لقد أسهمت العوامل التاريخيَّة في تعزيز علاقات القارة الإفريقيَّة خاصَّةً فترة انتشار الإسلام الذي منح الشعوب الإفريقيَّة رابطًا روحيًّا يتجاوز حدود الإقليميَّة والعنصر، وفي فترةٍ لاحقة أسهم الاستعمار الأوربِّي -بشكلٍ غير مباشر- في إعطاء الشعوب الإفريقيَّة قاسمًا مشتركًا لهويَّتها وتعميق معاني التواصل، وهو يتبلور بصورةٍ واضحةٍ في أيديولوجيَّات حركات التحرُّر الإفريقيَّة[1].
وأخيرًا تصاعدت روح التنافس والصراع من جديد تجاه القارَّة الإفريقيَّة من قِبَل الأوربيِّين بروح الحفاظ على مكاسب العلاقة الإفريقيَّة الأوربيَّة، التي انبنت في عهد الاستعمار وتبلورت في الوقت الحاضر في صراع القوى الكبرى.
العلاقات العربية الإفريقية:
علاقات العرب بالشعوب الإفريقيَّة قديمة قِدَم التاريخ، وتعود هذه العلاقات إلى أكثر من ألفي سنة، وربَّما كانت العلاقة التي ربطت بين إفريقيا وسكَّان الجزيرة العربيَّة أقدم من ذلك بكثير، وممَّا يُعزِّز هذا الاعتقاد، أنَّ إفريقيا ومنطقة شبه الجزيرة العربيَّة كانتا تُمثِّلان رقعة أرضيَّة واحدة حتى انشطرت الأرض لجزءٍ من الأخدود الإفريقي العظيم، وأصبح البحر الأحمر يفصل بين المنطقتين، وعلى الرغم من قيام هذا الحاجز المائي إلَّا أنَّه لم يحل دون الاتصال البشري، إلى جانب ذلك المنفذ تم التواصل بين المنطقتين عن طريق شبه جزيرة سيناء وعن طريق باب المندب.
إنَّ هذه العلاقات القديمة توثَّقت وتطوَّرت مع ظهور الإسلام، وذلك ابتداءًا من القرن السابع الميلادي؛ لقد مدَّ الإسلام العرب بسياج عقائدي، كما صارت اللغة العربيَّة الوعاء الثقافي للدين الجديد، وأدَّى ظهور الإسلام إلى دفع العلاقات بين العرب والشعوب الإفريقية إلى آفاق أرحب؛ فإلى جانب الصلات التجاريَّة والهجرات البشريَّة المتتالية والسابقة للإسلام، قَامَ العرب بدورٍ نَشِطٍ في نشر الإسلام في ربوع القارَّة الإفريقيَّة.
إنَّ الوجود العربي في إفريقيا سابق لانتشار الإسلام بها؛ فقد نقل المؤرِّخ الأميركي دونالد وادنر في كتابه (إفريقيا جنوب الصحراء): "إنَّ بعض البيض كانوا يحكمون وادي نهر النيجر في الفترة ما بين القرنين الخامس والثامن الميلادي، وبعد ذلك أتى حاكم من قبيلة (الماندينجو) يُدعى (سنينكي) فأسَّس أسرة حاكمة زنجيَّة".
كما وفدت إلى إفريقيا من ناحية الشرق شعوب من القوقازيِّين ينطقون باللغة الساميَّة، قادمين من جنوب شـــــبه الجزيرة العربية ومن مملكــــــة سبأ، وكان كثيـــــرٌ من التجَّار والمهاجرين يعبرون البحر الأحمر بصفةٍ مستمرَّة متَّجهين إلى مرتفعات الحبشة في الألف الأولى قبل ميلاد المسيح، ثم انتقلت مملكة سبأ وأقامت في القرن الرابع الميلادي مملكة أكسوم، كما أنَّ عددًا من البربر فضَّلوا الهجرة عبر الصحراء ليُقيموا إلى جانب شاطيء الأطلنطي، وقد أطلق هؤلاء البربر اسم قبيلتهم (صنهاجة) أو السنغال على النهر الذي كانوا يعيشون على امتداده.
