مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ﴾ .
فَتَعَجَّبْنَا مِنْ ذَلِكَ ... فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُونَ وَمَا الْعَجَبُ مِنْ مِثْلِي !!! أَنَا أُرِيكُمُ الْيَوْمَ مَا لَمْ تَرَوْهُ أَبَداً ...
فَقَالَ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أُرِيدُ تُرِينِي يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَالسَّدَّ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ .
فَسَارَتِ الرِّيحُ تَحْتَ السَّحَابَةِ ، فَسَمِعْنَا لَهَا دَوِيّاً كَدَوِيِّ الرَّعْدِ وَعَلَتْ فِي الْهَوَاءِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَقْدُمُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى جَبَلٍ شَامِخٍ فِي الْعُلُوِّ ، وَإِذَا شَجَرَةٌ جَافَّةٌ قَدْ تَسَاقَطَتْ أَوْرَاقُهَا وَجَفَّتْ أَغْصَانُهَا ، فَقَالَ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : مَا بَالُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَدْ يَبِسَتْ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : سَلْهَا فَإِنَّهَا تُجِيبُكَ .
فَقَالَ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ ، مَا بَالُكِ قَدْ حَدَثَ بِكِ مَا نَرَاهُ مِنَ الْجَفَافِ ؟!
فَلَمْ تُجِبْهُ .
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : بِحَقِّي عَلَيْكِ إِلَّا مَا أَجَبْتِيهِ .؟
وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ : ﴿لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ يَا وَصِيَّ رَسُولِ اللَّهِ وَخَلِيفَتَهُ﴾ . ثُمَّ قَالَتْ : ﴿يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ يَجِيئُنِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَقْتَ السَّحَرِ ، وَيُصَلِّي عِنْدِي رَكْعَتَيْنِ وَيُكْثِرُ مِنَ التَّسْبِيحِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ جَاءَتْهُ غَمَامَةٌ بَيْضَاءُ ، يُنْفَخُ مِنْهَا رِيحُ الْمِسْكِ وَعَلَيْهَا كُرْسِيٌّ فَيَجْلِسُ فَتَسِيرُ بِهِ ، وَكُنْتُ أَعِيشُ بِبَرَكَتِهِ ، فَانْقَطَعَ عَنِّي مُنْذُ أَرْبَعِينَ يَوْماً فَهَذَا سَبَبُ مَا تَرَاهُ مِنِّي﴾ ...
فَقَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَمَسَحَ بِكَفِّهِ عَلَيْهَا فَاخْضَرَّتْ وَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا ، وَأَمَرَ الرِّيحَ فَسَارَتْ بِنَا ، وَإِذَا نَحْنُ بِمَلَكٍ يَدُهُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْأُخْرَى بِالْمَشْرِقِ ، فَلَمَّا نَظَرَ الْمَلَكُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ : ﴿أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَصِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ حَقّاً وَصِدْقاً﴾ .
فَقُلْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَنْ هَذَا الَّذِي يَدُهُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْأُخْرَى بِالْمَشْرِقِ ؟!
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : هَذَا الْمَلَكُ الَّذِي وَكَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، لَا يَزُولُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ أَمْرَ الدُّنْيَا إِلَيَّ ، وَإِنَّ أَعْمَالَ الْخَلْقِ تُعْرَضُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَيَّ ثُمَّ تُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَى سَدِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ . فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِلرِّيحِ : اهْبِطِي بِنَا مِمَّا يَلِي هَذَا الْجَبَلَ . وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى جَبَلٍ شَامِخٍ فِي الْعُلُوِّ ، وَهُوَ جَبَلُ الْخَضِرِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، فَنَظَرْنَا إِلَى السَّدِّ وَإِذَا ارْتِفَاعُهُ مَدُّ الْبَصَرِ ، وَهُوَ أَسْوَدُ كَقِطْعَةِ لَيْلٍ دَامِسٍ ، يَخْرُجُ مِنْ أَرْجَائِهِ الدُّخَانُ .
