لم يكن بالغريب أن تصل الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة إلى ما وصلت إليه من تقدُّمٍ معرفيٍّ وعلميٍّ في أوج عظمتها في العصور الوسطى؛ إذ كان الإسلام كدينٍ هو المحرِّك والباعث لهذه الطفرة الحضاريَّة التي لم تُضاهها أيٌّ من الحضارات المعاصرة آنذاك.



الحضارة الإسلامية والنهضة الأوربية

وكانت (اقرأ) أوَّل ما نزل من القرآن محفِّزة ورابطة بين العلم وبين الدين، ويعدُّ المؤرِّخون المعاصرون أنَّ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة هي الحلقة الأساسيَّة للنهضة الأوربِّيَّة الحديثة؛ ذلك أنَّ أوربَّا بعد سقوط الدولة الرومانيَّة الغربيَّة في أواخر القرن الخامس الميلادي، قد غطَّت لستَّة قرونٍ كاملةٍ في سُبَاتٍ علميٍّ وحضاريٍّ عميق، لم تستيقظ منه إلَّا مع مطلع القرن (الحادي عشر= الخامس الهجري)، لتجد نفسها غير قادرةٍ على التَّخاطب مع لغة العلم القديم المنقول عن اليونان، فعمدت إلى تراث العرب والمسلمين الذين نقلوا أصلًا هذا التراث العلمي من خلال الترجمة عن اليونان؛ حيث ترجم الأوربِّيُّون تلك العلوم إلى اللاتينيَّة لغة أوربَّا العلميَّة آنذاك.



المنشآت العمرانية شاهد على الحضارة الإسلامية

ونلقي تاليًا بالضوء على أبرز ملامح هذه النهضة الفكريَّة، وكيف عبَّرت عن ذلك عمرانيًّا في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة؟



لعلَّ ممَّا يشهد للحضارة الإسلاميَّة ومن أبرز خصائصها أنَّها كانت حضارة دين ودنيا؛ ذلك أنَّها بيَّنت سبل التقدُّم للأمَّة بالحضِّ على العلم، كما هذَّبت الأخلاق والنفوس، وكفلت بذلك للأمَّة أن تتفيَّأ ظلال بيئةٍ أبسط ما يُمكن وصفها أنَّها كانت ميسَّرة وآمنة، وأهمُّ من ذلك كلِّه أنَّ هذه البيئة لم تكن غايةً إنَّما كانت وسيلةً للعيش، بخلاف المنظور في الحضارات الأخرى التي عدَّت البيئة غايةً ومطلبًا نهائيًّا.

ولذلك فقد مثَّلت المنشآت العمرانيَّة بعض التعبير الحسِّي للمحتوى الحضاري والاجتماعي والفكري، الذي ساد في أيَّة فترةٍ من الفترات التي سادت فيها الحضارة الإسلاميَّة على مدى قرونٍ معيَّنة، ومن هنا، فإنَّ تتبُّع أيَّة فترةٍ تاريخيَّةٍ إنَّما يُمكن من خلال دراسة بعض أوجه التعبير العمراني للبيئة المبنيَّة.

وتمتاز لذلك الحضارة الإسلاميَّة بجملةٍ من المميِّزات أبرزها أنَّها حضارةٌ شاملةٌ متراكبة؛ إذ إنَّها لم تغفل عينًا عمَّا سبقها من الحضارات الأخرى التي كانت متقدِّمة في وقتها، ولذلك فلم تنسخها؛ إنَّما استفادت من العلوم القديمة وأعادت صياغة ما يُلائم عقيدتها منها بأسلوبٍ يتناسب مع مكانها وزمانها، وهذا بالضبط ما يتضمَّنه مفهوم الأصالة والمعاصرة، الذي تُعاني منه مختلف مناحي الحضارة العربيَّة اليوم، بيد أنَّ الفارق هنا هو أنَّ الحضارة الإسلاميَّة سابقًا كانت اليد العليا التي تُملي ما تأخذ وما ترد، فيما ليس هذا هو الحال اليوم مع العمارة والحضارة العربيَّة.

