إن الشاب عندما يأتي إلى بيت من بيوت الله –عز وجل–، فإن رب العالمين يُباهي به الملائكة في هذه الساعة.. كم من الناس في غفلة ومشغولون بما يباعدهم عن الله –عز وجل–، وما هي نسبة هؤلاء الشباب بالنسبة للذين ليست لهم مثل هذه المحطة العبادية بين يدي الله –عز وجل–.. على المؤمن في ليلة القدر أن يهتم بالكيف لا بالكم، أي عليه بالتأمل والانقطاع إلى الله -عز وجل-.. يقول الإمام الصادق -عليه السلام-: (إذا اقشَعَرَّ جلدك، ودمعت عينك، ووجل قلبك.. فدونك دونك، فقد قصد قصدك)!.. هذا إذا كان لواحد في جوف الليل -مثلاً- فكيف إذا كانت مجموعة، ورقت قلوبهم، وجرت دموعهم؟.. وكيف إذا كان في ليلة القدر؟.. وكيف إذا كان في عزاء أمير المؤمنين؟.. وكيف إذا كان في بيت من بيوت الله؟.. وكيف إذا كان في شهر رمضان المبارك؟.. - إن الإنسان في ليلة القدر، عليه أن يعول كثيراً على تغيير منعطف الحياة.. رحم الله أحد علماء الأخلاق في حوزة قم المقدسة، كان له عبارة يقول فيها: (على أحدنا أن يغير مبدأ ميله).. كل كوكب له محور، وهو يدور حول هذا المحور.. إذا كان المحور قاطعاً، فالحركة الدورانية سُدى قد تضر أكثر مما تنفع.. ولو أن محور الميل الأرضي يختلف، اختلفت الأصول واقتربت من الشمس، وحدث ما حدث.. وكذلك فإن لكل إنسان محورا، يدور حوله في حياته.. هذا المحور قد يكون: مالاً، وقد يكون امرأةً، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (سيأتي على الناس زمان، بطونهم آلهتهم، ونساؤهم قبلتهم، ودنانيرهم دينهم...).. والمؤمن عليه أن يغير من هذا المبدأ.. هذه الأرض تدور حول محور، هذا المحور وهمي لا يُرى، ولكن البركات كلها في هذا المحور.
- إن المؤمن في ليلة القدر، لا يكتفي بأن يقوم بالإحياء المتعارف من: صلاة، وقراءة دعاء الجوشن، وغير ذلك.. بل عليه بالآداب الباطنية، لأنه بدون هذه الآداب، لا يتقدم أُنملة في حياته الروحية.
- إن ليلة القدر قوتها في مقام العبادة والأجر {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، و{خَيْرٌ} أي أكثر من ألف شهر.. وهذا يتوقف على مدى شغل العبد في زيارة المعصومين، أو في حج.. يقول العلماء: إن اختلاف الأجر، بحسب اختلاف طبيعة الزيارة: فزائر يُعطى حجة، وآخر يعطى أكثر، وهكذا إلى مليون حجة.. وفي ليلة القدر كذلك {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
- إن أفضل الأعمال في ليلة القدر، هو طلب العلم.. ليس المسائل الفقيهة: عن الغسل، وما شابه.. إنما العلم الذي يناسب هذه الليلة، العلم المورث للخشية.. أحد العلماء الأجلاء يقول: (كل علم لا يبكيك، لا ينفعك).. أي لابد أن يكون عاقبة العلم، هو البكاء أخيراً.. الذي هو الخشية كما يذكره القرآن.
- إن ليلة القدر {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، وفي تغيير جوهر الإنسان، يعني ليلة العبادة تساوي ألف شهر.. فألف عندما تقسم على اثني عشر شهراً، تعادل هذه العبادة عبادة ثلاث وثمانين سنة تقريباً.. والإنسان يمكن أن يحقق القرب من المولى، ذلك القرب الذي لا يتحصل في ثلاثة وثمانين سنة.. ولكن علامة القرب هي: أن نخرج من ليلة القدر الكبرى، -حيث أن شهر رمضان ينتهي بانتهاء ليلة القدر الأخيرة، لا يوم العيد.. فشهر رمضان بعد ليلة القدر الأخيرة يفقد وهجه ونوره السابق.. ولهذا يكره السفر في شهر رمضان، إلا بعد ليالي القدر- وقد وصلنا إلى مرحلة تغيير المحور؛ محور الدوران.. نعم، يستطيع الإنسان أن يغير محور حياته في ثلاث ليال.. إذا كان يريد ذلك، فعليه أن لا ييأس.. فمن الذي جعل هذه الكوكب بهذه الأطنان، تمر في حركة دائبة منتظمة؟.. هو الرب: رب الآفاق، ورب الأنفس، الذي حفظ هذه المجرات والكواكب.