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، أَنَا صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ .
فَرَأَيْتُ أَصْنَافاً ثَلَاثَةً طُولُ أَحَدِهِمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعاً ، وَالثَّانِي طُولُ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ ذِرَاعاً ، وَالثَّالِثُ يَفْرُشُ أَحَدَ أُذُنَيْهِ تَحْتَهُ ، وَالْأُخْرَى يَلْتَحِفُ بِهِ .
ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَمَرَ الرِّيحَ فَسَارَتْ بِنَا إِلَى جَبَلِ قَافٍ ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَإِذَا هُوَ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَعَلَيْهَا مَلَكٌ عَلَى صُورَةِ النَّسْرِ ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ الْمَلَكُ : ﴿السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَصِيَّ رَسُولِ اللَّهِ وَخَلِيفَتَهُ . أَتَأْذَنُ لِي فِي الْكَلَامِ﴾ ؟
فَرَدَّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَقَالَ لَهُ : إِنْ شِئْتَ تَكَلَّمْ وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَمَّا تَسْأَلُنِي عَنْهُ .
فَقَالَ الْمَلَكُ : ﴿بَلْ تَقُولُ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : تُرِيدُ أَنْ آذَنَ لَكَ أَنْ تَزُورَ الْخَضِرَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) .
قَالَ نَعَمْ . فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : قَدْ أَذِنْتُ لَكَ .
فَأَسْرَعَ الْمَلَكُ بَعْدَ أَنْ قَالَ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ .
ثُمَّ تَمَشَّيْنَا عَلَى الْجَبَلِ هُنَيْئَةً ، فَإِذَا بِالْمَلَكِ قَدْ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ بَعْدَ زِيَارَةِ الْخَضِرِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) .
فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، رَأَيْتُ الْمَلَكَ مَا زَارَ الْخَضِرَ إِلَّا حِينَ أَخَذَ إِذْنَكَ !
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : وَالَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بِغَيْرِ عَمَدٍ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَامَ أَنْ يَزُولَ مِنْ مَكَانِهِ بِقَدْرِ نَفَسٍ وَاحِدٍ لَمَا زَالَ حَتَّى آذَنَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ يَصِيرُ حَالُ وَلَدِيَ الْحَسَنِ وَبَعْدَهُ الْحُسَيْنُ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) وَتِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ (عَجَّلَ اللَّهُ تَعَالَى فَرَجَهُ) .
فَقُلْنَا مَا اسْمُ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِقَافٍ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : تَرْجَائِيلُ .
فَقُلْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، كَيْفَ تَأْتِي كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَتَعُودُ ؟!
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : كَمَا أَتَيْتُ بِكُمْ ، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنِّي لَأَمْلِكُ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا لَوْ عَلِمْتُمْ بِبَعْضِهِ لَمَا احْتَمَلَهُ جَنَانُكُمْ ! إِنَّ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ حَرْفاً ، وَكَانَ عِنْدَ آصَفَ بْنِ بَرْخِيَا حَرْفٌ وَاحِدٌ فَتَكَلَّمَ بِهِ فَخَسَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَرْضَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَرْشِ بِلْقِيسَ حَتَّى تَنَاوَلَ السَّرِيرَ ثُمَّ عَادَتِ الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفِ النَّظَرِ ، وَعِنْدَنَا نَحْنُ وَاللَّهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حَرْفاً وَحَرْفٌ وَاحِدٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، عَرَفَنَا مَنْ عَرَفَنَا وَأَنْكَرَنَا مَنْ أَنْكَرَنَا .
ثُمَّ قَامَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَقُمْنَا فَإِذَا نَحْنُ بِشَابٍّ فِي الْجَبَلِ يُصَلِّي بَيْنَ قَبْرَيْنِ . فَقُلْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَنْ هَذَا الشَّابُّ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : صَالِحٌ النَّبِيُّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، وَهَذَانِ الْقَبْرَانِ لِأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَإِنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ بَيْنَهُمَا .