وكنتيجة لهذا المنهج الرائد في الحضِّ على العلم ودمج العلم والدين معًا، فقد تفجَّرت طاقات العرب المسلمين في أوج مدنيَّة وعظمة الحضارة، وتبلور عن ذلك طفرة علميَّة وعمرانية لم يشهد العالم القديم في العصور الوسطى لها مثيلًا، ونتجت عن ذلك مؤسَّسات عمرانيَّة كانت تعنى بشئون العلم، وقد عُبِّر عنها من خلال الدور والقصور والمساجد والمدارس والجامعات حيث كانت تجري حلقات الدرس، وساعد في ذلك تشجيع الأمراء والخلفاء والسلاطين، وهي من أهمِّ العوامل التي ساعدت على هذه الطفرة المتسارعة.



جامعات إسلامية أنارت العالم

وفي هذا الإطار برزت مجموعة من المؤسَّسات والجامعات التي أنارت للعالم القديم ظلمات الجهل والبيئة المبنية وما تزال منارات مضيئة إلى اليوم في تاريخ العرب والمسلمين، ومن هذه الجامعات ومعاهد الدرس المساجد على كافَّة نشأتها في التاريخ الإسلامي؛ كون المسجد كان أوَّل منار علمٍ للدراسة وإقامة الحلقات العلميَّة، ومن أقدمها المسجد الحرام بمكَّة، والمسجد النبوي بالمدينة؛ حيث تعلَّم المسلمون أصول دينهم وهُذِّبت أخلاقهم ونفوسهم.

كما توسَّعت حلقات الدرس المختلفة لتدريس الفقه في العصور العباسيَّة الأولى والثانية، ويروي التاريخ الرحلات في طلب العلم الشرعي التي كانت تشدُّ الرحال إلى المسجدين الشريفين للتلمذة على مالك بن أنس، وكذلك في العهود الإسلاميَّة المختلفة برز دور المسجد كجامعةٍ علميَّة، وكان المسجد الأقصى ببيت المقدس وفي ساحاته وأفنيته تُقام دروس العلم الشرعيَّة وعلوم اللغة العربيَّة وغيرها، وكذلك في غير الحرمين والأقصى مساجد عديدة، مثل: الجامع الأموي بدمشق، وجامع الكوفة، وجامع المنصور ببغداد.

وامتدَّ دور المسجد إلى أبعد من الجزيرة العربيَّة وبلاد الشام مع توسُّع الفتوحات الإسلاميَّة لتشمل مصر وشمال إفريقيا والأندلس؛ فقد أسَّس عمرو بن العاص الجامع الذي يحمل اسمه في مدينة الفسطاط جامع عمرو بن العاص، ويُشير المقريزي إلى حلقات العلم والدرس التي شهدها هذا المسجد.

أمَّا جامعة الأزهر بالقاهرة فلا تزال إلى اليوم منارة علمٍ وواحدةٍ من أقدم الجامعات الإسلاميَّة المعروفة التي توافد إليها طلاب العلم من أصقاع العالم الإسلامي القديم والمعاصر، وهناك جامع القيروان الذي بناه عقبة بن نافع، وهو من أكبر المساجد الجامعة، الذي يُعدُّ من أوائل المساجد الجامعة على مناطق الثغور التي أدَّت أكثر من وظيفةٍ واحدة؛ منها تعليميَّة تثقيفيَّة، ومنها حياتيَّة إيوائيَّة كونها على مدن رباط، واستمرَّ المسجد يقوم بوظائفه الرئيسة إلى أن انتقل التعليم الرسمي إلى جامعة الزيتونة في العام 555هـ بتونس.

وجامع الزيتونة بتونس هو من أهمِّ مساجد المغرب والجامعات الإسلامية قاطبة، وشهرته كجامعةٍ علميَّةٍ قديمة ماتزال تُدرَّس فيها علوم اللغة والتاريخ الإسلامي والفقه وغيرها.

