حول اشكالية مصدر الأخلاق .. الإنسان أم الأديان؟
دائماً ما تُطرح هذه الأشكالية بين فريقين .. فريق المتديّنين وفريق غير المتديّنين .. وبينهما فريق متنوّع من بعض المثقفين والكتاب والناس العاديين، تجدهُ متأرجح بين هذا الفريق أو ذاك ..!
ويجري الجدال تحت عنوان رئيسي: ماهو مصدر الأخلاق ..؟ فريق يقول الدين مصدر الأخلاق ولولاه (لخربت الدنيا) وعاش المجتمع بلا ضوابط أخلاقية وبالتالي سيحّل الفساد والتعرّي والأعتداءات الجنسية والأغتصابات وما ألى ذلك ..! والفريق الآخر ينتفض ويُحاجج بقوة بأن الأخلاق وجِدت قبل الأديان ..!
سأتناول هذا الموضوع بشكل مُبسّـط بعيداً عن الطروحات الفلسفية وآراء أفلاطون أو سقراط أو أبن خلدون وديكارت ونيتشة أو دوركهايم .. وما شابهَهم من المفكرين الكبار، حتى لا نُـعقّد الموضوع على القارئ الكريم ..!
-----
الملامح الأولية لفكرة (الأخلاق) بدأت مع الأنسان القديم قبل حوالي عشرة آلاف سنة .. لكن لأنهُ لم يكن هناك تدوين وكتابة، وصلتنا المعلومات من أنسان قبل حوالي خمسة آلاف سنة .. أي قبل ظهور الأديان وبالخصوص الأديان الأبراهيمية (اليهودية / المسيحية / الأسلام) ..!
بدأ الأنسان القديم يتحسَّـس بفطرتهِ وشعورهِ الداخلي أن هناك شئ خطأ وشئ صح .. أو شئ مَحمود وشئ مَكروه .. ووصل الى قناعة يقينية أن القتل مثلاً هو شئ خطأ ومكروه .. وأن السرقة عمل خاطئ .. وأن رعاية الأبوين شئ صح ومَحمود .. أو مساعدة الآخرين شئ حَسِن ومَحمود .. وهكذا باقي السلوكيات البدائية الأخرى ..!
فبدأ يتشكّل في هذه المرحلة (الضمير) عند الأنسان، وهو هنا الضمير الشخصي للفرد، حينَ حصَلَ فرز نفسي في داخلهِ أن هذا السلوك الفلاني صحيح ومرغوب وأن ذاك العمل الفلاني مكروه وخطأ، بالطبع دون أن يكون حينها أي عقوبات أو روادع سوى ذاتهُ الخاصة ..!
و حين خرجَ هذا الأنسان من كهوفهِ ومجالهِ المحدود بعدد الأفراد الذين يعيش معهم .. الى التفاعل مع الجماعة نتيجة الأستقرار قرب مصادر المياه كالبحيرات والأنهار والعمل بالزراعة، كان (ضميرهُ) الفردي قد وضعَ الأساس الأوّل لمنظومة الأخلاق .. وعندما بدأت علاقته بالأخر خارج نطاق العدد الضيّق الذي بدأ به، بدأت تعاملاتهِ تتسّع نتيجة تنوّع الأنشطة المُستحدَثة من الأستقرار والزراعة ونموّ فعالية تدجين الحيوانات وتربيتها .. وما أحدَثـتهُ هذا الأنشطة من توفّر (ثروة فائضة) كان لابد أن يتصرّف بها سواء بطريقة الأقراض للأخر أو التخزين، فبرزت في حياتهِ تعاملات جديدة كالديون والتبادل السلعي والمُقايضة والمشاركة مع الآخر في أعمال مشتركة ..ألخ
أنتقلت ملامح (ضميرهُ) الشخصي بكل ما ترسّـبَ فيه مِن مفاهيم مبسّطة عن (الأخلاق) الى ما نستطيع تسميتهُ (الضمير الجمعي) أي للجماعة .. هذه الأرضية أسّـسَـت لمنظومة أخلاقية بسيطة تعارَفَ عليها الناس في حينها دون توثيق أو عقد أو قانون أو منظومة حلال وحرام يُحاسب بموجبها المُخطئ أو المُعتدي أو الظالم .. بل أصبحَ أَشبَـه ما يكون بالعُرف الأجتماعي الذي يستنكر ويرفض السلوك الخطأ ويستحسن السلوك الجيّد ..!
يقول العالم الأمريكي والباحث في التاريخ (هنري بريستد) في كتابهِ (فجر الضمير) : وجدتُ برديّـة مصرية قديمة يعود تاريخها الى حوالي خمسة آلاف سنة مكتوب عليها نصاً : (كنتُ أفعل ما هو ممدوح وأتـجنَّـب ماهو مكروه ..!).. كذلك نجد في مسلّة حمورابي قبل ثلاثة آلاف وسبعمائة سنة من الأن .. أحدى المواد ألـ (282) مادة في المسلّـة تقول ما نصُّـه : (لو رجل ضرَبَ إمرأه حامل وبسبب ضربه لها مات الجنين فى بطنها، تُـقـتل بنت الرجل اللى ضرَب .. كتخليص لنار الامرأة الحامل ..!) .