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ صَالِحٌ لَمْ يَتَمَالَكْ نَفْسَهُ حَتَّى بَكَى ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَبْكِي ، فَوَقَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عِنْدَهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ .
فَقُلْنَا لَهُ مَا بُكَاؤُكَ ؟
قَالَ صَالِحٌ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ يَمُرُّ بِي عِنْدَ كُلِّ غَدَاةٍ فَيَجْلِسُ فَتَزْدَادُ عِبَادَتِي بِنَظَرِي إِلَيْهِ ، فَقُطِعَ ذَلِكَ مُذْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَأَقْلَقَنِي ذَلِكَ .
فَتَعَجَّبْنَا مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : تُرِيدُونَ أَنْ أُرِيَكُمْ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ؟
قُلْنَا نَعَمْ .
فَقَامَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَنَحْنُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ بُسْتَاناً مَا رَأَيْنَا أَحْسَنَ مِنْهُ وَفِيهِ مِنْ جَمِيعِ الْفَوَاكِهِ وَالْأَعْنَابِ وَأَنْهَارُهُ تَجْرِي وَالْأَطْيَارُ يَتَجَاوَبْنَ عَلَى الْأَشْجَارِ ، فَحِينَ رَأَتْهُ الْأَطْيَارُ أَتَتْ تُرَفْرِفُ حَوْلَهُ حَتَّى تَوَسَّطْنَا الْبُسْتَانَ ، وَإِذَا سَرِيرٌ عَلَيْهِ شَابٌّ مُلْقًى عَلَى ظَهْرِهِ وَاضِعٌ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ، فَأَخْرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) الْخَاتَمَ مِنْ جَيْبِهِ وَجَعَلَهُ فِي إِصْبَعِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَنَهَضَ قَائِماً وَقَالَ : ﴿السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَوَصِيَّ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَنْتَ وَاللَّهِ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ وَالْفَارُوقُ الْأَعْظَمُ ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَمَسَّكَ بِكَ وَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْكَ ، وَإِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَأُعْطِيتُ ذَلِكَ الْمُلْكَ﴾ .
فَلَمَّا سَمِعْنَا كَلَامَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، لَمْ أَتَمَالَكْ نَفْسِي حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى أَقْدَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أُقَبِّلُهَا ، وَحَمِدْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى جَزِيلِ عَطَائِهِ بِهِدَايَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيراً ، وَفَعَلَ أَصْحَابِي كَمَا فَعَلْتُ .
ثُمَّ سَأَلْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَرَاءَ قَافٍ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : وَرَاءَهُ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْكُمْ عِلْمُهُ .
فَقُلْنَا تَعْلَمُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟!
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : عِلْمِي بِمَا وَرَاءَهُ كَعِلْمِي بِحَالِ هَذِهِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَإِنِّي الْحَفِيظُ الشَّهِيدُ عَلَيْهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ، وَكَذَلِكَ الْأَوْصِيَاءُ مِنْ وُلْدِي بَعْدِي .
ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنِّي لَأَعْرَفُ بِطُرُقِ السَّمَاوَاتِ مِنْ طُرُقِ الْأَرْضِ ، نَحْنُ الِاسْمُ الْمَخْزُونُ الْمَكْنُونُ ، نَحْنُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي إِذَا سُئِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا أَجَابَ ، نَحْنُ الْأَسْمَاءُ الْمَكْتُوبَةُ عَلَى الْعَرْشِ وَلِأَجْلِنَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ ، وَمِنَّا تَعَلَّمَتِ الْمَلَائِكَةُ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ وَالتَّوْحِيدَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ وَنَحْنُ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ فَتابَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَتُرِيدُونَ أَنْ أُرِيَكُمْ عَجَباً ؟!
قُلْنَا نَعَمْ !
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : غُضُّوا أَعْيُنَكُمْ .