- إن على الإنسان أن يطلب من الله -عز وجل- أن يحقق في نفسه هذه الآية: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}، لأنه إذا أصبح الإيمان محبباً ومزيناً في قلب الإنسان، تكون الصفقة قد تمت وانتهى الأمر.. فعندها يرى الإيمان ليس من باب التكليف، ولا خوفاً من نار جهنم، ولا خوفاً من الفضيحة الاجتماعية، ولا طلباً للحوائج.. -إن هناك أناسا يتدينون من باب: أن في التدين يأتي المال، وتأتي العزة- لا، ولكنه يرى الإيمان حبيباً إلى قلبه، فيتلذذ بالإيمان.. هناك صنف من الناس على وجه الأرض هذه الأيام، لو رفع عنهم تكليف الصلاة مثلا، مستحيل أن يترك الصلاة.. لأن الصلاة جميلة في قلبه، وليست قضية تكليف أبداً.
- إن النقطة الأولى الجوهرية ليلة القدر: أن نطلب من الله أن يحول إيماننا من إيمانٍ خوفيٍّ، ومن إيمانٍ رجائي.. إلى إيمان أمير المؤمنين -عليه السلام- (ربي!.. ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك.. ولكني رأيتك أهلا للعبادة، فعبدتك)، وكان يأتي إلى المسجد ويقول: (جلوسي في المسجد، أحبّ إليّ من جلوسي في الجنّة.. لأنّ الجلوس في المسجد رضا ربّي، والجلوس في الجنّة رضا نفسي.. ورضا ربّي أولى من رضا نفسي).. هذه موازين علي (ع) في التعامل!.. فلنغير من هذه الموازين، ولنخرج من ليلة القدر الكبرى، وقد تغيرت سجيتنا.. هذه الأيام أغلب المؤمنين يتركون الحرام: المواقع، والفضائيات، والنظر.. وبعد ليالي القدر، لا يميلون إلى ذلك.. ولكن بعد ذلك، فإنهم يعودون إلى ما كانوا عليه.. علينا أن نقاتل جنود الهوى، وجنود السلطان.. والإنسان عليه أن يصل إلى درجة، لا تدعوه نفسه للمعصية، ولا تهمه المعصية.
- إن هنالك في السنة محطات توسلية: مناسبة الفاطمية، ومحرم، وصفر، وعزاء أمير المؤمنين.. فلماذا لا يكون لدينا محطة مناجاتية؟.. فالقراءة الاسترسالية لدعاء الجوشن بشكل مملول منه، فهذه ليست محطة مناجاة إلهية.. إذ لابد أن تكون لنا وقفة كوقفة الحجاج في يوم عرفة، فالحج كله أعمال: سعي، ورجم.. ورب العالمين قال لهم: بالمقابل اجعلوا لي محطة، وتحدثوا معي.. فالرمي والسعي والطواف لا يوجد فيها أي روحانية!.. فهل تشاهدون أحدا يحكي في السعي، أو في الجمرات؟.. ولكن يوم الوقوف بعرفة هناك هدوء، لا يوجد أي عمل.. حتى إذا نام إنسان، شرعاً حجه صحيح.. يوم عرفة يوم وقفة، وليالي القدر أيضاً ليالي وقفة.
- إن على المؤمن أن يكون وفيا لإمام زمانه -صلوات الله وسلامه عليه- فـ(بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء).. هذه الليلة من لا صلة له بإمام زمانه، ومن لا يناجي في هذه الليلة ويطلب له الفرج، هناك شك في قبول عمله!.. كيف تنزل الملائكة على إمام زمانه في هذه الليلة، وهو لا يتوجه إليه بالخطاب، والحديث معه!.. {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، وهنا لا منافاة في البين، إذ قال تعالى في كتابه الكريم: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}، {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}، وفي آية أخرى يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، هو يتوفى وينسبه إلى ملك الموت، ورب العالمين هو الرازق، وهو الحافظ.. وعزرائيل ليس بأشرف من النبي وآل النبي (ص)، كما أن الموت وهي عملية معقدة، تجري على يد عزرائيل، وبإذن الله -عز وجل-.. فإذا قرأ أحدنا في الزيارة الجامعة الكبيرة: (وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّماءَ)، فهي على هذا النحو، أي على نحو {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}.
- لذاعلينا أن نتوجهإليه بالدعاء والفرج.. وإذا أدركتنا الرقة فلنقل له: يا مولاي!.. نحن الليلة دعونا لك بالدموع الجارية، ونحن في عزاء جدك أمير المؤمنين.. فكما دعونا لك، أنت أيضاً أدعوا لنا.. فالولد يدعو لأبيه، والأب يدعو لولده.. وكلنا أيتام آل محمد (نشكو إليك فقد نبينا)، والنبي (ص) قال: (أنا وعلي أبوا هذه الأمة).. فالإمام هو أبونا في هذا العصر، ونحن نعيش غيبته وفراقه، ونندبه في أيام الجمعة.. ونقول له: يا مولانا!.. هذه الليلة أنظر إلينا نظرة كريمة، لا لذواتنا بل لما نحمله من الحب لآبائك الطاهرين.. لو أن إنساناً جاء إلى إنسان يعزيه بأبيه، ومعه مشكلة مع أبيه وبينهما دم، أو حساب مالي.. أرأيتم صاحب مجلس يأخذ بتلابيب من يطلبه في عزاء أبيه؟.. أي كريم هذا؟!.. إنه منتهى اللؤم!.. إذا كان كرام الدنيا ليسوا كذلك، فكيف بأهل بيت الكرم، والذين كانوا يسامحون ويستغفرون لمن أخطأ بحقهم!..
منقول