نشأة الضمير عند الأنسان البدائي .. أدّت بدورها الى نشوء فكرة العُرف المجتمعي .. وبدورها أسّـسَـت لفكرة العدالة .. وفكرة العدالة تبلوَرت بالنتيجة الى قانون، نتيجة الحاجة الى عملية ضبط أجتماعي لسلوكيات الأفراد وعلاقـة الفرد بالفرد والفرد بالسلطة ..!
-----
سأتناول هنا جزئيّة واحدة من حياتنا الحاليّة لكنها مهمة في الرؤية لموضوعة الأخلاق، وأيضاً بعيداً عن التنظير الفلسفي ..! يحصل عند الكثيرين خلط في الرؤية لموضوعة الأخلاق وخصوصاً عند المتديّنين، أذ حين تُطرَح قضية الأخلاق ينصرف ذهنهم مباشرة الى (موضوع الجنس والتعرّي والأباحيّة) وكأن مفهوم الأخلاق ينحصر فقط في هذه النقطة، وهي ليست كذلك بالطبع ..!
ومن هذا الخلط أيضاً هناك مفارقـة معرفية من الضروري الأشارة لها .. أذ حين يجري النظر للبُعد الأخلاقي لمجتمع ما غير مجتمعنا، نقوم بتقييم ذلك المجتمع وفقاً لمعاييرنا وقياساتنا الأخلاقية .. وهذا خطأ جسيم لأنهُ لا يمكنني تقييم أخلاقيات المجتمع الدانماركي مثلاً بمسطرة ومعايير أخلاقيات المجتمع العراقي ..! فذاك مجتمع رسمَ لـنفسهِ منظومة أخلاقية توافق المجتمع عليها وأرتضاها الفرد الدانماركي .. وهنا منظومة أخلاقية أخرى تختلف تَعارفَ عليها المجتمع والفرد العراقي ..!!
يمكننا تقسيم القيـَم الأخلاقـية الى نوعين أو مُستويين:
- مستوى ثابت تشترك به جميع المجتمعات البشرية من الشرق الى الـغرب ومن الشمال الى الجنوب .. أي هناك قيم أخلاقـية أصبحت من صُـلب صفات البشر الأسوياء والطبيعيين، كالصدق، والنزاهـة، والعدل، والأمانـة، والشهامـة، والـنظافـة، ورفض الظـُلم ..ألخ أذ لا يمكن أن تجد شخصاً واحداً في العالم يقول لك : أن الصدق مثلاً قيمة أخلاقية سيّـئة أو أن صفة الأمانة صفة مذمومة ..!
هذه القيَم طـَرَحها الفكر البشري عِـبر مسيرتـهِ قبل الأديان .. ثم جاءت الأديان ومنها الأسلام لـتؤكـّـد في جوهـر رسالاتـها على عددٍ منها .. وفي الحقيقة لا تكاد تخلـوا منها أو بعضها أي نظرية أخلاقية أو فلسـفة أو دين ...!!
- مستوى مُتحرّك، نسبي، مُتغـيّر .. يعتمد على طبيعة المجتمعات، ونوعـية الموروث الأجتماعي والأعـراف والمفاهيم السائدة في كل مجتمع وطبيعة الرؤية للعلاقة بين الأفراد وبين الأفراد والسلطة ..! مثل النظرة الى المرأة، مُفردات السلوك المجتمعي اليومي كأحترام النظام والأنتظام في المُراجعات لدوائر الدولة، قيَم الشرف أو مفهوم الشرف، العلاقات الـبيـنيّة بين الأفراد كالأحترام أو الشتائم ..! القيم العشائرية، أحترام الرأي المختلف، والشجاعـة في قول الحق، أو أحترام العمل والوقت، أو القيم الدينية السائدة .. ألخ .
هـذه القيم تختلف من مجتمع لآخـر .. وما هو مقبول منها في مجتمع ما .. تجدهُ غير مقبول أو غير موجود في مجتمع آخـر .. كذلك في المجتمع الواحد نفسهُ قد تتغيّر بمرور الزمن لتصبح مرفوضة أو مقبولة في فترة زمنية أخرى ..!
فمثلاً قـيَم الفصل العشائري والنهوة تختفي وتعود في مجتمعنا لتصبح شيئ مُعتاد .. لكـنّها مرفوضة ومُـستهجنة في مجتمعات أخـرى .. أو مفهوم الشرف في مجتمعنا الـذي يرتبط بـعـفـّـة المرأة .. أي أن الرجل والعائلـة والعشيرة يرتبط شرفهم بـعـفـّة نسائهم .. بينما في مجتمعات أخـرى لكل فرد شرفـهُ الشخصي الخاص بـه سواء رجل أم امرأة، والذي لا يعتمد على العفّة .. بل على مدى أقترابهِ أو بُـعدهِ عن المستوى الأوّل من القيَم الثابتة التي وردَت أعلاه .. أي أن الصدق أو النزاهة مثلاً هي معيار الشرف هناك، بغضّ النظر عن السلوك الجنسي للفرد أو نوعية ملابس المرأة ..!
هيثم القيّم
منقول