ويُعتبر البكري أوَّل عربيٍّ يُشير إلى الأصول العربيَّة في مملكة غانا القديمة؛ إذ يقول في كتابه (المغرب في ذكر إفريقيا وبلاد المغرب): "وببلاد غانة قومٌ يُسمون بالهينهين، من ذريَّة الجيش الذي كان بنو أميَّة قد أنفذوه إلى غانه في صدر الإسلام، وهو على دين أهل غانة" هكذا!!
ومن بين الهجرات التي أثَّرت على التشكيلة السكانيَّة لمنطقة الساحل الإفريقي ما ذكره الدكتور إبراهيم علي طرخان في كتابه (إمبراطورية البرنو الإسلامية): "وقد غزت هذا الإقليم هجرات عربيَّة من الشمال الشرقي، من المجموعات التي استقرَّت في منطقة تشاد (مجموعة الكاتمبو)، وهي خليطٌ من قبائل الصو والبربر، التي لها صلة قويَّة بقبائل صو البربريَّة من سكان هضبة التبستي من ناحية فزان، ويُقال لهم القرعان.
وما أورده ابن خلدون يُشكِّل جزءًا من علاقة عربيَّة قديمة بمنطقة شمال إفريقيا؛ فقد بدأ التفاعل بين سكان سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي وشبه الجزيرة العربيَّة ومصر منذ آماد بعيدة، ترمز لها هجرات العرب العاربة، وكذلك بعثة الملكة المصرية "حتشبسوت" إلى بلاد بنت (punt) طلبًا للعطور والبخور قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، فتاريخ الصومال هو تاريخ التفاعل المستمر بين إفريقيا وشبه الجزيرة العربيَّة؛ إذ كانت الصومال هي الأسبق في استقبال الدعوة الإسلاميَّة، ومن المرجَّح أنَّ ذلك يعود لعلاقات الصومال القديمة ببلاد العرب، وبحكم وجود جاليات عربيَّة على ساحل الصومال منذ انهيار سد مأرب وما تلا ذلك.
أمَّا الوجود العربي بعد الإسلام فيُؤرِّخ له بهجرة الصحابة الأولى للحبشة في السنة الخامسة للبعثة؛ مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرةٍ في الإسلام.
العلاقات الإسلامية الإفريقية:
منذ أن دخل الإسلام إلى إفريقيا مع القوَّات الفاتحة بقيادة سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه في عام 639م، والإسلام ظل ملازمًا لتاريخ القارة الإفريقية على الرغم من تعدد العقائد وقتها بين وثنية ومسيحية؛ فالدولة الإسلامية في المدينة المنورة حينما بدأت عام 62م كانت المسيحية في إفريقيا متمركزة في مناطق محدودة في شمال إفريقيا، وبالتحديد في مصر وتونس وكوش وإثيوبيا.
ومنذ بداية الدعوة الإسلاميَّة اتَّخذت العلاقة مع مسيحيي إفريقيا طابعـــًا وديًّا فريدًا؛ فالمقوقس زعيم القبط المصريِّين ردَّ على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته للإسلام ردًّا جميلًا، وأرسل إليه هدايا، أمَّا نجاشي إثيوبيا فقد آوى أوَّل المهاجرين المسلمين إلى مملكته؛ حيث اشتدَّ بهم اضطهاد الكفار من قريش في بداية الدعوة، وقد حفظ المسلمون لمسيحي إثيوبيا ومصر هذا الجميل، وأوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته خيرًا.
وحينما وصلت جيوش المسلمين بقيادة سيِّدنا عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنه إلى مشارف مملكة كوش في عام (642م)، وقَّعوا مع ملك مملكة المقرَّة المسيحية معاهدة البقط الشهيرة التي كفلت للمسلمين حقَّ الإقامة والعمل في المملكة، وكفلت لها معونة من الأغذية والحصين مقابل قدر محدود من الرقيق والسلع، كلها كانت تُستعمل كنقود سلعيَّة في المملكة في الوقت نفسه، واستمرَّت العلاقات السلميَّة بين مصر المسلمة وكوش المسيحية لمدَّة ستَّة قرون دون أي صـدامات واعتداءات تذكر.