وكذلك مسجد القرويِّين بالمغرب، وهو من أقدم الجامعات الإسلامية المعروفة أيضًا، ويُقارن بالأزهر بالقاهرة، وله أثرٌ بالغٌ في مساجد فاس كلِّها؛ إذ يُشكِّل نظامه الفريد طابعًا انتشر في كثيرٍ من مساجد فاس ومكناس ومراكش إلى اليوم، ولعلَّ أبرز ما يُميِّز تلك الجامعة العريقة هو النظام الذي عملت به منذ منتصف القرن السابع الهجري، وبذا كان لها السبق عن أوربَّا بمئات السنين، وهو نظام الكراسي العلميَّة؛ أي كرسي لمادَّة الفقه وآخر للغة وغيره للتفسير وهكذا، وشهد هذا المسجد المناظرات والحلقات العلمية التي قادت الحضارة لتقود العالم القديم الذي كان يغطُّ في سُبَاتٍ عميقٍ آنذاك، وحيث كانت أوربَّا تتخبَّط في ظلمات الجهل.

وأمَّا جامع قرطبة الذي شيَّده عبد الرحمن الداخل ببلاد الأندلس، فقد اشتهر منذ إنشائه بتفوق العلم والثقافة، وكان يضرب المثل بأهالي قرطبة في اقتناء الكتب والإقبال على العلوم والتعلُّم.

هذه بعض أبرز المعاهد العلميَّة والجامعات الإسلامية التي تمخَّضت عنها الحضارة العربيَّة الإسلامية بدرورها الريادي في قيادة العلم والأمم آنذاك.



عمارة وعمران الجامعات الإسلامية

وإلى جانب دور هذه المساجد والجامعات الإسلامية في العلم إبَّان العصور الوسطى المظلمة ثقافيًّا، فإنَّ عمارة وعمران هذه المساجد والجامعات تعكس ما وصلت إليه الحضارة العربيَّة من تقدُّمٍ في مختلف العلوم ومنها علوم العمران، وخلفت بذلك مآثر تجمع ما بين جمال وروعة البنيان، وأصالة ورسوخ العلم والمعرفة، كأقدم الجامعات العلمية العالمية المعروفة في الوقت الذي كانت أوربَّا تعيش في ركودٍ حضاريٍّ تام.

إذ تميَّزت العمارة المسجديَّة وعمارة المساجد الجامعة، وبرزت أنظمة الأواوين المحيطة بالصحن الداخلي للمسجد أو للمدرسة، حيث كانت تدرس مذاهب الفقه المختلفة.

كذلك شهدت العمائر للمدارس والمساجد التي كانت تُشكِّل مجموعة متكاملة؛ بها سكن للطلاب يعتكفون فيه للعلم وبخاصَّةٍ للقادمين من مناطق بعيدة، وشكَّلت عمارة المساجد والمدارس تكامليَّة ثنائيَّة؛ إذ اشتهرت المجموعات المعمارية التي تحوي أكثر من مبنى ذي وظيفيَّة واحدة وبخاصَّةٍ في العمارة التقليدية في مصر وشمال إفريقيا، وكانت غالبًا ما تضمُّ مسجدًا ومدرسةً وأحيانًا مستشفًى ونزلًا للطلبة، ومن الخارج يطلُّ سبيل ماء لعابري السبيل، ومقعد يشرف على الطريق حيث منابر العلم.



وهكذا جسَّدت الجامعات عمرانيًّا أوجه النشاط العلمي المختلفة التي سادت في الحضارة، وكان العلم ديدنًا ورائدًا وسبيلًا للتقدُّم والرقي وقيادة الأمم.

________________

جريدة الجزيرة السعودية، العدد (10901)، (جمادى الأولى 1423ه= أغسطس 2002م).
وليد أحمد السيد