لا يضيع المعروف اين وضع.
حكى القاضي يحيى بن اكثم قال: دخلت يوماً على هارون الرشيد وهو مطرق مفكر فقال لي: اتعرف قائل هذا البيت:
الخير ابقى وان طال الزمان به***والشر اخبث ما اودعت من زاد
فقلت: للرشيد ان لهذا البيت شأناً مع عبيد بن الأبرص، فقال: علي بعبيد، فلما حضر بين يديه قال: اخبرني عن قصة هذا البيت؟ قال: كنت في بعض السنين حاجا فلما توسطت البادية في يوم شديد الحر سمعت ضجة عظيمة في الففل لحقت اوله بآخره فسألت عن القصة فقال رجل من القوم: تقدم ترى ما بالناس، فتقدمت الى اول القافلة فاذا انا بشجاع اسود فاغر فاه كالجذع وهو يخور كما يخور الثور ويرغو كرغاء الابل، فهالني امره وبقيت لا اهتدي الى ما اصنع في امره فعدلنا عن طريقه الى ناحية اخرى فعارضنا ثانياً فعلمت انه ليث ولم يجتر احد من القوم ان يقربه، فقلت: أفدي هذا العالم بنفسي واتقرب الى اللّه تعالى بخلاص هذه القافلة من هذا، فأخذت قربة من الماء فتقلدتها وسللت سيفي وتقدمت، فلما رآني منه سكن وبقيت متوقعا منة وثبة يبلغني فيها فلما رأى القربة فتح فاه وجعلت فم القربة في فيه وصببت الماء كما يصب في اناء، فلما فرغت القربة تسيب في الرمل ومضى، فتعجبت من تعرضه لنا وانصرافه عنا من غير سوء لحقنا منه، ومضينا لحجنا ثم عدنا في طريقنا ذلك وحطينا في منزلنا ذلك في ليلة مظلمة مدلهمة فأخذت شيئا من الماء وعدلت الى ناحية من الطريق فقضيت حاجتي ثم توضأت وصليت وجلست اذكر الله سبحانه فأخذت عيناي النوم فنمت مكاني فلما استيقظت من النوم لم اجد للقافلة حساً وقد ارتحلوا وبقيت منفرداً ولم اهتد الى ما افعله واخذتني حيرة وجعلت اضطرب، واذا بصوت هاتف اسمع صوته ولا ارى شخصه يقول:
يا ايها الشخص المدل بركبه***ما عنده من ذي رشاد يصحبه
دونك هذا البكر منا فاركبه***وبكرك الميمون هذا فاجنبه
حتى اذا ما الليل زال غيهبه***فحط عنه رحله وسيبه
فنظرت فاذا أنا ببكر قائم عندي وبكري الى جانبي، فانخته وركبته وجنبت بكري فلما سرت قدر عشرة اميال لاحت لي القافلة وانفجر الفجر ووقف البكر، فعلمت انه قد حان نزولي فتحولت الى بكري وقلت:
يا ايها الركب قد انجيت من كرب***ومن هموم تضل المدلج الهادي
الا تخبرنا بالله خالقنا***من ذا الذي جعل المعروف في الوادي
وارجع حميداً فقد ابلغت مأمننا***بوركت من ذي سنام رائح غادي
فالتفت البكر الي وسمعته يقول:
اناالشجاع الذي الفيتني رمضا***والله يكشف ضر الحائر الصادي
فجدت بالماء لما ظن حامله***تكرما منك لم تمنن بانكادي
فالخبر ابقي وان طال الزمان به***والشر اخبث ما اوعيت من زاد
هذاجزاؤك مني لا امنّ به***فاذهب حميداً رعاك الخالق الهادي
فعجب الرشيد من قوله وامر بالقصة والأبيات فكتبت عنده