وفي أقل من قرن من دخول المسلمين إلى مصر كان الفتح الإسلامي قد شمل كلَّ الأراضي الإفريقيَّة شمال الصحراء، وتوغل الفاتحون في ليبريا، وفي ذلك الوقت كانت في جنوب الصحراء ممالك مسيحيَّة: كإثيوبيا وكوش في شرق الحزام السوداني، وأخرى وثنيَّة، مثل: غانا، ومالي، وصنغاي، وكانم في غرب وأواسط الحزام، وقد كانت بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء المسيحي والوثني علاقات تجاريَّة نشطة عن طريق القوافل العابرة للصحراء الكبرى، وعن طريق هذه العلاقات التجارية بدأت الدعوة الإسلاميَّة تصل إلى شعوب جنوب الصحراء، إلى أن بدأت الممالك في هذا الجزء من إفريقيا تتحوَّل إلى الإسلام منذ القرن الثالث الميلادي.
وكان لرحلة الحج فوائد كثيرة تركت علاقات مميَّزة في استمرار العلاقة بين غرب إفريقيا خاصَّةً ومركز العالم الإسلامي في مكة والمدينة المنورة، وقد أسهمت هذه الرحلة في تصحيح عقائد القبائل؛ فقد كان الحجيج يعود بعد أداء الفريضة وهم أكثر وعيًا وحماسةً لدينهم، بسبب ما كان يتمُّ من الدعاة المسلمين والعلماء والوعاظ في مكة والمدينة المنورة، كما أنَّ هذه الرحلة أصبحت وسيلة من وسائل الاتصال؛ فقد كانوا يتَّصلون بالعلماء والمهندسين يأخذونهم إلى بلادهم لتطوير الإدارة بها، ولرفع المستوى الثقافي والعمراني، ومن أمثلة ذلك: فقد سافر الساحل المعماري الأندلس مع منساموس؛ حيث شيَّد له مسجدين وقصرًا في جاوة وتمبكتو على الطراز الأندلسي، ممَّا جعل هذا الطراز هو الغالب في تلك البلاد.
الممالك الإفريقية الإسلامية
كان ظهور الممالك الإسلاميَّة في القارَّة متدرجًا عبر مراحل وخطوات، كان لكلِّ خطوة أو مرحلة دورٌ مهمٌّ في قيام هذه الممالك والأمارات، التي تولَّت فيما بعد عمليَّة نشر الإسلام والحضارة الإسلاميَّة في مختلف بقاع إفريقيا.
ولعلَّ الإشارة هنا إلى مرحلتين أو خطوتين كانت النتيجة النهائيَّة لهما هي نشوء هذه الممالك؛ وهما الرحلات التجاريَّة للتجار المسلمين بين القارَّة الإفريقيَّة والجزيرة العربيَّة، أمَّا الخطوة الثانية التي تمَّت في هذا الجانب وأسهمت في تكوين هذه الممالك، فهي الهجرات الكبيرة لبعض القبائل والجماعات المسلمة، التي حدثت في أوقات متفرِّقة صوب المناطق المختلفة للقارَّة الإفريقيَّة، وكانت حصيلتها مع حركة التجارة النشطة هناك هي هذه الممالك.
وكان أهم تلك الممالك الإسلامية هي ممالك الطراز الإسلامي، وهي سبع ممالك وهي أوفات والزيلع ومملكة دوارو ومملكة أرابيني ومملكة هدية ومملكة مشرفا ومملكة بالي وداره، ويبدو أنها كانت قبل القرن الثامن الهجري تحت حكم ملوك شوه ثم أوفات، ولكنها تمزقت في وحدات صغيرة لما حل بها في القرن الثامن الهجري على أيدي الأحباش المسيحيين، ثم توحدت بعد ذلك على يد الإمام أحمد القرين (912م-95هـ).
هكذا شهد الرحالة والمؤرخون الذين كتبوا عن تلك الممالك والأمارات في شرق إفريقيا أو تحدثوا في هذه الممالك الإسلاميَّة، وكذلك نوَّه الرحَّالة الأوربيُّون الذين زاروا هذه الأمارات بما كانت عليه من حضارةٍ ورقي؛ فقد لمسوا فيها مجتمعًا متحضِّرًا لا يقل عن المجتمع الأوربي في ذلك الوقت.
------------------
المراجع العربية:
1- أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، ج 5، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1977م، ص228.
2- أبو عبد الله البكري: المغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب، ص136، من سالم محمد المعلول، الممالك الإفريقيَّة ودورها في ترسيخ التعليم العربي الإسلامي في بلاد السودان، الندوة العلميَّة الدوليَّة.
د. إبراهيم محمد أحمد بلولة