فَفَعَلْنَا ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) افْتَحُوهَا . فَفَتَحْنَاهَا فَإِذَا نَحْنُ بِمَدِينَةٍ مَا رَأَيْنَا أَكْبَرَ مِنْهَا ، الْأَسْوَاقُ فِيهَا قَائِمَةٌ وَفِيهَا أُنَاسٌ مَا رَأَيْنَا أَعْظَمَ مِنْ خَلْقِهِمْ عَلَى طُولِ النَّخْلِ !
قُلْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟!
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : بَقِيَّةُ قَوْمِ عَادٍ ، كُفَّارٌ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ إِيَّاهُمْ وَهَذِهِ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا أُرِيدُ أَنْ أُهْلِكَهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ .
قُلْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، تُهْلِكُهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ؟!
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَا بَلْ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ .
فَدَنَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مِنْهُمْ وَتَرَاءَى لَهُمْ ، فَهَمُّوا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَنَحْنُ نَرَاهُمْ وَهُمْ يَرَوْنَ ... ثُمَّ تَبَاعَدَ عَنْهُمْ وَدَنَا مِنَّا وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى صُدُورِنَا وَأَبْدَانِنَا وَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ لَمْ نَفْهَمْهَا وَعَادَ إِلَيْهِمْ ثَانِيَةً حَتَّى صَارَ بِإِزَائِهِمْ وَصَعِقَ فِيهِمْ صَعْقَهً .!
لَقَدْ ظَنَنَّا أَنَّ الْأَرْضَ قَدِ انْقَلَبَتْ وَالسَّمَاءَ قَدْ سَقَطَتْ وَأَنَّ الصَّوَاعِقَ مِنْ فِيهِ قَدْ خَرَجَتْ !!! فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ أَحَدٌ .!
قُلْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَا صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ ؟!
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : هَلَكُوا وَصَارُوا كُلُّهُمْ إِلَى النَّارِ .
قُلْنَا هَذَا مُعْجِزٌ مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا بِمِثْلِهِ !!!
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَتُرِيدُونَ أَنْ أُرِيَكُمْ أَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ ؟!
فَقُلْنَا لَا نُطِيقُ بِأَسْرِنَا عَلَى احْتِمَالِ شَيْءٍ آخَرَ ! فَعَلَى مَنْ لَا يَتَوَالاكَ وَلَا يُؤْمِنُ بِفَضْلِكَ وَعَظِيمِ قَدْرِكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَعْنَةُ اللَّهِ وَلَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
ثُمَّ سَأَلْنَا الرُّجُوعَ إِلَى أَوْطَانِنَا .
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَفْعَلُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَأَشَارَ إِلَى السَّحَابَتَيْنِ فَدَنَتَا مِنَّا فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : خُذُوا مَوَاضِعَكُمْ .
فَجَلَسْنَا عَلَى سَحَابَةٍ وَجَلَسَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَلَى الْأُخْرَى وَأَمَرَ الرِّيحَ فَحَمَلَتْنَا حَتَّى صِرْنَا فِي الْجَوِّ ، وَرَأَيْنَا الْأَرْضَ كَالدِّرْهَمِ ثُمَّ حَطَّتْنَا فِي دَارِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفِ النَّظَرِ ، وَكَانَ وُصُولُنَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ وَكَانَ خُرُوجُنَا مِنْهَا وَقْتَ عَلَتِ الشَّمْسُ ، فَقُلْنَا بِاللَّهِ الْعَجَبُ كُنَّا فِي جَبَلِ قَافٍ مَسِيرَةَ خَمْسِ سِنِينَ وَعُدْنَا فِي خَمْسِ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ ؟!
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَوْ أَنَّنِي أَرَدْتُ أَنْ أَجُوبَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا وَالسَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَأَرْجِعَ فِي أَقَلَّ مِنَ الطَّرْفِ لَفَعَلْتُ بِمَا عِنْدِي مِنِ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ .
فَقُلْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنْتَ وَاللَّهِ الْآيَةُ الْعُظْمَى وَالْمُعْجِزُ الْبَاهِرُ بَعْدَ أَخِيكَ وَابْنِ عَمِّكَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) .
*
المصدر : (المحتضر : ص71- 76.)